أن تصل صحيفة القدس إلى العدد 20 ألفاً، يحمل دلالات مهمة حول قدرتها على الصمود والاستمرار، كمنبر إعلامي مهم، رغم التطورات والتحولات الهائلة في صنعة الإعلام والتكنولوجيا والتقنيات المستخدمة، لأنها ببساطة تحظى بثقة جمهورها الذي يعتمد عليها كمصدر أساسي للمعلومات، سواء في الضفة الغربية أو القدس أو مناطق أخرى.
مردّ ذلك هو مكانة "القدس" وريادتها كصحيفة شعبية ومؤثرة في الرأي العام الفلسطيني، نظراً لجودة المحتوى، والتغطية الشاملة، والمصداقية، والانفرادات الصحفية، ما انعكس في سعة الانتشار والتوزيع وهو ما جعل الأفراد والشركات والمؤسسات يفضلون الإعلان فيها، إلى جانب مكانة القدس كشريك فاعل في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والرياضية والإعلامية الفلسطينية.
صحيفة "القدس"، باعتبارها من أبرز المؤسسات الصحفية الفلسطينية، شهدت تحولاً نوعياً في بنيتها الإعلامية خلال السنوات الأخيرة، من خلال تبنيها المستمر للتطورات التكنولوجية، بما يواكب المعايير العالمية ويعزز من قدرتها على الوصول والتأثير. وكان أبرز ذلك من خلال التحول الرقمي وتوسيع النشر الإلكتروني حيث أنشأت الصحيفة موقعاً إلكترونياً متكاملاً (www.alquds.com)، يقدم محتوى متجدداً بشكل لحظي، يشمل الأخبار العاجلة، المقالات، التحليلات، والوسائط المتعددة، مما جعل الصحيفة حاضرة بقوة في الفضاء الرقمي. كما خصصت الصحيفة طاقماً متخصصاً لإدارة المحتوى الرقمي، يعمل على تحديث الأخبار باستمرار، وتقديم تغطية حيّة للفعاليات والأحداث. كما أطلقت القدس تطبيقاً للهواتف الذكية يدعم نظامي ، مما أتاح للجمهور متابعة الأخبار بسهولة، عبر إشعارات فورية ومحتوى مخصص حسب الاهتمام. كما طورت الصحيفة من أدواتها البصرية، حيث باتت تعتمد على الصور الاحترافية، ومقاطع الفيديو، والتقارير المصورة، والإنفوغرافيك، ما يجعل المحتوى أكثر جاذبية وتفاعلية. كما تمتلك القدس حسابات نشطة على مختلف المنصات تدار باحترافية عالية وتسهم في إيصال الخبر للفئات المختلفة من الجمهور.
لقد نجحت صحيفة "القدس" في التأسيس لنموذج صحافة فلسطينية متقدمة رقمياً، تجيد مخاطبة جمهورها عبر الوسائل التقليدية والحديثة في آنٍ واحد. وبفضل هذه الرؤية المستقبلية، لم تعد القدس مجرد صحيفة ورقية، بل أصبحت منصة إعلامية متعددة الوسائط، قادرة على المنافسة إقليميًا، والتموضع كمرجعية صحفية وطنية ذات ثقل جماهيري ومهني.
منذ تأسيسها على يد المرحوم الأستاذ محمود أبو الزلف عام 1951 شكّلت صحيفة القدس واحدة من أبرز معالم الصحافة الفلسطينية المعاصرة، وتمكنت على مدار أكثر من سبعة ويزيد عقود من أن تلعب دوراً محورياً في تشكيل الوعي الوطني الفلسطيني، وتوثيق الأحداث، ومواكبة النضال السياسي والاجتماعي، رغم تعقيدات الواقع والقيود المفروضة من الاحتلال الإسرائيلي.
كما تمكنت صحيفة "القدس" من تثبيت وجودها في قلب القدس، ما منحها موقعاً جغرافياً وسياسياً فريداً بين الصحف الفلسطينية. كما ولعبت صحيفة "القدس" دور الناطق غير الرسمي باسم الفلسطينيين، حيث عملت على تغطية كافة القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمس الشعب الفلسطيني. وحافظت على خط تحريري وسياسة تحريرية يعكس تطلعات المواطنين الفلسطينيين ، ويجسّد نبض الشارع الفلسطيني، دون الخضوع لأحد.
