في قصيدة "ولد الهدى" التي وضعها الشاعر أحمد شوقي يقول بيتان فيها عن الحرب ما يلي:
الحرب في حق لديك شريعة... ومن السموم الناقعات دواء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته... فجميع عهدك ذمة ووفاء
فالحرب هنا كما يصفها شوقي هي ضرورة من ضرورات الحياة ومشروعة حين تؤدي إلى حل المعضلات التي لم يكن يسيراً حلها بالتفاوض. ولكن الحرب متى ما وضعت أوزارها، واتفق الفرقاء فيها على عهد السلم وعدم الاعتداء على الآخر، فإن خلق الشخص القويم يمنعه من الغدر ونقض العهد الذي قطعه.
وفي عام 1939، نشرت الفيلسوفة الفرنسية سيمون فايل أطروحة من 24 صفحة حول ما يمكن استنتاجه عن الطبائع البشرية كما تصفها ملحمة الشاعر الإغريقي هوميروس الموسومة "الإلياذة". وقد بينت فايل أن تلك الملحمة تسعى إلى جعل الحروب أكثر نبلاً، لأن أبطالها، أمثال "أخيل" أو "أغاممنون" أو "هيكتور"، يؤمنون بالفداء والبطولة والمجد. وهم أحرص على الموت التزاماً بهذه المبادئ السامية على أن يعيشوا لأنهم خانوها أو حادوا عنها.
ولكن أطروحتها التي نشرت في نفس العام الذي اشتعلت فيه الحرب العالمية الثانية، وهو 1939، لقيت اهتماماً خاصاً لما نشر ستيفن بينكر كتابه الموسوم "الملائكة الأفضل في الطبيعة البشرية" أو بالإنكليزية The Better Angels of Our Nature، حيث يصل إلى الاستنتاج أن الناس صاروا أقل ميلاً للحروب أو في البشاعة في القتل، وفق ما توصل إليه من دراسات وإحصائيات متصلة عن الحروب، وعدد القتلى فيها.
ولكن بعض الباحثين والمعلقين على كتاب بينكر قالوا إن النتائج التي توصل إليها ما كانت لتقبل بها الفيلسوفة الفرنسية فايل، لأنها كانت أميل للاعتقاد بأن من الصعب السيطرة على نزعة القتال والقتل في الطبيعة البشرية، وذلك لأن معظم من قرأ أدبياتها اعتقدوا أنها تميل إلى الاستنتاج أن البشر أقرب في طبيعتهم إلى العنف.
أما ملحمة الشاعر هوميروس الثانية والموسومة "أوديسي" فهي تصف رحلة ملك مدينة "إيثاكا" المسمى هيركوليس أو هرقل وهو في طريق عودته بعد انتهاء حرب قرطاجة الموصوفة في ملحمة الإلياذة. ونعلم أن هيركوليس كان قد عانى أثناء رحلته من العذاب والويل، قبل أن يتمكن من الرجوع إلى قصره وزوجته بينيلوبي التي رفضت الزواج من الذين طلبوا يدها انتظاراً لعودة زوجها.
وقد اختار الأديب الأميركي الأرمني وليام سارويان أن يكتب قصة مستوحاة من "الأدويسي" بعنوان "المهزلة الإنسانية" أو The" Human Comedy" المنشورة عام 1943 أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد سمى بطل القصة "هومر ماكولي" والمدينة في كاليفورنيا هي "إيثاكا". وأما بطل القصة الغائب في الحرب فهو ماركوس أخو هومر الذي تنتظر أسرته عودته بفارغ الصبر. وتقع المأساة لما يستلم هومر رسالة فيها خبر قتل أخيه ماركوس في الحرب.
وهكذا اختار سارويان أن يجسد مأساة الحروب وأثرها على الناس الذين يتعذبون ويعانون لأنهم "أضرار جانبية" أو ما يسمى Collateral Damage، وهو نفس الاصطلاح الممجوج الذي سمعناه في الحروب البشعة في فيتنام وأفغانستان والعراق وحروب غزة وجنوب لبنان وسورية وغيرها.
ولسنا هنا بصدد تحليل ما يفعله الجيش الإسرائيلي في غزة، وما يرتكبه من فظائع وجرائم تقشعر لها الأبدان. ولكن لا شك في أن الإحصاءات العالمية السكانية تقول لنا إن عدد سكان العالم قد وصل إلى أول مليار نسمة في مطلع القرن التاسع عشر، وتضاعف هذا الرقم إلى مليارين عام 1927، وارتفع إلى أكثر من ذلك بقليل عام 1939 عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، وقتل فيها حوالي 3% من سكان العالم. ولكن عدد سكان العالم منذ عام 1927 صار الآن أربعة أضعاف ما كان عليه حيث يزيد الآن على ثمانية مليارات نسمة.
