أقلام وأراء

الأحد 30 أكتوبر 2022 12:09 مساءً - بتوقيت القدس

الربيع العربي في ميزان "تحرير الشرق"‏

‏بقلم:د.إياد البرغوثي*


تتلخص فكرة مشروع تحرير الشرق كما ورد في كتابنا "تحرير الشرق... نحو إمبراطورية شرقية ثقافية" ‏في أن "المصالح الاستراتيجية العليا لشعوب الشرق واحدة، يقررها اساسا ثبات الجيواستراتيجيا التي لا ‏فكاك منها، وتقترح مشروعا ثقافيا يشمل شعوب الشرق، ويهدف الى خلق حالة من الوعي الاستراتيجي ‏بهذه المصالح وطرق تحقيقها، حالة تعيد توطين فكرة الوحدة، وتصنع الهوية "الواعية" الجامعة لكل ‏مكونات شعوب المنطقة".‏
ينطلق المشروع من أن الحالة الاستعمارية الغربية التي خضعت لها شعوب الشرق بقيت على شكل نظام ‏للهيمنة له ادواته السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية. نظام الهيمنة هذا بدا اكثر وضوحا بعد الحرب ‏في اوكرانيا، حيث تستخدم امريكا والغرب كل تلك الادوات وصولا الى التهديد بالحرب النووية من أجل ‏الابقاء على نظام "القطب الواحد" المتحكم بشكل او بآخر بالبشرية وفي مقدمتها شعوب منطقتنا.‏
كما تؤمن الفكرة، أن تحرر شعوب الشرق الحقيقي من نظام الهيمنة هذا لا يتم الا بشكل جماعي، فالحديث ‏عن تطور "مستقل" لأية دولة بمفردها في المنطقة ليس الا شكلا من تغييب الواقع، الذي لا يؤدي الا الى ‏الامعان في التبعية للغرب الامبريالي. هذا يؤكد ضرورة وعي هذه الشعوب بأهمية تقاربها وتكاملها ووحدة ‏مصيرها.‏
ومن أجل أن تكتمل صورة الموقف من "الربيع" العربي في علاقته بمشروع الشرق، لا بد من تبيان موقف ‏هذا المشروع من مسألتين في غاية الأهمية... وهما الدولة والقضية الفلسطينية، فالدولة الحديثة في منطقتنا ‏نشأت أو انشئت في ظروف ملتبسة وضعتها في مواجهة "الأمة" ودفعتها لكي تكون جزءا من ادوات ‏الهيمنة الغربية على المنطقة. فالدولة في منطقتنا اجمالا لم تكن عقدا اجتماعيا بين الحكام والشعوب بقدر ‏ما كانت عقدا "أمنيا" بين الحكام والمستعمرين "السابقين".‏
وهي بحكم عوامل معقدة ابرزها الصراع بين الهوية التاريخية الجامعة والهوية الفرعية الطارئة في وضع ‏غير ثابت، تذهب بها تلك العوامل احيانا الى الانقسام والتشظي واحيانا أخرى الى التقارب والتكامل مع ‏محيطها. فالدولة بشكلها الحالي هي حالة متقدمة على دويلات محتملة لكنها حالة ليست كذلك في حالة انفتاح ‏الأفق نحو الهوية الأكبر.‏
أما فلسطين، فهي للشرق عماد مشروعه وجوهر هويته وعنوان تحرره. انها ولاسباب جيواستراتيجية ‏قضيته المركزية دون انتقاص من اهمية كل القضايا الأخرى في المنطقة. ان هذا يعني أن الموقف من ‏قضية فلسطين يقرر الموقف من تحرر الشرق، ومن يقبل ببقاء فلسطين محتلة إنما يلغي أية امكانية ‏لاستقلال حقيقي للشرق ويقبل به مفتتا وتابعا ومهيمنا عليه.‏
أما في ما يتعلق بالغرب، فمشروع الشرق ينطلق من أن المشروع الامبريالي الغربي للهيمنة على الشرق، ‏وربما على بقية العالم و إن بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة، لم ينته بعد. لذلك فإن مرور أحداث عاصفة ‏بالشرق كتلك التي احدثها الربيع العربي، بغض النظر إن كان للغرب مساهمة ما في انطلاقتها أم لم يكن، ‏الا أنه من المستحيل أن لا يحاول الغرب التدخل في هذه الأحداث، ومحاولة استثمارها وتوجيهها لصالحه. ‏هذا ليس فقط ما يقوله منطق الأشياء ولكن تصريحات قادة وسياسيين غربيين، وأقوال غونداليزا رايس ‏حول موضوع الفوضى الخلاقة، وطبيعة ما جرى من أحداث، وما وصلت اليه الأمور في بلدان الربيع، هي ‏دليل شديد الوضوح على ذلك.‏