وعلى الصعيد الوطني عملت الصحيفة على توثيق الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين منذ انتفاضة الحجارة وحتى العدوان على غزة والقدس، وقدّمت تغطيات ميدانية شاملة. وساهمت في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية، من خلال التأكيد على رمزية القدس، ومكانتها في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي. وخلال الانتفاضتين، والعديد من المحطات المفصلية، كانت الصحيفة منابر للنقاش السياسي والفكري حول المقاومة، الحقوق الوطنية، وخيارات الشعب الفلسطيني.
صحيفة "القدس" هي بحق مدرسة صحفية فلسطينية ، حيث تخرجت من صحيفة القدس أجيال من أبرز الصحفيين الفلسطينيين، الذين تلقوا تدريباً مهنياً عالياً، وشاركوا لاحقاً في بناء مؤسسات إعلامية مستقلة، محلية ودولية. رسّخت الصحيفة تقاليد العمل الصحفي الاحترافي، بما يشمل التحقيقات، المقالات الرأي، الصحافة الاستقصائية، والتقارير الميدانية.
كما ساهمت صحيفة "القدس" في ربط الشتات الفلسطيني بالوطن، من خلال ملحقات وتقارير تبرز الحياة اليومية في الداخل، والهموم المشتركة، ولم تقتصر الصحيفة على الشأن السياسي، بل أسست منبراً رائداً في الكتابة الثقافية والفكرية، عبر استضافة أقلام نخبوية في مجالات الأدب، التاريخ، الفلسفة، والنقد الثقافي. كما عملت على إبراز الإبداع الفلسطيني، وتشجيع الكتّاب الشباب، وتوثيق الحياة الثقافية
إن الدور الذي لعبته صحيفة القدس في تاريخ الصحافة الفلسطينية يتجاوز وظيفة الإعلام إلى أدوار متعددة في التوثيق، والتنوير، والدفاع عن الهوية الوطنية. وقد استطاعت أن توازن بين المهنية الصحفية والالتزام الوطني، وبين الحضور الورقي والتطور الرقمي، ما جعلها مؤسسة راسخة في الوعي الفلسطيني، وجزءًا لا يتجزأ من معركة الوجود والصمود في القدس وفي كل فلسطين.
هناك الكثير من الصور والأخبار المؤلمة طالعتنا بها صحيفة "القدس" ليس أقلها الصور الأولى لمجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982، صور الشهداء في الصفحة الأولى، وبالأخص صورة والدة الشهيد ياسر حمدوني وهي تحمل نعشه، مشاهد الأمهات المفجوعات، البيوت المهدمة، والمشيّعين في جنازات الشهداء، أخبار اجتياح مخيم جنين عام 2002، التقارير الخاصة بالأسرى وعائلاتهم، أخبار وصور العدوان على قطاع غزة. وكذلك المشاهد المؤلمة للصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، ومحاولة اغتيال زميلها الصحفي علي السمودي التي رغم عملها في قناة الجزيرة، كانت تحظى بعلاقة مهنية وثيقة مع الصحيفة وقرائها، وغطّت معهم ميدانيًا لعقود.
في بيئة إعلامية معقدة ومحاطة بالقيود، استطاعت صحيفة القدس أن تكرّس ذاتها كمنصة حرة للرأي والتعبير، متمسكة بمسؤوليتها الوطنية والاجتماعية والمهنية. فمنذ انطلاقتها تأسيسها وحتى اليوم، جسدت الصحيفة نموذجاً يُحتذى في الدفاع عن حرية الكلمة، وتوفير مساحة للتعددية الفكرية والسياسية، والتعبير عن الرأي العام الفلسطيني بمختلف أطيافه.
وعلى الرغم من عملها في بيئة خاضعة للاحتلال الإسرائيلي، مارست صحيفة "القدس" دوراً شجاعاً في نشر الأخبار والتحقيقات والمقالات التي توثق انتهاكات الاحتلال، وتنتقد ممارساته بحق الشعب الفلسطيني. وعلى الرغم من أنها حتى اللحظة تواجه صحيفة القدس رقابة مشددة، وتهديدات متكررة من الاحتلال، وعمليات تضييق على توزيعها واعتقال بعض صحفييها، لكنها استمرت في نشر الحقيقة، وفضح السياسات القمعية، مما يعكس التزاماً عميقاً بحرية التعبير والرأي والصحافة.
