أقلام وأراء

الإثنين 26 فبراير 2024 9:58 صباحًا - بتوقيت القدس

متلازمة الموت في النّص الأدبي الغزي

عندما أصدرتُ نصّي الشعري (فائض بالموت) عام 2020، اعترض عدد من الأصدقاء على العنوان، ويبدو أنّهم استذكروا ما قاله الشاعر محمود درويش: {{وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ/ وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا/أَوْ نَخِيلاَ/ نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ}}. و/أو أنهم استذكروا قول الشاعر معين بسيسو: {{نعم لن نموت، ولكنّنا سنقتلع الموتَ من أرضنا}}، وكانت إجابتي بأنّ الموت في حياة الفلسطيني فاضَ عن معدلات الموت الطبيعي بالمجازر التي يتعرّض لها منذ نكبته الأولى. (لو) كان الشاعران درويش وبسيسو بيننا اليوم هل سيعيدان النظر فيما كتبا، ولا أظنّ أن (لو) هنا تفتح عمل الشيطان.

لماذا الكتابة عن فكرة الموت اليوم ؟!

في العصر الحديث تعرّض الشعب الفلسطيني للعديد من المجازر، داخل فلسطين التاريخية وخارجها، إلا أنّ تلك المجازر قد يُنظَرُ إليها اليوم بأنّها كانت ضمن حدود قبول العقل لها، رغم التأكيد على أنّ المجزرة هي مجزرة بغضّ النّظر عن طبيعتها وحجمها وعدد الضحايا التي تحصدها. إنّ المجازر التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني اليوم في قطاع غزّة لا يمكن لأيِّ عقل طبيعيّ أن يتخيّلها، وهنا أستيعد ما كتبه الشاعران درويش وبسيسو في تحديهما لفكرة الموت. وأمام مشهد حصد أرواح مئات الأبرياء يوميا، وعلى مدار مئة وواحد وأربعين يوما بشكل متواصل هل يمكن لهما أن يتحديا فكرة الموت بذلك القدر من التفاؤل على اقتلاعه، والبحث عن أبواب ونوافذ لمواصلة الحياة "إذا ما استطعنا إليها سبيلا" وقد انقطعت أمامنا السبل لتحقيق ذلك ؟ إنّ الإجابة على هذا التساؤل تقتضي العودة لما يكتبه الكتّاب الفلسطينيون اليوم الموجودون داخل قطاع غزة، وليس ما كتبناه نحن الذين نعيش خارج الحدود المكانية للقطاع.

نرصد ما يكتبون

منذ بدء جريمة الإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في قطاع غزة كان عدد منّا يحاول تتبع ما يكتبه الأصدقاء والصديقات في قطاع غزة على صفحات التواصل الاجتماعي حول واقع الحال هناك، أو عن تجاربهم الشخصية. كنّا ندخل إلى صفحاتهم الخاصة لنطمئن عليهم بشكل أساسي، ثم لنقرأ ما يكتبون عن جريمة العصر التي أراد لها المحتلون وشركاؤهم أن لا تُبْقِي ولا تذر من البشر والشجر والحجر. وإن كانت مشاهد هذه الجريمة بأدقِّ تفاصيلها ماثلة للعيان، إلا أنّ مرتكبيها خططوا لإخفاء آثارها بحصد أرواح العشرات، بل والمئات من الشهود الذين كانوا ينقلون الصورة، ويتحدثون عن مفاعيلها من صحفيين وإعلاميين وكتّاب وفنانين وأكاديميين ومفكرين ومثقفين وغيرهم، ونتمنى أن يكون الكاتب أيمن الرفاتي (الذي أستشهد يوم الأربعاء 14/2/2024) آخر الشهداء.


