أقلام وأراء

الإثنين 19 يونيو 2023 10:41 صباحًا - بتوقيت القدس

كيف حضرت الماركسية اللينينية في تجربة سياسية فلسطينية

الحلقة الثانية والاخيرة
هنا تجدر الإشارةُ إلى أمور ثلاثة:
أولاً: التناقضات الداخليّة: لقد فهمنا مبكّرًا المنظور الماركسيّ للتناقض الأساس والرئيس، والتناقضات الثانويّة والفرعيّة والآنيّة. وحدّدنا تناقضَنا الأساسَ مع المحتلّ، ورفضْنا إحلالَ الثانويّ محلّه. ومن الطبيعيّ، والحالُ هذه، عدمُ اللجوء إلى العنف في تسوية انشقاقات عام 69 و 72 [عن الجبهة الشعبيّة]، وأن يجرِّم الحكيم جورج حبش اللجوءَ إلى السلاح في اقتتال البقاع والبدّاوي عام 83، وأن ينتقد اقتتالَ غزة. كما أننا لم نستخدمْ تعابيرَ التخوين؛ فمن حقّ الجميع، ممن تعمّد بتضحيات الميدان والزنازين، التفكيرُ والاجتهاد، إذ لا أحد يحتكر الحقيقة. لقد بحثنا جميعًا عن الحقيقة، وتعلّمنا مبكّرًا من الديالكتيك أنّ كلّ شيءٍ مكوّنٌ من أ + ب وأنّ أ ذاتها مكوّنة من س + ص؛ أما الأرقى فهي ج التي تولد من جدليّة أ + ب. ولم نقبلْ، بالتالي، منطقَ الخير المطلق والشرّ المطلق؛ "ففي التناقض الحياةُ، وفي التماثل الموتُ" (مهدي عامل). على أنّ ذلك كلّه يحتكم في النهاية إلى قانون "المركزيّة الديمقراطيّة،" كما حضر في الوضع المعيّن، ومن دون نمذجةٍ أو تقليدٍ أعمى. أما صوابيّة الفهم فتدلّ عليها الفاعليّة والمنجَز.


ثانيًا: الدين: لقد تعرّضنا هنا لإطلاق نارٍ من كلّ الجهات، بما في ذلك الزنازين، بتهمة أننا "ملاحدة،" ومن دون أن يحاول المتّهِمون فهم رؤيتنا الفكريّة أو سببها. غير أننا كنّا نردّد أننا ضدّ كلّ اضطهادٍ قوميّ أو طبقيّ أو جنسيّ أو دينيّ (لينين)، وأنّ "على كلّ واحد أن يتمكّن من أن يقضي حاجاته الدينيّة والجسديّة من دون أن يحشر البوليسُ أنفَه فيها" (ماركس). أما على صعيد بنيتنا الداخلية، فقد كانت هناك أقليّةٌ تمارس طقوسَها الدينيّة بلا أدنى تدخّل. لاحقًا استخدمنا عبارة سبينوزا "الحساب الأخلاقيّ العمليّ للفكرة،" سواء أكانت دينيّة أمْ غير ذلك، فاهتممنا بمضمون انعكاس هذه الفكرة في الحياة لا غير، وتوصّلنا إلى أنّ الإيمان "مسألةٌ ضميريّةٌ شخصيّة." وتابعنا لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية ومرونة دينية في لبنان وغير لبنان أما برنامجنا السياسيّ ونظامنا الداخليّ فهما يخلوان من هذا السؤال الفلسفيّ الإشكاليّ.

وفي بدايات التمرّد الثوريّ قرأنا كتابَيْ صادق جلال العظم (النقد الذاتيّ بعد الهزيمة، ونقد الفكر الدينيّ)، وقرأنا الكثيرَ في ميدان الأنثربولوجيا ودور البشر في إنتاج حضارتهم، ولم نقبل التفسيراتِ التي نظّرتْ لهزيمة حزيران على أنها عقابٌ من السماء وأنّ شهداءَ الثورة ليسوا شهداء. وفي مرحلةٍ متقدّمةٍ من الوعي اكتشفنا الفارقَ بين دور الدين كإيديولوجيّةٍ إقطاعيّةٍ في أوروبا، وبين الدين الإسلاميّ في التاريخ العربيّ كحاملٍ ومحمولٍ للهويّة القوميّة.