منطلقات الربيع العربي ‏
تتحدث الكثير من الادبيات عن الانطلاقة "العفوية" للربيع العربي، لكن واقع الحال يشير الى أن الشعوب ‏العربية قد صبرت كثيرا قبل أن تقوم برد فعلها على الأوضاع التي كانت تعيشها، سياسية كانت أو ‏اقتصادية وحتى ثقافية ونفسية.‏
اقتصاديا عانت فئات كثيرة في البلدان العربية من أوضاع مزرية. فهناك الفقر الذي يطال شرائح كبيرة من ‏المجتمعات العربية، وهناك اعداد هائلة من العاطلين عن العمل خاصة من الشباب وخريجي الجامعات، ‏اضافة الى سوء توزيع الثروة الذي عمق الفوارق الطبقية بين الناس.‏
سياسيا استمر فقدان الثقة بين الانظمة وشعوبها. بل ان الأنظمة تكاد لا تشعر بأية قيمة أو وجود لتلك ‏الشعوب. بقي بقاء الأنظمة في معظم دول المنطقة "عقدا" بين الحاكم والقوى الغربية وليس عقدا مع ‏شعوبها، فاستمر الاستبداد باستثناء ما ندر من خطوات شكلانية نحو الديمقراطية تمثلت عادة في إجراء ‏انتخابات أكثر شكلانية، وبدت تلك الانتخابات وكأنها استجابة لارادة غربية أكثر منها استجابة للشعب، مما ‏عمق الأزمة وزاد من المهانة الفردية والجماعية.‏
لقد شعرت فئات كبيرة من الطبقة الوسطى في البلدان العربية باهانة مزدوجة ليس فقط من الطريقة التي ‏تعاملت بها الأنظمة مع شعوبها، بل ايضا من الطريقة التي تعامل بها الغرب مع حكامها، اضافة الى موقف ‏الغرب العنصري من قضايا الأمة ومن احتقار لقيمها. بالعادة كانت الشعوب تصبر على "اهانتها" عندما ‏يكون ذلك وكأنه "بحجة" الدفاع عن القضايا الوطنية، لكن ذلك لن يدوم طويلا في ظل التخلي الواضح عن ‏تلك القضايا.‏
ومما عمق الأزمة السياسية في المنطقة أن المعارضة عانت من الضعف الشديد، فتم تدجينها فبدت جزءا من ‏النظام أو مدافعا عنه. عمليا لم يبق من المعارضة فاعلا الا أحزاب الإسلام السياسي التي تصارعت على ‏الحكم مع العسكر، أو اتفقت معهم في بعض الأحيان.‏
اجتمعت حاجة الفقراء "للخبز"، وحاجة بعض المثقفين للحرية وبعضهم الآخر للحرية والكرامة الوطنية، ‏ورغبة المعارضة المنظمة شبه الوحيدة "الاخوان المسلمون" في الحكم، فكان الربيع العربي.‏
ملابسات الربيع العربي ‏
ابتدأ الربيع في تونس كما هو معروف. كان تضامن الشعوب العربية مع المنتفضين التونسيين عارما. لفت ‏الإنتباه سرعة تأثر المحيط العربي بما يجري، وسرعة استجابة ذلك المحيط. هذا يثير تساؤلا كبيرا حول ‏قدرة عشرات السنين من الفرقة بين الأنظمة العربية في إحداث انفصال فعلي بين الشعوب. من هنا تبدو ‏الدعوة لتقارب شعوب المنطقة وتكاتفها أقل "طوباوية" مما يعتقد.‏
كان الحدث أشبه بانفجار اجتماعي وقع دون ترتيب، بلا قيادة، وبلا موجه، على الأقل في البدايات. كان ‏الشعار الأول والاساس "إسقاط النظام". لم تفكر الجماهير المنتفضه كثيرا في ما سيلي إسقاط النظام. إسقاط ‏الأنظمة كان كافيا لها لتكون راضية.‏
غياب النخب القائدة عن الحراك الشعبي اتاح الفرصة للقوى الخارجية، الإقليمية والدولية للتدخل، سواء ‏بشكل مادي عسكري أو امني، أو من خلال القوى الناعمة خاصة الاعلام. هنا اختلط الأمر، فالشعارات ‏الأولى للحراك طالبت بالخبز والحرية والكرامة، ورفعت أعلام فلسطين، ثم ذهبت بإتجاه الطائفية وتحميل ‏فلسطين وتأييدها المسؤولية عن الأوضاع.‏
