بقلم: د. عبد الله أبو عيد
تمهيد"
أعلنت المحكمة الجنائية الدولية (المحكمة)، قبل أيام، أن المدعي العام للمحكمة كريم خان، أصدر مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بسبب جرائم، زعم المدعي العام بأن بوتن ارتكبها، أو أمر بارتكابها خلال الحرب في دولة أوكرانيا. وعلى رأس التهم الموجهة لبوتن نقل الأطفال والمدنيين الأوكرانيين خلال الحرب، إلى مناطق غير مناطق سكناهم، حتى الآن لم يَتضح ما اشتملت عليه لائحة الاتهام من تهم، إذ قد تكون هناك تهماً أخرى مثل قتل المدنيين عمداً أو التدمير المتعمد للأبنية المدنية، أو غير ذلك من التهم الواردة في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (النظام الأساسي).
قد يعتقد العديد من الناس بأن بوتين رئيس دولة لذلك لا يجوز محاكمته، إلا أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ينص على محاكمة الأشخاص الطبيعيين مهما علت مراتبهم ومراكزهم السياسية والقانونية، أي أنه لا حصانة للأفراد حتى ولو كانوا رؤساء دول، وذلك ما تنص عليه (المادة 27) من النظام الأساسي.
شروط قبول الدعوى:
يشترط لقبول أية دعوى ضد مسؤول في احدى الدول أن يتوفر أحد الشروط التالية على الأقل:
1- أن تكون الدولة التي يكون المتهم أحد أفرادها، عضواً في المحكمة أو أن تكون الدولة التي تضررت وتضرر مواطنيها من أفعال المتهم، عضوّاً في المحكمة.
2- أن تقدم الدولة المشتكية، إذا لم تكن طرفاً في المحكمة، طلباً يودع لدى مسجل المحكمة، تطلب فيه من المحكمة أن تمارس اختصاصاتها فيما يتعلق بالجريمة، وبالجرائم ذات العلاقة.
مازال وضع دولة أوكرانيا، فيما يتعلق بالدعوى المشار اليها أعلاه، غير معروف، أي هل هي طرف في نظام المحكمة أم لا.
3- بالإضافة لذلك فإنه بموجب النظام الأساسي، يستطيع المدعي العام أن يقدم إلى هيئة ما قبل المحاكمة (Pre- trial chamber) طلباً للسير في اجراءات محاكمة شخص أو اشخاص استناداً لما جمعه ضده أو ضدهم من أدلة قوية، شريطة أن يكون المدعي العام قد جمع معلومات مؤكدة ومدعمة بالأدلة الثبوتية التي جمعها ضد المتهم أو المتهمين (المادة 15 من النظام الاساسي).
لذلك نرى بأن النظام الاساسي منح المدعي العام صلاحيات واسعة وعلى رأسها حقه في تقديم طلب للتحقيق مع أي متهم بعد جمع الأدلة على ارتكاب ذلك المتهم احدى الجرائم الاربعة التي هي ضمن اختصاص المحكمة وفقاً لنص المادة الخامسة من النظام الأساسي.
لهذا السبب، كنت قد نبهت في احد مقالاتي قبل حوالي عام، على خطورة تسلم كريم خان، البريطاني الجنسية والباكستاني الاصل، لوظيفة مدعي عام المحكمة، وقد تحققت توقعاتي، إذ أنه منذ تسلمه لمركزه كمدعٍ عام، في تموز 2021، عمل على تعطيل كافة القضايا المقدمة من فلسطين ضد المتهمين الاسرائيليين، ولم يتقدم في اجراءات المحاكمة رغم مرور أكثر من 20 شهراً على استلامه وظيفته.
التهم الموجهة للرئيس بوتين:
حتى الآن لم تتضح التهم الموجهة إلى الرئيس بوتين إلا أننا يمكننا أن تستنتج مما أذيع في الأخبار بأن على رأس التهم تهمة (نقل أطفال أوكرانيين إلى مناطق سيطرة الجيش الروسي، أي ابعاد هؤلاء الأطفال عن مكان اقامتهم عنوة) وهي احدى الجرائم المعتبرة ضمن / الجرائم ضد الانسانية) المنصوص عليها في الفقرة 2 (و) من المادة السابعة من النظام الاساسي للمحكمة، مع العلم بأن مصادر روسية ادعت بأن هؤلاء الأطفال هم جرحى أو فقدوا أهاليهم، وثد نقلوا لعلاجهم وحمايتهم، خاصة وان غالبيتهم من أصل روسي.