ثالثاً: الانتفاضة الكانونيّة: اشتعل الجَيَشانُ في الأراضي المحتلة عام 67 في أواخر سنة 1987، وفيه تكثّف كلُّ شيء: إرادةُ الناس، وإرادةُ القوى المنظّمة، وقدرةُ هذه الإرادة على تحدّي الاحتلال. وبسرعةٍ مذهلة، تحوّلت الانفجاراتُ العفويّة المحليّة إلى انتفاضٍ شعبيٍّ عارم، بقيادةٍ مركزيّة، على الرغم من التفاوت بين دور الطبقات الاجتماعيّة والمواقع الجغرافيّة (إذ كانت المخيّماتُ رأسَ الحربة ومنبعًا لنصف الشهداء). واتسعت الاشتباكات، موشّحةً ببعض المظاهر العصيانيّة والسلاح الناريّ. وتمّ تفادي عدد من التكتيكات المغامرة التي كان يمْكن أن تنهي الانتفاضة في أسابيع. كما عُزل النفوذُ الأردنيّ تمامًا، وأُسقط مخطّطُ التقاسم الوظيفيّ، واندفعت الجماهير إلى كسر حاجز الخوف، في سعيٍ حثيثٍ إلى جعل الانتفاض نمطَ حياة. ثم جاءت اتفاقاتُ مدريد وأوسلو، فقطعت السياق.


لقد عشتُ الماركسيّة – اللينينيّة كمرشدٍ للعمل والنضال، تنأى عن الإطلاقيّة والانغلاقيّة، ولم أعشها مجرّدَ نقاشاتٍ أكاديميّة. وهذه الممارسة غدت مقطعًا مهمّاً في المسيرة الوطنيّة، ما قبل تمدُّدِ مرحلة أوسلو وما نتج عنها من تحوّلات.
***


والآن إلى محاولة الإجابة المباشرة عن السؤال المحدد


1- أعتقد أنّ هويّة اليسار العربيّ مازالت على حالها: فنحن مازلنا "ضدّ كلّ اضطهادٍ قوميّ، أو استغلالٍ طبقيّ أو دينيّ أو جنسيّ." ومازلنا نؤمن بأنّ "الاشتراكيّة والديمقراطيّة صنوان،"وأنّ "السلطة هي المسألة المركزيّة،" وأنّ "طبقةً لا تتعلّم حملَ السلاح تستحقّ أن تعامَلَ معاملةَ العبيد،" وأنّ "الحزب هو الضميرُ الجمعيّ للأمّة…" بهذه المقولات اللينينيّة تتحدّد هويّةُ اليسار، وإلاّ أصبح "فجلاً أحمرَ من الخارج، وأبيضَ من الداخل" (لينين). أما أن يَحْمل بعضَ المقولات الليبراليّة، كالديمقراطيّة والتعدديّة والمواطنة وسيادةِ القانون وحقوقِ الإنسان…، فشرطُ ذلك ألا يتوقّف هنا وإلاّ أصبح احتياطًا للبرجوازيّة، أيْ ما هو أسوأ من الانتهازيةّ، وأعني "تسخيرَ مصالح الطبقة العاملة لخدمة البرجوازيّة" (لوكاش). على اليسار، بدلاً من ذلك، أن يمضي في خوض الصراع الطبقيّ من أجل الاشتراكيّة، وخوضِ الصراع القوميّ من أجل "تقرير المصير" (لينين)، والاستقلالِ عن الإمبرياليّة والاحتكارات المعولمة، وتنظيمِ حركةٍ نسويّةٍ مناضلة.


2- التاريخ مراحل، ولكلّ مرحلة تناقضاتُها وقوًى اجتماعيّةٌ تتصارع فيها. ولا معبِّرَ عن شعار "يا عمّال العالم ويا أيّتها الشعوب المضطهَدة اتّحدي" (لينين) سوى الرؤية الماركسيّة اللينينيّة، على الرغم من الإرباكات والالتباسات والانهيارات في معسكرها هذه الأيام. فهي "النهج الأصوب في قراءة التاريخ" ( الحكيم جورج حبش)، وليست ثمّة قيودٌ مقدّسةٌ تمنعها من أن تكون ديالكتيكيّة، تنقد الواقعَ وتنتقد نفسَها وتتمثّل المتغيّرات.


3- إنّ القوى اليساريّة العربيّة، بما فيها الفلسطينيّة، قد شاخ معظمُها، وشاخ معظمُ هيئاتها. وهي لم تستطع حملَ الراية بعد فشل البرجوازيّة القوميّة، بل لم تستطع الحفاظَ على تركيمها الذي أحرزته في الأمس، إذ تقهقر دورُها، رغم وجود بقايا وطاقةٍ حيويّةٍ هنا وهناك وإرثٍ فكريٍّ يتموضع في الثقافة العربيّة. وسواء اتّحدت تلك البقايا أو لم تتحد، فقد شاخت. ولكنْ من بين ظهرانيها، ومن إرثها، سوف تنهض قوًى جديدةٌ ماركسيّة/ قوميّة للتعبيرعن التناقضات المتفاقمة في الوطن العربيّ والساحة الفلسطينيّة.


