أقلام وأراء
الجمعة 03 فبراير 2023 10:48 صباحًا - بتوقيت القدس
الشهيد خيري علقم والتفوق الاخلاقي
بقلم:زياد بركات
أحياناً كثيرة، يبدو التحليل السياسي لظاهرةٍ ما قاصراً عن فهم جذورها، فهو "يعقلنها"، ويبحث في أسباب تشكلها، وسياقها، وديناميات تطوّرها، لكنه لا يقدّم مقاربةً شافية، ولنقل مبدعة، ترقى إلى مستوى الظاهرة نفسها. وفي الحالة الفلسطينية، تعثر على مئات التحليلات والدراسات السياسية الرصينة، وبعضُها لمّاح وثاقب الرؤية، لكنها لا تستطيع أن تبسط لك، وبما يقنعك ويُدهشك، ظاهرة ابتسامات الفتية الفلسطينيين لدى اعتقالهم (هل شاهدتُم ضحكة محمد عليوات منفذ عملية سلوان وهم يقتادونه مقيّد اليدين؟) أو ذلك الطيران الباهر لرماة الحجارة كأنهم ينفصلون عن الأرضيّ وشروطه، والسياسيّ وإكراهاته، في الوقت نفسه، لرمي حجر على جندي إسرائيلي متأهّب في الجوار ببندقيته الآلية ونظاراته الشمسية، ولامبالاته بضحيّته على الضفة الأخرى من النزال.
صحيحٌ أن اندفاعة الجسد القصوى تجعله يخفّ فيزيائياً فيرتفع عن الأرض، لكن هذا تفسيرٌ لظاهر الحدث، والسؤال هو عن القوة الجبّارة التي جعلت الفتى يطير وهو يقذف الجندي الإسرائيلي بحجارته، ولا تفسير مقنعاً لذلك إلا إذا كان شعرياً، أو بحثاً في "الشخصية الفلسطينية". وأظن أن خيري علقم، منفّذ عملية القدس أخيرا، ومن قبله عدي التميمي، منفذ عملية مستوطنة معاليه أدوميم شرقي القدس في الـ19 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نموذجان لتعقيد الحالة الفلسطينية واستعصائها، لا لأن الفلسطيني ليس كبقية الناس، بل لأن حالته نفسها استثنائية في كل المقاييس، فإذا افترضنا أن علقم الذي سُمي على اسم جدّه الذي قتله مستوطنٌ يهوديٌّ قبل ولادة الحفيد بثلاث سنوات، نفّذ عمليته ثأراً لجدّه، وهذا وارد، فما الذي يربط الحدث باقتحام جنين قبل يوم من تنفيذ العملية، فهل هي انتقامٌ أيضاً؟ وإذا كانت كذلك فكيف تأتّى لمجرّد شابٍّ صغيرٍ في السن (21 عاماً) أن ينتقم لماضيه الشخصي ولحاضر شعبه في الوقت نفسه؟! هذا التوازي بين ما هو شخصي ووطني لدى الفلسطينيين ليس مفاجئاً، بل هو في صلب حياتهم ورغماً عنهم، ولكن أن تجمع بين الدافعين في فعلٍ واحدٍ يغدو باهراً، ويكاد يكون عبقرياً في توقيتِه ودلالاته، وتقصُر عن تشريحِه أي تحليلاتٍ عن توحّش اليمين الإسرائيلي في مقابل اليأس الذي يتحوّل إلى قنبلةٍ قد تنفجر في أي لحظة، فهذا نوعٌ من التحليل النمطي، وهو صحيحٌ لكنه غير كافٍ، ما لم يُرفَد بمقاربةٍ دلالية، شعريةٍ إذا شئت، لهذه الحالة دون سواها، ومن ثم ربطها بحالاتٍ شبيهةٍ يكاد تراكمها يتحوّل نمطاً يجعل الفهم ميسوراً أكثر في سياق أعرض.
