أقلام وأراء
الثّلاثاء 19 يوليو 2022 10:13 صباحًا - بتوقيت القدس
منصور عباس ... وشرعنة نهج المقايضة
بقلم د. ميسون ارشيد شحادة
تشير نظريات "الواقعية السياسية" الى أن من المفيد وضع قيم الأخلاق والعدالة في واجهة تفسير تصرفات السياسيين والقادة البارزين، رغم معرفة أن هذه القيم ليست هي التي توجه خطواتهم، بل الاعتبارات القائمة على حسابات المصالح والربح والخسارة، والسعي وراء تحقيق السيطرة والقوة.
واذا نظرنا الى بدايات العمل السياسي العربي في اسرائيل بعد النكبة عام 1948 نجد أن هذا الاعتبار لم يكن غائبا عن أذهان المبادرين الأوائل منهم، ولكنهم في نفس الوقت لم يتخلوا أو يتنازلوا عن هويتهم ومبادئهم الوطنية.
فخطاب الهوية القومية الذي تلفعت به أجندة معظم الأحزاب العربية التي انخرطت في الحياة السياسية الإسرائيلية لا يتنافى مع حقيقة أن بوصلتها كانت تتحرك بدافع اعتبارات عملية تتعلق بمصالح البقاء والرغبة في السيطرة. فقد انضم الشيوعيون العرب من عصبة التحرر الوطني إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي- ماكي، في نهاية أيلول- سبتمبر 1948، وشاركوا في الدعاية لانتخابات الكنيست في نهاية شهر كانون الاول من ذلك العام رغم أن جرح النكبة كان لا يزال ينزف بغزارة. وقد أدى انضمام توفيق طوبي إلى السياسة الإسرائيلية إلى تحقيق مكاسب فردية وجماعية لأعضاء ماكي العرب وللمجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل بشكل عام. فقد ارتبط طوبي وقادة حزبه بشخصيات مؤثرة في الحكومة الإسرائيلية وتم ضمهم الى اللجنة المؤقتة في حيفا التي كانت تعنى بتنظيم أمور العرب في المدينة حالا بعد احتلالها، وكان تعيينهم في واجهة المسؤولية في دائرة التشغيل في الناصرة والموافقة على تجديد النشر باسم جريدة الاتحاد ومطبعتها من ضمن المكاسب المهمة التي أعطت الحزب قوة تأثير وسيطرة. ولكن نقطة النقاش الأهم والأبرز هي أن توفيق طوبي وحزبه لم يتخلوا عن المجاهرة بتمسكهم بهويتهم الوطنية، وكانت قضية تهجير هوشة والكساير من ضمن المواضيع الأولى التي تناولها طوبي من على منبر الكنيست. هذا النهج استعملته معظم الأحزاب العربية التي انضمت للكنيست عدا القائمة الموحدة برئاسة منصور عباس الذي فضل إخفات صوت مجاهرته بهويته الفلسطينية.
وفي الحقيقة فإن الخطورة في منهج منصور عباس هي أنه قد يؤدي إلى تغيير مكانة العرب في إسرائيل، بحيث يتم تحويلهم من تعريف "مواطنين متساوين في دولة يهودية وديمقراطية" إلى تعريف "أقلية ذات مكانة خاصة داخل دولة أغلبية يهودية ". وهذا المنهج الذي يتبناه منصور عباس يخلق معادلة مشروطة تقوم على أساس أن يكون قبول الحقوق مشروطا بتجاهل بل وحتى إنكار العرب في إسرائيل لهويتهم الفلسطينية.
لقد اختار عباس والموحدة تطبيق هذه المعادلة بشفافية صريحة، وقد أعلنوا أمام المجتمع العربي عن رغبتهم في التخلي عن الخوض في “المواضيع الحساسة" التي تعطل مخططاتهم من أجل الحصول على الميزانيات الداعمة لتطوير المجتمع العربي في إسرائيل، حتى لو كانت هذه المواضيع تمس بهويتهم الدينية أو الوطنية.
وفي الحقيقة، فإن رسالة عباس كانت واضحة ومعلنة أيضا أمام المجتمع اليهودي وتلخصت بالسير مع التيار بدلاً من عكسه للاستفادة من الفرصة الذهبية للتأثير تحت ما يسمى بيضة القبان، وأكثر من ذلك جعل هذه الفرصة واقعا ثابتا ً بدلاً من مؤقت وعابر، وأقامها على أساس علاقات مبنية على مكاسب متبادلة.
وقد نجح منصور عباس بواسطة مخطط الخطة الخمسية، التي تهدف إلى سد الفجوات التراكمية في المجتمع العربي مقابل المجتمع اليهودي في إسرائيل، في خلق صورة لاتجاه تدفق الأرباح المادية الملموسة التي أسسها نهجه. ولكننا وبنظرة أعمق، نستطيع القول بأن عباس كان رافعة أو أداة لتنفيذ المخطط الحكومي الذي أدرك أهمية ووزن إمكانيات المجتمع العربي في دفع عجلة النمو الاقتصادي لإسرائيل.