كما فتحت صحيفة "القدس" صفحاتها لكافة أطياف المجتمع الفلسطيني، بمن فيهم المعارضون السياسيون، والنشطاء الحقوقيون، والأكاديميون المستقلون، في وقت كانت فيه المساحات الإعلامية الأخرى ضيقة أو منحازة. ونشرت الصحيفة مقالات نقدية تطرقت إلى قضايا داخلية مثل الفساد، الانقسام السياسي، ضعف المؤسسات، والحريات العامة، دون رقابة ذاتية أو تماهٍ مع الخطاب الرسمي، وهو ما رسخ ثقة الجمهور بها كوسيلة إعلامية مستقلة.
كما تبنت صحيفة القدس على مر السنوات موقفاً واضحاً في الدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية، وعلى رأسها حرية الرأي والتعبير، وحق التظاهر، وحرية تكوين الجمعيات.
وفي تغطياتها، أعطت مساحات واسعة للنشطاء والمؤسسات الحقوقية لتسليط الضوء على الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون، سواء من الاحتلال أو من السلطة الوطنية الفلسطينية، مما يعكس التزامها بالمهنية والعدالة.
ومن خلال أعمدتها اليومية، وأعمدة الرأي، والمقالات التحليلية، ساهمت القدس في ترسيخ ثقافة الحوار، واحترام الرأي الآخر، وإفساح المجال للنقاش البناء بين مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية. وساعدت الصحيفة على كسر حاجز الخوف في التعبير، خاصة في مرحلة ما بعد أوسلو، حيث تصاعدت الرقابة الداخلية وتضييق الحريات، وكانت بمثابة "صمام أمان" للصحفيين والمثقفين في التعبير عن آرائهم . وبالتالي لم تكن صحيفة "القدس" مجرد ناقل للأخبار، بل كانت مدافعة نشطة عن حرية الكلمة، وسعت للحفاظ على التوازن بين العمل في بيئة مضطربة، والتمسك بثوابت حرية الإعلام. لم تتردد في طرح الأسئلة الكبرى عن أداء الحكومة، وطرحت مطالب الناس بوضوح، مما جعلها أداة ضاغطة في وجه أي ممارسات تعيق الحريات أو تقمع الرأي العام.
من وجهة نظري المتواضعة تمثل صحيفة "القدس" ركيزة أساسية في بنية الإعلام الفلسطيني الحر، إذ لم تكن مجرد ناقل للمعلومة، بل مؤسسة لعبت دوراً محورياً في صون حرية الرأي والتعبير، وحماية التعددية، وتعزيز ثقافة حقوق الإنسان. وتجربتها تشكل مرجعاً مهماً في فهم العلاقة بين الإعلام والسلطة، وبين الصحافة والمجتمع، في سياق الاحتلال والقيود الداخلية. لقد أثبتت صحيفة "القدس" أن الصحافة يمكن أن تكون خط دفاع أول عن الحريات، ورافعة للوعي، ووسيلة للتحرر الوطني والاجتماعي، ما يجعلها أكثر من صحيفة، بل مؤسسة وطنية وثقافية بامتياز.
أخيراً، التحية لإدارة صحيفة القدس، وإلى رئيس التحرير والمحررين، وإلى جميع المراسلين، الذين يعملون في الميدان، ويمدون الصحيفة بالأخبار والتقارير والمعلومات والشهادات من عين المكان ، لكم منّي التحية والتقدير، فأنتم جنود الكلمة والصورة، وسفراء الحقيقة في زمن التضليل. وعلى الرغم مما تتعرضون له من ضغوط، ومعوقات، ومخاطر في سبيل أداء رسالتكم النبيلة، ومع ذلك، تواصلون بثبات وشجاعة إيصال الحقيقة والدفاع عن حرية الكلمة، في كل الظروف.
.............
لم تكن صحيفة "القدس" مجرد ناقل للأخبار، بل كانت مدافعة نشطة عن حرية الكلمة، وسعت للحفاظ على التوازن بين العمل في بيئة مضطربة، والتمسك بثوابت حرية الإعلام. لم تتردد في طرح الأسئلة الكبرى عن أداء الحكومة ، وطرحت مطالب الناس بوضوح.
شارك برأيك
صحيفة القدس.. الناطق غير الرسمي باسم الفلسطينيين