أقلام وأراء
السّبت 18 مايو 2024 9:07 صباحًا - بتوقيت القدس
أمريكا وحروب الإبادة: سجل حافل بالصناعة أو التورط
تلخيص
تقاعدَ الأمريكي لورنس دافيدسون عن تدريس التاريخ في جامعة وست شيستر، بنسلفانيا؛ لكنه، لحسن حظّ الباحثين عن أنساق النقد الأعمق للسياسات الخارجية الأمريكية واستراتيجيات الإمبريالية الحديثة والمعاصرة، لم يتوقف عن تسليط الأضواء الكاشفة على ما خفي، أكثر من تلك التي تظهر وتُعلن، من فظائع وكوارث وجرائم حرب وإبادات. وقد يصحّ القول إنّ الأبحاث الأدقّ حول تورّط الديمقراطيات الغربية عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، تدين للرجل بأعمال لامعة مثل «فلسطين أمريكا: المُدركات الشعبية والرسمية منذ بلفور وحتى حال الدولة الإسرائيلية» 2001؛ و«شركة السياسة الخارجية المتحدة: خصخصة المصلحة القومية الأمريكية» 2009؛ و«الإبادة الثقافية» 2012.
ولأنه معنيّ، على نحو أكثر تخصصاً، بشؤون الشرق الأوسط إجمالاً والقضية الفلسطينية تحديداً؛ فإنّ متابعاته لحرب الإبادة الإسرائيلية الراهنة ضدّ قطاع غزّة تأخذ غالباً منهجية حميدة تماماً، تضع جرائم الاحتلال ضمن سياقات أعرض تحيل إلى الولايات المتحدة بوصفها الرأس والقوة الكونية ضمن التكتل الإمبريالي، والأطلسي، الأعرض. وبين أحدث مساهماته في هذا الميدان مقالة جامعة، نشرها موقع «كاونتربنش» الأمريكي مؤخراً، تناولت سوابق تاريخية لانخراط الولايات المتحدة في جرائم الحرب الجماعية والتطهير العرقي، أو التواطؤ عليها؛ وسلوك الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن ليس إلا أحدث الأمثلة على ملفّ حافل. ولا يبدّل من منطق هذا المثال الأخير أنّ سنة إعادة انتخاب/ أو فشل تنتظر سيد البيت الأبيض، أو أن تشدّقه الخطابي بصدد توفير الحاجات الإنسانية لسكان غزّة ليس سوى أكاذيب، يفضحها إصرار إدارته على رفض وقف إطلاق النار، والامتناع عن ممارسة ضغط جدّي مؤثر على رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو.
في عداد الأمثلة السابقة، ثمة أندرو جاكسون الرئيس الأمريكي السابع، الذي اعتبر أنّ بطء «اندماج» أبناء الأقوام الأصلية («الهنود الحمر» حسب التوصيف اليانكي) في «المجتمع الأبيض» يشكل عائقاً أمام «التقدم»؛ فأشرف، أواخر 1820، على مخطط تطهير شامل شرق نهر المسيسيبي، وأجبر نحو 800.000 من هؤلاء على التهجير غرباً، بقوّة الجيش الأمريكي، الأمر الذي أسفر عن وفاة الكثيرين خلال السيرورة القسرية. وحفظ التاريخ تصريح جاكسون الشهير: «أيّ رجل صالح يمكن أن يفضّل بلداً مغطى بالغابات وحفنة آلاف من المتوحشين، على جمهوريتنا الواسعة العتيدة، الملأى بالمدن والبلدات والمزارع المرفهة، التي يسكنها 120 مليون نسمة سعداء؟».
المثال الثاني بطله وودرو ولسون، الرئيس الـ28 الذي يحلو لأدبيات الليبرالية الأمريكية تسميته بـ«نبيّ» الحريات العامة وحقوق الإنسان؛ وقد جهد لإعادة الولايات المتحدة عقوداً إلى الوراء، عن طريق فرض الفصل العنصري في أجهزة الدولة والبيروقراطية والجيش، وذلك فور توليه المنصب سنة 1913. ورغم أنّ أمريكا خلال رئاسته انخرطت في الحرب العالمية الأولى، وكانت في حاجة إلى الجنود من كلّ عرق ولون، فإنه لم يخفِ مقته الشديد لـ«الملوّنين» على نحو كانت روائحه العنصرية تزكم الأنوف.