أنظر ماذا حدث؟ يتجوّل الشاب بسيارةٍ يقودها بالقرب من مستوطنة النبي يعقوب، ثم يترجّل وهو يحمل مسدساً. يطلق النار مراراً على من يصادفهم هناك. يغيّر مشط المسدّس أكثر من مرّة، وتكون النتيجة إصاباتٍ مؤكّدة قتلت سبعة مستوطنين وأصابت أكثر من عشرة بجروح، ما يعني أنه محترف أو مدرّب جيداً (متى فعل ذلك؟)، ثم يصادف امرأة تتوسّل إليه ألا يقتلها، فيُخبرها بأنه لا يقتل النساء، وذلك لا يعني تفوّقاً أخلاقياً وحسب، بل أيضاً قدرة فذّة على ضبط النفس والاحترافية العالية التي لا تنشغل بأهدافٍ فرعيةٍ قد تعيق تحقيق الهدف الرئيسي. يفعل ذلك كله، وهو في الحادية والعشرين وحسب، ولا أظنّه قرأ فرانز فانون أو غرامشي. في هذا التقاطع بين أن تعكس في شخصك منظومة أخلاقيةً متماسكةً، رفيعة المستوى، تميّز بين الهدف المشروع وذاك الذي يتعارض مع قيمك الجمعية من جهة، وأن تنتقم لجدّك الذي قُتل قبل ولادتك، ولشهداء شعبك الذين قتلوا قبل يوم من عمليتك، ثمّة عبقريةٌ مدهشةٌ تكاد لا تُصدّق، خصوصا أن العملية برمّتها فردية، ولا تنظيم أو جهة خلفها خطّطت ونسّقت ودعمت، وحرصت على الانسجام الأخلاقي والمشروعية النضالية في وقت واحد.
لا بد من محمود درويش أو من هو في مستواه ولا يوجد بعد، لترتقي الكتابة إلى مستوى حدثٍ كهذا، فنفهمه ونفهم تلك الاندفاعة الغريزية التي قام بها شابٌّ آخر، عدي التميمي، منفّذ عملية حاجز مخيم شعفاط، الشاب الوسيم كأنه أحد نجوم السينما، برأسه الحليقة، الذي طاردته قوات الاحتلال 11 يوماً، وحلق رفاقُه شعور رؤوسهم مثله لتضليل هذه القوات، فإذا به يعود إلى مستوطنة معاليه أدوميم مهاجماً حرّاسها. يطلق الرصاص فيردّون عليه فلا يتراجع، بل يواصل إطلاق الرصاص حتى يستشهد: كان يحدّق في الموت ويراقصه، وتلك استعارةٌ تجعل ذلك الشاب نفسه جملة قصيرة، لكنها مكثفة جداً، ومحتشدةٌ بالدلالات في قصيدةٍ لا يكتبها إلا الفلسطينيون بدمائهم منذ قرن ويزيد.
عن "العربي الجديد"
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
ترامب المُقامر بِحُلته السياسية
آمنة مضر النواتي
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الميدان يرد بندية على ورقة المبعوث الأمريكي الملغّمة
وسام رفيدي
تماسك أبناء المجتمع المقدسي ليس خيارًا بل ضرورة وجودية
معروف الرفاعي
المطاردون
حمادة فراعنة
فيروز أيقونَة الغِناء الشَّرقي.. وسيّدة الانتظار
سامية وديع عطا
السلم الأهلي في القدس: ركيزة لحماية المجتمع المقدسي ومواجهة الاحتلال
الصحفي عمر رجوب
إسرائيل تُفاقم الكارثة الإنسانية في غزة
حديث القدس
شتاء غزة.. وحل الحرب وطين الأيام
بهاء رحال
المقاومة موجودة
حمادة فراعنة
وحشية الاحتلال بين الصمت الدولي والدعم الأمريكي
سري القدوة
هوكشتاين جاء بنسخة لبنانية عن إتفاق أوسلو!
محمد النوباني
ماذا وراء خطاب نتنياهو البائس؟
حديث القدس
الأكثر تعليقاً
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
أبو الغيط: الوضع في فلسطين غير مقبول ومدان ولا يجب السماح باستمراره
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
ضابط إسرائيلي يهرب من قبرص بسبب غزة
مصطفى: الصحفيون الفلسطينيون لعبوا دورا محوريا في فضح جرائم الاحتلال
سموتريتش يضع البنية التحتية المنطقة (ج) في مهبّ أطماع المستوطنين
الاحتلال الإسرائيلي يتوغل في القنيطرة السورية ويعتقل راعيا
الأكثر قراءة
ماذا يترتب على إصدار "الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
نتنياهو يقمع معارضيه.. "إمبراطورية اليمين" تتحكم بمستقبل إسرائيل
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
بعد مرسوم بوتين.. هل يقف العالم على الحافة النووية؟
زقوت في حوار شامل مع "القدس".. خطة حكومية لوضع دعائم بناء دولة مستقلة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أسعار العملات
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 9:43 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.74
شراء 3.73
دينار / شيكل
بيع 5.28
شراء 5.26
يورو / شيكل
بيع 3.96
شراء 3.95
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%53
%47
(مجموع المصوتين 81)
شارك برأيك
الشهيد خيري علقم والتفوق الاخلاقي