في شوارع مدننا الفلسطينية، تتجاور أشكال معمارية متنافرة: بنايات زجاجية عالية بجانب منازل تقليدية، مراكز تجارية فخمة في أحياء بلا أرصفة، أحياء جديدة تُشبه كل شيء إلا السياق الذي بُنيت فيه، هذه الفوضى البصرية لا تُعبّر فقط عن تراجع التخطيط العمراني، بل تعكس أيضًا أزمة سردية معمارية في ظل صعود موجات "ما بعد الحداثة" المعولمة، والتي باتت تُهيمن على الأشكال والمفاهيم دون مساءلة، فهل دخلت العمارة الفلسطينية في مرحلة ما بعد الحداثة فعليًا؟ وهل تمثل هذه المرحلة تحررًا من الحداثة الاستعمارية أم ذوبانًا في عمارة بلا ذاكرة ولا هوية؟
ظهرت ما بعد الحداثة كرد فعل على الجمود الوظيفي والصرامة الشكلانية للحداثة، فجاءت بنزعة انتقائية، ترفض الكليات الكبرى، وتحتفي بالاختلاف والتعدد، وتدمج بين الأساليب والرموز والأنماط، دون التزام صريح بمرجعية واحدة، لكن هذه الحرية الشكلية تحولت – في كثير من التطبيقات – إلى فوضى مفاهيمية ومعمارية، تفكك العلاقة بين المبنى ومحيطه، وبين الشكل والوظيفة، وبين الإنسان والمكان، وهذا بالضبط ما يُهدد العمارة الفلسطينية المعاصرة: أن تُصبح مجرد "شكل" غير مرتبط بذاكرة، ولا ببيئة، ولا برسالة.
في المدن الفلسطينية وفي بعض مشاريع الإسكان الخاصة، نشهد ما يمكن وصفه بـ"عمارة الاستنساخ". مبانٍ تُحاكي النموذج الغربي أو الخليجي، دون تأصيل وظيفي أو رمزي محلي، تظهر عناصر الزخرفة، أو التكسية الحجرية، أو حتى القباب الصغيرة، لكنها تُستخدم كرموز سطحية، بلا عمق، وبلا امتداد فكري أو اجتماعي، وهنا يتجلى أحد أخطر ما أنتجته ما بعد الحداثة في السياق الفلسطيني: الانفصال عن السردية المعمارية الوطنية، التي كانت تقوم على الترابط بين الجمال والوظيفة، بين المعمار والهوية، بين الشكل والمقاومة.
ما يزيد هذا الانفصال تعقيدًا هو أن العمارة في فلسطين لا تُبنى في فراغ حر، بل تُشكَّل ضمن حدود مرسومة بالقوة الاحتلالية، فسياسات المنع، والمصادرة، والهدم، وتقسيمات أوسلو، كلها تُنتج "حيزًا مأزومًا"، لا يُسمح فيه للفلسطيني أن يبني بحرية، ولا أن يُخطط سياديًا، في هذا الواقع، يصبح استيراد النماذج الجاهزة – كما فيما بعد الحداثة – أسهل من إنتاج عمارة أصيلة، فتفقد المباني صوتها، وتُصبح نسخة بلا ذاكرة، وتتحول المدينة إلى معرض دون قصة.
في مواجهة هذه الفوضى، لا بد من استعادة العمارة كسردية تعبيرية للمكان والإنسان والنضال، لا نحتاج إلى تمجيد العمارة التقليدية أو تكرار أنماط الماضي، بل إلى:
1. إعادة قراءة التجربة المعمارية الفلسطينية ما بعد النكبة، بوصفها فعلًا سياسيًا وثقافيًا لا عمرانيًا فقط.
2. تفكيك الخطاب الانتقائي لما بعد الحداثة، ومساءلته ضمن السياق الاستعماري الذي نعيشه.
3. إنتاج نماذج معمارية فلسطينية معاصرة، تستلهم من التراث لا تقلده، وتشتبك مع الواقع لا تهرب منه.
4. دمج قضايا الأرض، والهوية، والعدالة الاجتماعية في صلب التصميم والتخطيط الحضري.
ما بعد الحداثة ليست شرًا مطلقًا، بل هي أداة قد تُستخدم لتحرير العمارة من الأيديولوجيات القمعية، شرط أن يُعاد توجيهها نحو قراءة محلية نقدية، ففي السياق الفلسطيني، يمكن تحويل مفاهيم ما بعد الحداثة إلى أدوات تفكيك للهيمنة البصرية والاستعمار الرمزي، بدلًا من أن تكون جسورًا للانغماس في نماذج استهلاكية جوفاء.
في فلسطين، العمارة ليست إطارًا للمشهد فقط، بل نصٌّ يُقرأ، ويُقاوم، ويُعبّر، وما لم نُنتج سرديتنا المعمارية، سنبقى نُشيّد مباني لا تسكننا، ونرسم مدنًا لا نعيشها، وننتمي لأماكن لا تنتمي لنا، لذلك، فإن استعادة الهوية في العمارة ليست واجبًا ثقافيًا فقط، بل فعل تحرر في وجه استعمار المكان والمعنى.
شارك برأيك
ما بعد الحداثة في فلسطين.. عمارة بلا سردية وهوية