فالخطة الخمسية تهدف بشكل أساسي إلى تصميم وتوجيه القوى العاملة في المجتمع العربي بحيث تلبي وتفي باحتياجات سوق العمل والاقتصاد في إسرائيل. وهكذا فأن الميزانيات كانت ستضخ الى المجتمع العربي مع وبدون وجود الموحدة ضمن الائتلاف الحكومي. ولكن مع الأسف، وهنا لب المشكلة، فقد تم تغليف هذا الهدف بواسطة نهج المقايضة الذي يروج له منصور عباس والذي يؤدي كما أسلفت الى التشديد على تعريف العرب كمواطنين ذوي مكانة خاصة، لأنه يؤكد على الفصل بين المجتمعين اليهودي والعربي، محيلا الميزانيات لسد فجوات في منطقة منفصلة خاصة للعرب مستبعدا عملية الشراكة والنفع المتبادل، ومؤكدا السلطة العليا والتحكم للأكثرية اليهودية مقابل الأقلية العربية.
ومن خلال منح الشرعية لمنهج إنكار أو تجاهل الهوية الوطنية الذي اتبعه منصور عباس مقابل تحقيق ميزانيات للنهوض بالمجتمع العربي، يتم فعليا تسريع التيار أحادي الاتجاه والذي يؤدي الى إحكام السيطرة والسيادة على الأقلية العربية من قبل الأكثرية اليهودية وتعزيز الانفصال والانقسام بدلاً من الاندماج المتكافئ والنسبي، ويؤدي الى تعجيل تعريف العرب في إسرائيل على أنهم جماعة من المواطنين "المرغوبين" ذات مكانة خاصة لا تناضل من اجل قضاياها الوطنية.
السؤال المطروح: هل سيفوز عباس بالدعم الشعبي لهذا الخطاب الذي يروج له، وأن يتم هذا الدعم من خلال التصويت لقائمته في الكنيست؟
الجواب مرتبط بـ "الشروط الظرفية" التي يعيش فيها العرب وخاصة شريحة الشباب في إسرائيل سواء داخل إسرائيل أو في نطاق الحالة في الأراضي الفلسطينية أو ما يحدث في الإقليم ويمت بصلة مباشرة بالشأن الفلسطيني. وهذه الشروط الظرفية مرتبطة بمجالات أربعة: الدولية، والعربية، والفلسطينية، والداخلية العربية -الإسرائيلية.
ومن بين هذه الشروط الظرفية على سبيل المثال: عدم نمو كتلة دولية داعمة للعرب مقابل الولايات المتحدة الداعمة لإسرائيل ، تفكك الفضاء العربي وضعفه عسكريا واقتصاديا مقابل تصاعد نمو إسرائيل وحضورها كقوة عسكرية وتكنولوجية متينة ، تهميش تناول المشكلة الفلسطينية دوليا ، تراجع في النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي وتحويله إلى صراع مدني من أجل البقاء بدلا من نضال وطني وجودي ، تصعيد الانقسامات بين حماس وفتح ، عدم ظهور قيادة عربية شابة ، وعدم القدرة على تنظيم نشاط الشباب العرب في إسرائيل في إطار سياسي منظم يستقطبهم ويستفيد من قدراتهم المتنوعة والمتجددة. كل هذه العوامل سواء كانت مجتمعة أو منفصلة تؤثر سلبا ً على الوضع العربي داخل إسرائيل.
فالقيادة السياسية القائمة داخل اسرائيل شاخت وجمدت مكانها وتقريبا توقفت عن طرح أفق وبدائل مقنعة، مثل لجنة المتابعة للجماهير العربية التي يزداد اتساع الفجوة بين الشرعية العالية الممنوحة لها من قبل الجمهور العربي في إسرائيل وبين عدم قدرتها على طرح خطاب موجه شامل وموحِد، وكذلك عدم قدرة مؤسسات المجتمع المدني بالعمل بشكل مستقل من اجل بناء كيان اقتصادي عربي ذو قيمة وحضور، وغيرها الكثير.
الشروط الظرفية التي ذكرتها أعلاه لا تؤدي إلا إلى تقويض ثقة الشباب العرب في قياداتهم، وبذلك سيستمرون في الانقسام إلى ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى هي التي تتسع وتستقطب المزيد من الأعضاء الجدد الذين اعتادوا المشاركة في الانتخاب الى أن وصلوا حد الاشباع وقرروا التوقف عن المشاركة الى حين ظهور أطار وبديل جديد ومقنع، وهي المجموعة التي تفضل الجلوس على الجدار وعدم المشاركة في الانتخابات كما اعتادت.