منطلقات جماهيرية ثورية توحد الجميع، ثم حركة استدارة بإتجاه الانقسام والطائفية والفوضى (الخلاقة أو ‏غيرها)... اثنان في واحد، ثورة وفوضى، ثم فوضى وثورة. خفت صوت الثوار السلميين وبرز صوت ‏السلاح والقتل الطائفي. اختفى صوت المثقفين العقلانيين الديمقراطيين الحقيقيين الحريصين على مصير ‏شعوبهم وبرز صوت المثقفين "المعولمين" المستدعين للطائفية والانقسام والتدخل الخارجي. وتبلور ‏الصراع الذي بدأ بين الجماهير ومضطهديها ليكون بين القوتين الأكثر بروزا في معظم دول المنطقة، ‏الإخوان المسلمون والعسكر، وكل منهما بالطبع له حلفاؤه وداعميه والمستفيدين من دعمه اقليميا ودوليا، ‏وإضافة الى هؤلاء وجد المستفيد من استمرار الصراع، وهو الذي يهمه في النهاية تدمير الدول وتدمير ‏المجتمعات من الأساس.‏
الربيع بميزان الشرق ‏
ايجابا، استعادت الجماهير في المنطقة جزءا من ارادتها، واعادت ثقتها بنفسها، واثبتت قدرتها على ‏التحرك. واستعادت تلك الجماهير، ولو مؤقتا، جزءا كبيرا من حريتها في بعض البلدان (تونس مثلا)، ‏وخطت ولو بتحفظ وبكثير من القلق خطوات باتجاه بعض مظاهر الديمقراطية (تونس ومصر). تحقق ذلك ‏في الفترات الأولى من الحراك، لكن الأمر سرعان ما أخذ في التغير.‏
تطور الأحداث قاد الى وضع اقتصادي اكثر سوءا، والى ضحايا باعداد فاقت التصور، ولاجئين بالملايين، ‏و إحداث شروخ في بنية المجتمعات، وبقاء للأنظمة رغم تغيير رؤوسها في بعض البلدان.‏
على مستوى الدولة، وبعكس ما يطمح مشروع الشرق لدفعها نحو مزيد من الاستقلال وللاقتراب من ‏مشروع الدولة الأمة، بتقارب شعوبها وتعميق وعيها الوحدوي، تراجعت الى الانقسام، وساد الفكر التقسيمي ‏الطائفي والجهوي، وذهبت الى مزيد من التبعية للغرب، وذهب بعضها للالتحاق بالمشروع الصهيوني من ‏خلال التطبيع.‏
بدل أن يذهب الربيع بدول وشعوب المنطقة الى التحرر من الاستعمار، وصلت الى التحلل من الالتزام ‏بمواجهته. وبدل أن يستمر تنامي دور الجماهير انتكس ذلك الدور من خلال العسكرة وتحول الحراك الى ‏حروب بالوكالة لتصبح الشعوب اكثر قابلية للعبث بها وبمصيرها.‏
في سياق تطور الأحداث ضاع منطق الثورة. اختفى المثقفون الثوريون الوطنيون، وذهبت الأمور باتجاه ‏اصولية ظلامية تمثلت بداعش ومثيلاتها وعولمة ليست قضايا الأمة الكبرى جزءا من اجندتها، إن لم يكن ‏التخلي عن تلك القضايا جوهر تلك الأجندة.‏
ورغم بروز القضية الفلسطينية كشعار اساسي في بدايات الربيع، وقلق اسرائيل الكبير في تلك البدايات، إلا ‏أن التطبيع الذي جرى بعد ذلك بين بعض الدول العربية وبين اسرائيل، مثل تتويجا لرضوخ تلك الأنظمة ‏للإرادة الغربية (السودان مثلا).‏
انطلق التطبيع من أن المشكلة مع إسرائيل وهمية بالأساس، واذا كان هناك من مشكلة فهي من "اختراع" ‏الفلسطينيين، حيث الضحية مسؤولة عن وجود قاتلها. وأصبح الحل في أن ترى كل دولة مصلحتها وتذهب ‏باتجاهها، ويبدو أن الذهاب باتجاه اسرائيل هو "الاجدى" وهو "الأسهل" وهو في النهاية "قرار سيادي".‏
الشرق بحاجة إلى "ربيع" حقيقي، ربيع يخرج الشعوب من حالة الاستعباد ويضعها على سكة التحرر ‏والوحدة والتطور المستقل، وليس ربيعا يفكك دولها، ويلحقها بمشاريع اعدائها.‏