من المبكِّر جداً رصد وتحليل ما كتبه "الغزّيون" عن حرب الإبادة الجماعية هذه، ومن المبكّر أيضاً الكتابة عنها، وبخاصة في السرد القصصي والروائي، أمّا في الشعر فقد تم رصد بعض ما كتبه الشعراء هناك، فالشعر هو أكثر فنون الكتابة استجابة للحدث. لكنّ للصديق الشاعر جواد العقّاد وجهة نظره في سرعة استجابة القصيدة للحدث. "القصيدة في زمن البؤس"... تحت هذا العنوان كتب جواد العقّاد: "لا أعرف إن كانت كتابة الشِّعر في الوقت الراهن ممكنة، أم أنها ضربٌ من العبث، وهل يستطيع تجسيد الكارثة بكل أبعادها وفضح آلامنا التي لا تستوعبها القصيدة فتبقى في العراء تطفح بالدم.. ". وتساءل: كيف يمكنني -وأنا الشاعر البائس الذي أعيش الحالة بكل تفاصيلها - تحويل ركام المدن الهائل إلى مشاعر، ومن أي باب أعبر صحراء نفسي إلى القصيدة؟ لا أعرف إجابات هذه الأسئلة!".


ذلك ما قاله الشاعر، فماذا يقول السارد. الصديق الروائي عمر حمّش: "إن ما جرى في غزة قد يتناوله شاعرُ لحظةٍ، أو موثقٌ بقلبٍ نشف. أما نسّاج الرواية فليس لهم سوى الانتظار، حتى يختمر بعضٌ من الخمائر؛ إن اختمرت". وأضاف: إن للسرد الأدبي هدفين: الإمتاع، والإفادة". وتساءل: "كيف سيكون الإمتاع في سرد ما لا يوصف من مجازر، وكيف سنسبك من فظاعتها دراما بفنونها في نص روائيّ؟ وكيف لصاحب قلب مبدعٍ أن يجلس، ويصوغ بعضا مما جرى؟ وكيف سيتلقى المتلقي[ بمتعةٍ] ذاك السرد المصوغ؟".


في الثامن من شباط (فبراير) 2024 أصدرت وزارة الثقافة الفلسطينية كتابا بعنوان "الكتابة خلف الخطوط".


 تضمّن الكتاب الذي لم يتسنِ لي الاطلاع عليه حتى الآن مساهمات لخمسة وعشرين كاتباً وفنّاناً من قطاع غزّة، توثّق حياتهم الشخصية وتفاصيل معيشتهم خلال الإبادة الجماعية المستمرّة، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. لا أعتقد بأنّ كتابا كهذا يفي الغرض لإنجاز دراسة حول النّص الأدبي (الغزي) في هذه المرحلة، وبالتأكيد، ولا هذه المقالة التي سأحاول فيها رصد بعض ما كتبه الأصدقاء والصديقات عن فكرة الموت تحديداً في نصوصهم المقتضبة والسريعة.

في مواجهة الموت، أم في انتظاره
في ظلّ القصف الوحشي الذي تتعرض له مدن ومخيمات وبلدات قطاع غزة، يطارد هاجسُ الموت كلّ فلسطيني موجود اليوم في القطاع، وكأيّ إنسان يعيش هناك اليوم، فإنّ الكُتّاب الذين قضى بعضهم شهيداً كالصديق سليم النّفار، أو أُجبِرَ على النزوح إلى مدرسة أو خيمة إيواء وقد تهدّم بيته وتبعثرت مقتنيات مكتبته، فَقَدَ أبسط وسائل الكتابة والاتصال مع العالم. لقد عبّر الصديق الشاعر عثمان حسين، ابن مدينة رفح، عن هذه الحالة كاتبا: "أن تكتب تحت القصف المدفعي المتواصل، وفي ساعة متأخرة، كمن يرصد الحياة، وهو يرى ويسمع صرخات الموت عالقة فيه كذيل نيزك. عما ستكتب يا من نجوت دون أن تدري، وتعلم أنّ لا أحد سينجو؟." وفي نصٍّ آخر يكتب عثمان حسين عن الموت في مدينته "رفح": مات مَنْ مات واستشهد، و يموت مَنْ يموت ويستشهد، وهذه الكتلة البشرية الهائلة والمحشورة في بقعة لا تكفي لربع النازحين إلى هذه المدينة البائسة، في حالة موت مستمر إلى أن أمسى الموت طاقة تحرك الناس وتمنحهم القدرة على الحركة، والبحث عن سبل النجاة المؤقتة". وهنا لا بدّ من التوقف عند الجملة الأخيرة "النجاة المؤقتة".