وينقل دافيدسون عن الصحافي والناشط الحقوقي (الأبيض) أوزوالد فيلارد أنّ الولايات المتحدة في عهد ولسون تحوّلت إلى جهاز ضخم مسعور، لا همّ لمؤسساته سوى «وصم الملونين بدمغة جذام تعسفية، وتصنيفهم في خانة حاملي العدوى الجسدية والأخلاقية، وانعدام الأهلية للدخول في المجتمع».
المثال الثالث قدّمه لندون جونسون الرئيس الـ36 خلال حرب الأيام الستة، بصدد الهجوم الإسرائيلي على السفينة الأمريكية USS Liberty، قرب شواطئ غزّة، يوم 8 حزيران (يونيو) ومقتل 34 وجرح 173 بحاراً أمريكياً كانوا على متنها؛ حين اعتبر جونسون أنّ أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي يعلو على سلامة السفينة وطاقمها، فأمر بسحب المقاتلات الأمريكية التي كانت تحمي السفينة. أكثر من ذلك، وإمعاناً في التأكيد على أنّ جريمة الحرب هذه، التي طالت أمريكيين هذه المرّة وليس أبناء جنسيات أخرى أجنبية، لا تمسّ في شيء علاقة واشنطن بدولة الاحتلال؛ سارع الرئيس الأمريكي إلى قبول «اعتذار» من تل أبيب نهض على تبرير الواقعة بخطأ في تحديد هوية الهدف. وكي يذهب أبعد، أمر جونسون الأدميرال إزاك كيد، رئيس لجنة التحقيق في الواقعة، بقبول تبريرات الاحتلال؛ كما أمر أن يُطلب من البحارة الناجين التزام الصمت والامتناع عن توصيف الهجوم، تحت طائلة الإحالة إلى محاكم عسكرية.
الأمثلة الأخرى في العقود الحديثة كثيرة، تشمل جورج بوش الأب وبيل كلنتون وبوش الابن وباراك أوباما ودونالد ترامب وبايدن الحالي، والأحرى القول إنه يندر أن يُستثنى منها رئيس أمريكي، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، وفي ولاية أولى أم ثانية.
خلاصة دافيدسون لا تهمل حقيقة حرص الرؤساء، أجمعين تقريباً، على إبداء الالتزام بالقانون الدولي وحقوق الإنسان ومواثيق الحروب، وإطلاق البلاغة اللفظية على عواهنها بصدد إدانة الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي أو جرائم الحرب المختلفة. المفارقة الفاقعة، في كلّ حالة انتهاك ذات صلة بدولة الاحتلال، أنّ الدبلوماسية الأمريكية لا تتحرّج في استغفال العقول بصدد حماية الاحتلال من أيّ مساءلة أو محاسبة؛ بل تلجأ أيضاً إلى تغطية الانتهاكات، الأكثر جلاءً وفظاعة وتوحشاً، في مجلس الأمن الدولي والكونغرس والمحافل الدولية من جهة، كما تواصل تزويد آلة حروب الإبادة الإسرائيلية بالأسلحة والذخائر والأموال…
وفي تلمّس إطار آخر للعلاقات الأمريكية ــ الإسرائيلية، وهي بالطبع عديدة متنوعة بقدر ثباتها على ركائز كبرى منيعة على التبدّل الجوهري؛ قد يكون دالاً، وطريفاً أيضاً، استذكار واقعة تعود إلى ربيع 2010، خلال زيارة إلى دولة الاحتلال قام بها بايدن، نائب الرئيس الأمريكي يومذاك. وسواء تعمد نتنياهو، وكان رئيس حكومة الاحتلال، أم لم يكترث أصلاً بإقامة الصلة؛ فوجئ بايدن بقرار من الحكومة الإسرائيلي يقضي ببناء 1600 مستوطنة جديدة؛ فغضب و(خلال جلسة مع نتنياهو، مغلقة بالطبع) أبلغ الأخير أنّ قرارات كهذه «بدأت تكتسي طابعاً خطيراً بالنسبة إلينا. وما تفعلونه هنا ينسف أمن قوّاتنا المقاتلة في العراق وأفغانستان والباكستان. هذا يُلحق الخطر بنا، وبالسلام في المنطقة» طبقاً لرواية الصحافي الإسرائيلي شيمون شيفر، في «يديعوت أحرونوت».