‏*أكاديمي فلسطيني مقيم في رام الله

دلالات

شارك برأيك

الربيع العربي في ميزان "تحرير الشرق"‏

المزيد في أقلام وأراء

رسالة المستوطنين لأحفاد الفلسطينيين

رسالة المستوطنين لأحفاد الفلسطينيين

وهم التوصل إلى وقف الحرب

حمادة فراعنة

حملت أختها وهنًا

بهاء رحال

عام على انطلاق بركان السابع من أكتوبر

المحامي أحمد العبيدي

شمال غزة.. صراع البقاء في مواجهة التهجير

فادي أبو بكر

الجريمـة لـن تمـــر

د. مصطفى البرغوثي

الانتخابات الأمريكية وحملات التضليل في الولايات المتأرجحة

جيمس زغبي

الـمطحنة!

ابراهيم ملحم

الشرق الأوسط في قبضة الحاكم والجلاد

حديث القدس

لحظات سنوارية آلمت إسرائيل وسيخلدها التاريخ

حمدي فراج

سياسة شجاعة وحكيمة

حمادة فراعنة

الحكمــة مـن الابتــلاء

أفنان نظير دروزة

ماذا بعد استشهاد السنوار؟

هاني المصري

هل تمارس الإدارات الأمريكية الصدق لمرة واحدة؟!

راسم عبيدات

الكارثة والبطولة

جمال زقوت

رسائل صمود وكبرياء

حديث القدس

الحرب والمحتجزون والهجرة

اجتماع دول البريكس القادم.. الواقع والتحديات

جباه عالية.. جباليا

بهاء رحال

عار الصمت

أسعار العملات

الأربعاء 23 أكتوبر 2024 8:57 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.78

شراء 3.77

يورو / شيكل

بيع 4.08

شراء 4.0

دينار / شيكل

بيع 5.33

شراء 5.3

هل تستطيع إدارة بايدن الضغط على نتنياهو لوقف حرب غزة؟

%17

%83

(مجموع المصوتين 446)