وأمّا الصديقة الروائية والشاعرة نعمة حسن، فكتبت: "الخوف من مواجهة الأحياء كان أشدّ رعبا لديّ من الاعتراف بالموت". وفي كتابة أخرى لها طالبت ملك الموت أن يغيّر خطته، وتساءلت: " لماذا لا نموت دفعة واحدة وينتهي هذا الوجع والانتظار ؟ أتمنى أن يغيّر ملك الموت خطته".


كأنّ كلَّ مَن يعيش في غزة اليوم ينتظر الموت. "ما زلنا على قيد الحياة". هذه متلازمة قرأناها على صفحات العديد من الصديقات والأصدقاء، ومن بينهم الكاتب طلعت قديح الذي صرخ في وجه الموت: " يا موت، لا تكثر غرز مخالبك، فما فعلته في بضع أيام؛ جعلنا يتامى الفرح!". وفي نصّ آخر يقول: "ما تبقى؟!/ هل أكون تابوتا يوما/ أم ستلم أشلائي الشوارع/ قبل المطر/ وقبل أن نحضن كل الميادين/ وبدمانا/ نحن فرقى!". وفي نصٍّ ثالث يقول: "تِسعونَ مَوتًا وزورُ الشُّهودِ عَرب"... "يوما ما، إن عشنا؛ سنحكي الحكاية كاملة، دون نقص"...


الشاعر ناصر رباح تناول فكرة الموت بهذه الصورة الشعرية: "ومر يوم، ومدافع، غير أن جنازة جاري بطيئة، فمن يتعجل في مثل وقت كهذا! ومر يوم، ونشرات أخبار، وجاء المساء، وكان سعيداً قليلاً، حيث وجدنا، ولم يتغيب منا أحد سوى البيت". أليس البيت صورة من صور الموت أيضاً ؟!.

مَن لم يمت بالقصفِ مات بغيره
الموت الذي يتربّص بالغزيين لم يعد يقتصر على الموت بالقصف برّا وبحرا وجوّا، بل تعددت أسبابه كالجوع والبرد والخوف. ولنا أن نتخيّل عجزنا كآباء نذرنا أعمارنا لِنُطعِمَ أبناءنا من جوع بأننا أصبحنا غير قادرين على توفير رغيف خبز لهم، ليسَ بسبب ضيقِ اليد، وإنّما لفقدان الرغيف من السوق. الصديق الروائي يسري الغول يُلخِّصُ ذلك بقوله: "أطفالنا يتضورون جوعاً أمام عيوننا، ولا يوجد أي شيء في مدينة غزة". وفي نصٍّ آخر يقول: "في شمال غزة، نشتهي رغيف خبز". وفي نصّ آخر يقول: "كاد الناس لشدة الفقر وانتشار المجاعة يهلكون، فبحثوا عن الشعير في روث الإبل والجمال وأكلوه ، وهكذا نجوا ، وأمس قرأت وسمعت أن نصف مليون ممن ظلوا في شمال قطاع غزة صاروا يطحنون علف الحيوانات ليعجنوه ويخبزوه".


في رسالة تعب وعتب يكتب الصديق يسري الغول: "على صوت فيروز: الحلوة دي قامت تعجن م الصبحية... لا يوجد لدينا ما نأكله يا فيروز، ويا فنانين وكتّاب وسينمائيين"، وكأنّه يريد القول بأنّ مشهد الجوع لن يستطيع فنّان أو كاتب أو سينمائي رسم صورة له.


لعلّ الصديق الشاعر محمود جودة من أكثر الكتّاب الذين دار هاجس الموت فيما كتاباته. "توابيت وعرش من جماجم وطين لا ينسى". ذلك نصٌّ له، وفي نصٍّ آخر يكتب: "تنزح لتموت ألف مرّة، أو تبقى فتموت مرّة واحدة"! وفي نصّ ثالث يكتب: "لا أقول أننا في غزة عُذّبنا وقتلنا وتألمنا كما لم يتألم أحد بالعالم، بل ربما هناك من تألم أكثر منا بكثير، لكنّنا في غزة تألمنا بشكل مكثف وهائل في فترة قصيرة جدًا، أي أننا نُقتل على جوع وبرد وخوف وعتب وعشم كبير في نفس الوقت".