ضمن قراءة أولى للواقعة، ثمة في «غضب» بايدن ما يوحي بالحرص على أمن قوات الولايات المتحدة المنتشرة هنا وهناك في الشرق الأوسط.
قراءة ثانية تعيد الغضب إياه إلى أمثولة الرئيس جونسون، الذي فضّل أمن دولة الاحتلال على دماء الأمريكيين التي أُريقت على ظهر السفينة «ليبرتي» بقذائف إسرائيلية.
وأمّا قراءة ثالثة، لعلها الأكثر اتساقاً مع واقع الحال، فيمكن أن تُستمدّ من واقعة رديفة، خلال الشهر إياه من تلك السنة.
فقد كان الجنرال دافيد بترايوس، القائد الأسبق للقوّات الأمريكية والأطلسية في أفغانستان، والقيادة الوسطى، يقدّم أمام لجنة القوّات المسلحة في الكونغرس شهادة مكتوبة وقعت في 56 صفحة، يقول في إحدى فقراتها:
«المواجهات الدائمة بين إسرائيل وبعض جيرانها تطرح تحديات ملموسة على قدراتنا في رعاية مصالحنا. والنزاع يثير شعور العداء لأمريكا، بسبب إدراك تفضيل الولايات المتحدة لإسرائيل. والغضب العربي الناجم عن القضية الفلسطينية يحدّ من قوّة وعمق الشراكات الأمريكية مع الحكومات والشعوب في المنطقة، ويضعف شرعية الأنظمة المعتدلة في العالم العربي».
لقد أسمع الجنرال لو نادى أحياء، بالطبع، إذْ أنّ ما يجمع أمريكا والاحتلال أكثر من مجرد «علاقة عاطفية» كما أسماها جورج و. بول ذات يوم؛ والإبادات، صناعة أو تورطاً أو مساندة، شواهد راسخات.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الميدان يرد بندية على ورقة المبعوث الأمريكي الملغّمة
وسام رفيدي
تماسك أبناء المجتمع المقدسي ليس خيارًا بل ضرورة وجودية
معروف الرفاعي
المطاردون
حمادة فراعنة
فيروز أيقونَة الغِناء الشَّرقي.. وسيّدة الانتظار
سامية وديع عطا
السلم الأهلي في القدس: ركيزة لحماية المجتمع المقدسي ومواجهة الاحتلال
الصحفي عمر رجوب
إسرائيل تُفاقم الكارثة الإنسانية في غزة
حديث القدس
شتاء غزة.. وحل الحرب وطين الأيام
بهاء رحال
المقاومة موجودة
حمادة فراعنة
وحشية الاحتلال بين الصمت الدولي والدعم الأمريكي
سري القدوة
هوكشتاين جاء بنسخة لبنانية عن إتفاق أوسلو!
محمد النوباني
ماذا وراء خطاب نتنياهو البائس؟
حديث القدس
مآلات موافقة حزب الله على ورقة أمريكا الخبيثة
حمدي فراج
الأكثر تعليقاً
أبو الغيط: الوضع في فلسطين غير مقبول ومدان ولا يجب السماح باستمراره
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
ضابط إسرائيلي يهرب من قبرص بسبب غزة
سموتريتش يضع البنية التحتية المنطقة (ج) في مهبّ أطماع المستوطنين
مصطفى: الصحفيون الفلسطينيون لعبوا دورا محوريا في فضح جرائم الاحتلال
واشنطن ترفض قرار المحكمة الجنائية الدولية بإلقاء القبض على نتنياهو وغالانت
الأكثر قراءة
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
الأونروا: فقدان 98 شاحنة في عملية نهب عنيفة في غزة
بعد مرسوم بوتين.. هل يقف العالم على الحافة النووية؟
زقوت في حوار شامل مع "القدس".. خطة حكومية لوضع دعائم بناء دولة مستقلة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
ضابط إسرائيلي يهرب من قبرص بسبب غزة
أسعار العملات
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 9:43 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.74
شراء 3.73
دينار / شيكل
بيع 5.28
شراء 5.26
يورو / شيكل
بيع 3.96
شراء 3.95
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%54
%46
(مجموع المصوتين 80)
شارك برأيك
أمريكا وحروب الإبادة: سجل حافل بالصناعة أو التورط