لقد كتب غرامشي أنه عندما تشيخ علاقاتُ الإنتاج والقوى الطبقيّة الحاكمة، وتعجز القوى الثوريّة، يصبح المجتمعُ مريضًا. وأظنّ أنّ المجتمع العربيّ غايةٌ في المرض، ولكنه سينبثق لا محالة من تحت السطح؛ ذلك لأنّ الشيء يستولد نقيضَه، ولولا ذلك لما نشأ حزبُ لينين ولا تجربةُ كاسترو ولا مقاومةُ حزب الله ولا حركةُ فتح والجبهة الشعبيّة ولا الثورة الصينيّة ولا تشافيز ومشروعه في أمريكا اللاتينيّة.


إنّ الخلل الأول اليوم في اليسار وبقايا اليسار الفلسطينيّ والعربيّ هو عجزُ "القيادات" وعدمُ كفاءتها، وتحديدًا فقرُ المنظّمين من الطراز الرفيع أو غيابُهم. ومن دون منظّمين كهؤلاء، يعملون "محترفين ثوريين" بالمعنى اللينينيّ للكلمة، ويجرؤون على خوض كافة أساليب العمل والنضال، فليس ثمة فرصةٌ لبناء يسارٍ أبدًا. وهؤلاء لا يكونون عادةً إلا من الجيل الشبابيّ المتخفّف عائليّاً والفوار صحيا، والشغوف لابعد الحدود الذي لم تستنزفه الشيخوخةُ (البيولوجيّة) بعد؛ فلقد تصدّر المقدّمة، مع الأسف، ولأسبابٍ مختلفة، زعاماتٌ مشهديّةٌ فاشلةٌ إجمالاً وغير كفؤة وفقيرة نظريا وثقافيا !

دلالات

شارك برأيك

كيف حضرت الماركسية اللينينية في تجربة سياسية فلسطينية

المزيد في أقلام وأراء

نتانياهو وفيتو صفقة التبادل

حديث القدس

هل ما زالت ألمانيا تكره الحروب؟

وليد نصار

مكاسب استراتيجية للفلسطينيين

حمادة فراعنة

دورنا في مواجهة المعادلات الجديدة في ظل عجز أمريكا وأزمة إسرائيل

مروان أميل طوباسي

حماس وطوفان الأقصى.. والإكراهات الجيوسياسية

ماجد إبراهيم

رفح ثغر الشعب و حبل الصرة مع الأمة

حمدي فراج

رفح بين الصفقة والحرب

حديث القدس

رحيل الطبيب والوجيه الفاضل د. جواد رشدي سنقرط

معتصم الاشهب

الاسرى الفلسطينيون في مواجهة “مخططات هندسة القهر” الإسرائيلية

اسعد عبد الرحمن

هل سيجتاح نتنياهو رفح؟

المحامي أحمد العبيدي

الدولة العميقة في أمريكا تقرر مواصلة الحروب

راسم عبيدات

رفح في مرمى العاصفة

حديث القدس

الدعم الأميركي والعقوبات على «نيتساح يهودا»

إميل أمين

مسارات الحرب في مرحلتها الثالثة

معين الطاهر

وحدة الضفتين أنموذج للفكر الوحدوي الهاشمي

كريستين حنا نصر

لماذا يقف الأردن مع فلسطين

حمادة فراعنة

"عقوبات" أمريكية مع 26 مليار دعم.. تبرئة للمجرمين وتمويه الشراكة بالإبادة

وسام رفيدي

"التخطيط للمستقبل مع قائد السعدي : استراتيجيات التغلب على الأزمات المالية للشركات الناشئة"

قائد السعدي

عالم صامت امام عدوان إسرائيل على كل معالم الحياة البشرية ..!!

حديث القدس

كأن هذه الامة استمرأت الهزائم و لم تعد تحب الانتصار

حمدي فراج

أسعار العملات

السّبت 27 أبريل 2024 8:23 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.81

شراء 3.79

يورو / شيكل

بيع 4.07

شراء 4.05

دينار / شيكل

بيع 5.41

شراء 5.39

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%73

%22

%5

(مجموع المصوتين 167)

القدس حالة الطقس