نقل الصديق محمود جودة ما كتبه الصحفي إبراهيم رابعة على صفحته عن موت والد الأخير ما يلي: "منشورات الأصدقاء في شمال غزة مش ترف ولا مناكفة ولا كذب .. المنشورات حقيقية والمجاعة حقيقية والموت أيضًا حقيقي، انظر الوقت بين المنشور والآخر ساعتين فقط .. أبو ابراهيم مات قهرا". وكان رابعة قد كتب: "يا جماعة قسما بالله فش أكل، الناس مش عارفة شو تاكل". وبعد ساعتين من منشوره هذا، كتب رابعة: "أبوي مات قهرا يا ناس".


لفت الصديق جودة انتباهي لصفحة الإعلامي إبراهيم رابعة فقمت بقراءة بعض منشوراته، وكان أغلبها عن الجوع، وفيما يلي أقتبس بعضها: "عارفين اللي مش لاقيين الخُبزة ؟؟ إحنا!... يا ناس وحياة ربنا انه الناس في شمال غزة ما هي لاقية تاكل... في شمال قطاع غزة، اللي ما مات من القصف حيموت من الجوع، وحياة ربنا ما في أي شي بيتاكل... كل دقيقة بتمر في ناس بتموت مليون مرة علشانها عاجزة أمام جوع أطفالها وبردهم...بدنا أكل وبدنا أدوية .. تشوّهت ملامحنا".

عودٌ على بدء
ما تقدّم جزءٌ مما استطعت رصده من كتابات على صفحات الأصدقاء من كتّاب قطاع غزة، وحول هاجس الموت الذي بدا وكأنّه متلازمة في كتاباتهم وآرائهم ووجعهم، ولعلّهم يتساءلون: عن أيّ استطاعة نملكها أمام هذا الموت لنعبر إلى الحياة ؟! وكم نحتاج إلى الشهداء حتى نقتلع الموتَ من أرضنا ؟! وأمّا نحن سوف نستمر بالكتابة عن اقتلاع الموت من أرضنا، وعن حبّنا للحياة إذا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

دلالات

شارك برأيك

متلازمة الموت في النّص الأدبي الغزي

المزيد في أقلام وأراء

نتانياهو يجهض الصفقة

حديث القدس

هل الحراك في الجامعات الأمريكية معاد للسامية؟

رمزي عودة

حجر الرحى في قبضة المقاومة الفلسطينية

عصري فياض

طوفان الجامعات الأمريكية وتشظي دور الجامعات العربية

فتحي أحمد

السردية الاسرائيلية ومظلوميتها المصطنعة

محمد رفيق ابو عليا

التضليل والمرونة في عمليات المواجهة

حمادة فراعنة

المسيحيون باقون رغم التحديات .. وكل عام والجميع بخير

ابراهيم دعيبس

الشيخ الشهيد يوسف سلامة إمام أولى القبلتين وثالث الحرمين

أحمد يوسف

نعم ( ولكن) !!!!

حديث القدس

أسرار الذكاء الاصطناعي: هل يمكن للآلات التي صنعها الإنسان أن تتجاوز معرفة صانعها؟

صدقي أبو ضهير

من بوابة رفح الى بوابة كولومبيا.. لا هنود حمر ولا زريبة غنم

حمدي فراج

تفاعلات المجتمع الإسرائيلي دون المستوى

حمادة فراعنة

أميركا إذ تقف عارية أمام المرآة

أسامة أبو ارشيد

إنكار النكبة

جيمس زغبي

مأساة غزة تفضح حرية الصحافة

حديث القدس

بمناسبة “عيد الفصح”: نماذج لعطاء قامات مسيحية فلسطينية

أسعد عبد الرحمن

شبح فيتنام يحوم فوق الجامعات الأميركية

دلال البزري

البدريّون في زماننا!

أسامة الأشقر

تحرك الجامعات والأسناد المدني لوقف لعدوان

حمزة البشتاوي

‏ آثار ما بعد صدمة فقدان المكان الاّمن – هدم بيتك أو مصادرته

غسان عبد الله

أسعار العملات

السّبت 04 مايو 2024 11:31 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.74

شراء 3.73

دينار / شيكل

بيع 5.3

شراء 5.27

يورو / شيكل

بيع 4.07

شراء 3.99

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%75

%20

%5

(مجموع المصوتين 210)

القدس حالة الطقس