والثانية هي المجموعة الأضعف وهي تلك التي نشأت في أحضان الأحزاب التقليدية مثل الجبهة والحزب الشيوعي والتجمع والعربية للتغيير، وهي أضعف لأن قسم منها قد أصابه الإحباط من جدوى المشاركة ومردودها الفعلي، وتراوده فكرة مقاطعة الانتخابات الوشيكة، مفضلا بذلك الانتظار والانضمام الى جماعة الجلوس على الجدار.
وأما الغالبية المتبقية فستتبع ببساطة الخطوط العريضة التي أسسها منصور عباس لتنضم إليه مقتنعة بخطاب المصالح. ومن الممكن أن يلتحق بالمجموعة الأخيرة المصوتين العرب المنضمين للأحزاب الصهيونية التي تقدم عمليا نفس الخطاب المدني والخطوط العريضة التي تطرحها الموحدة إنما في اطار علماني غير ديني مثل حزب العمل وميرتس وغيرها.
خلاصة الحديث، هي أن شرعنة تغييب الخطاب القومي وتغليب خطاب المصالح المدني ما هي الا ذر للرماد في العيون، يضعف تراكمية النضال الشعبي للجماهير العربية كمجموعة قومية أصيلة ذات حقوق مدنية متساوية لا فضل لأحد في منحها إياها.
وضعنا ووجودنا في دولة إسرائيل لا يحتمل الجلوس على الجدار، ومن أجل ذلك فإن علينا بناء قوة قومية سياسية موحدة تستقطب شريحة الشباب وقدراتهم، وتجيب على احتياجاتهم وآمالهم فهم الشريحة الأهم والأولى. وأشدد هنا، على مطالبة القيادة التقليدية أن تفسح الطريق للشباب والشابات لأنهم هم الشريحة الأهم والأولى. وعلينا أن نتعلم ذلك من نماذج كثيرة تظهر في أوروبا التي تعيد حساباتها في بناء قياداتها. وعلينا تقديم خطاب مدني وقومي موحد مدعوم ببرنامج أهدافه مقنعة وقابلة للتنفيذ، وأساسه بناء مجتمعنا العربي كقوة لها قيمتها ووزنها في سوق العمل والاقتصاد المحلي والعالمي.
* كاتبة هذا المقال د. ميسون شحادة ارشيد فلسطينية من مدينة الناصرة، تحمل درجة الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة بار ايلان وتعمل محاضرة بالجامعة المفتوحة في رعنانا.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
ترامب المُقامر بِحُلته السياسية
آمنة مضر النواتي
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الميدان يرد بندية على ورقة المبعوث الأمريكي الملغّمة
وسام رفيدي
تماسك أبناء المجتمع المقدسي ليس خيارًا بل ضرورة وجودية
معروف الرفاعي
المطاردون
حمادة فراعنة
فيروز أيقونَة الغِناء الشَّرقي.. وسيّدة الانتظار
سامية وديع عطا
السلم الأهلي في القدس: ركيزة لحماية المجتمع المقدسي ومواجهة الاحتلال
الصحفي عمر رجوب
إسرائيل تُفاقم الكارثة الإنسانية في غزة
حديث القدس
شتاء غزة.. وحل الحرب وطين الأيام
بهاء رحال
المقاومة موجودة
حمادة فراعنة
وحشية الاحتلال بين الصمت الدولي والدعم الأمريكي
سري القدوة
هوكشتاين جاء بنسخة لبنانية عن إتفاق أوسلو!
محمد النوباني
ماذا وراء خطاب نتنياهو البائس؟
حديث القدس
الأكثر تعليقاً
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
أبو الغيط: الوضع في فلسطين غير مقبول ومدان ولا يجب السماح باستمراره
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
ضابط إسرائيلي يهرب من قبرص بسبب غزة
مصطفى: الصحفيون الفلسطينيون لعبوا دورا محوريا في فضح جرائم الاحتلال
سموتريتش يضع البنية التحتية المنطقة (ج) في مهبّ أطماع المستوطنين
الاحتلال الإسرائيلي يتوغل في القنيطرة السورية ويعتقل راعيا
الأكثر قراءة
ماذا يترتب على إصدار "الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
نتنياهو يقمع معارضيه.. "إمبراطورية اليمين" تتحكم بمستقبل إسرائيل
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
بعد مرسوم بوتين.. هل يقف العالم على الحافة النووية؟
زقوت في حوار شامل مع "القدس".. خطة حكومية لوضع دعائم بناء دولة مستقلة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أسعار العملات
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 9:43 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.74
شراء 3.73
دينار / شيكل
بيع 5.28
شراء 5.26
يورو / شيكل
بيع 3.96
شراء 3.95
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%53
%47
(مجموع المصوتين 81)
شارك برأيك
منصور عباس ... وشرعنة نهج المقايضة