زيادة على ذلك، فإنه من المحتمل أن تكون هناك جرائم أخرى ضمن الجرائم التي تختص بنظرها المحكمة، وسوف يتضح الأمر بعد ايام.
هل يحق للمحكمة محاكمة الرئيس بوتين؟
من الناحية النظرية والقانونية فإن ذلك يعتبر عملاً جائزاً وله أسانيد في نصوص النظام الاساسي للمحكمة.
على الرغم من ذلك، فإن طلب المدعي العام محاكمة رئيس دولة عظمى، عضو في مجلس الأمن، انما يعتبر، من الناحية الواقعية وفي نظر الملايين من البشر، عملاً سياسياً محضاً يراد به تلطيخ سمعة بوتن، وتهديد روسيا بأنها سوف تخسر سمعتها وكرامتها إذا ما استمرت في هجومها على أوكرانيا.
والسؤال الذي يسأله ملايين البشر في جميع أنحاء العالم، لماذا لم يتقدم المدعي العام طلباً لمحاكمة رؤساء دول آخرين قاموا بارتكاب أخطر الجرائم الدولية وهددوا السلم والأمن العالميين، خلال مدة اختصاص المحكمة التي تبدأ في تاريخ 1/7/2002 ولماذا لم يطلب المدعي العام محاكمة الرئيس بوش الابن الذي شن حرباً عدوانية على العراق في آذار 2003، دمر خلالها الجيش العراقي، وأعدم رئيس الدولة العراقية. وكذلك فإن الرئيس الفرنسي والرئيس أوباما ساهما في تدمير ليبيا وقتل رئيس الدولة بهجوم قوات حلف شمال الأطلسي على ليبيا عامي 2011 و 2012.
وهناك عشرات الأمثلة مثل العدوان المستمر على سوريا من قبل الولايات المتحدة واسرائيل وعشرات الاعتداءات المستمرة من قبل دول استعمارية في دول من دول أمريكا اللاتينية وافريقيا.
لكل هذه الأسباب، فإنه من الجلي أن التهم الموجهة إلى بوتين انما هدفها سياسي، قبل أن يكون انتصاراً قانونياً لحقوق الشعوب، وإلا فإن الجميع يتساءل، لماذا لم يهتم المدعي العام كريم خان بمتابعة قضايا فلسطين المقدمة ضد عشرات المسؤولين الاسرائيليين بتهم متكررة ومستمرة وتحدث علناً وجميعها تعتبر ضمن الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب، مثل القتل العمد للمدنيين خارج نطاق القانون، والطرد من الوطن ونقل المدنيين إلى خارج أماكن اقامتهم (وهي نفس الجرائم المتهم بها بوتن). بالإضافة إلى سرقة الأراضي واستيطانها وسرقة المياه، وسجن وتعذيب آلاف المواطنين ومنع جمع شمل العائلات و و ... عشرات الجرائم والمخالفات الخطيرة لقواعد القانون الدولي.
لذلك فإن اتهام الرئيس بوتن، انما يعتبر (كلمة حق يراد بها باطل) وهي أعمال انتقائية تعتبر مؤشراً واضحاً على ازدواجية المعايير وتطبيق القواعد القانونية الدولية واستغلالها للانتقام من الخصوم السياسيين وغض النظر عنها وعدم تطبيق أيّاً منها على الحلفاء والأصدقاء. وهو تشويه فاضح للقانون الدولي وجريمة ضد المجتمع الدولي وخرق لمبادئ حقوق الإنسان ولنصوص ميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذي قد ينشأ عنه تهديداً للسلم والأمن الدوليين، خاصة وأن المتهم في هذه القضايا هو رئيس دولة عظمى مفصلية في عملية حفظ وصيانة السلام العالمي والأمن الدولي.
وفي الختام أشير إلى أن الوضع الحالي يشبه الأوضاع التي سادت العلاقات الدولية قبيل الحرب العالمية الثانية في ثلاثينيات القرن العشرين، الأمر الذي يدعو إلى الحذّر وعدم التصرف بشكل أهوج ومزاجي، إذ أن الأوضاع من الممكن أن تتطور وتتدهور العلاقات بين الأطراف الدولية المتقاتلة إلى أسوء الاحتمالات.