وصار هذا العالم أكثر ازدحاماً وارتفع فيه عدد المدن الكبرى Mega Cities إلى 53، يسكن فيها أكثر من 650 مليون نسمة. وهذه المدن هي غابات بشرية وفيها طبقات وطبقات من المنظمات غير المسجلة والتي تتحكم كثير منها برقاب الناس. ويعاني معظمها من الازدحام والاكتظاظ والفقر والجوع وعوالم تحت الأرض وغير القانوني والجرائم المنظمة والفردية.
ومن مشاكل الزحام أنه ليس حكراً على الفقر والبطالة والجوع والاستغلال، بل إن أهم مشكلة فيه ضياع الخصوصية وانكشاف الناس بعضهم على بعض وسقوط منظومات القيم بسهولة، واعتبار المتعاطين في الأحياء الدنيا من تلك المدن أن الحياة إما قاتل وإما مقتول، ما يجعل شبابهم خاصة يستسهلون القتل.
وكذلك فإن اتساع الاستهلاك وتطور التكنولوجيا وسوء توزيع الدخل والثروة وهيمنة الأغنياء على الحكم أو ما يسمى "بلوتوكراسي" هو النظام الذي يزحف ويعشش داخل الهياكل السياسية ويسيطر على قراراتها، ولذلك فإن العالم أصبح أكثر عدوانية واستسهالاً للقتل والاعتداء.
وتؤيد ذلك أيضاً شواهد مختلفة، وهي كثرة الحروب داخل الدول وبين الجيران. وحروب الجيران إما أن تكون مباشرة على تباين المصالح أو الطمع في موارد الجار، أو أن يأتي التحفيز إليها من الدول الكبرى التي تتخذ كل واحدة منها أحد الجيران حليفاً، وأخرى تتخذ جاراً آخر حليفاً، وتقوم الحروب بالإنابات تجنباً للمواجهات بين الدول الكبرى نفسها. ويقال إن هناك ثمانين حرباً داخلية وإقليمية بعضها مشتعل وبعضها راكد ينتظر من يحرك جمراتها ويوقظ لهيبها. والعجيب أن هوليوود منذ عام 1920 وهي تنتج أفلاماً عن الصراع على الموارد، مثل الفلمين "ديون" أو "تلال الرمل"، وفيلم "أفاتار" وغيرهما. وقد وضع بعضها في إطار مستقبلي بعيد وعلى كواكب غير الأرض.
ولكن هناك أيضاً قصصاً عن الصراع على الأرض كثيرة، فهل كانت هوليوود تعد أذهاننا وتعيد ترتيب أفكارنا لكي نقبل بأن الصراع على الموارد والمعادن والعقار له مبررات مشروعة، حتى وإن أدى إلى قتل البشر وتشويههم. البعض، مثل رجل الأعمال طلال أبو غزالة، لم يتوقف عن التنبؤ بحرب عالمية شاملة، ولعل خبرته على جانبي المحيط الهادئ في الصين والولايات المتحدة والعلاقات التجارية والخدمية معهما تتيح له أن يرى ما لا يراه كثيرون آخرون.
ولكن الحديث بإصرار وقطعية عن قرب انفجار حرب عالمية ثالثة أمر يتطلب ترتيباً وحكمة. وأتذكر هنا العالم ألبرت آنشتاين الذي قال: "لقد استخدمنا الطائرات القاذفة في الحرب العالمية الأولى والقنبلة النووية في الحرب العالمية الثانية، وقتلنا فيهما ملايين البشر. وربما نستخدم علم الفضاء في الحرب العالمية الثالثة. وحينها سنحارب الحرب العالمية الرابعة بالفؤوس والمجاريف".
والسؤال الذي أريد أن أطرحه هنا، وهو أن الأهل في قطاع غزة قد خسروا ربما ما يزيد عن 70 ألف شهيد بين طفل وطبيب ومسعف وممرض ورجال ونساء وكبار في السن، وآخرين ما يزالون مفقودين، ولا شك في أن الأطفال قد رأوا من الويلات ما لا يحصل في أبشع الكوابيس، ورأوا الموت يدانيهم ويجافيهم كل ساعة من ساعات اليوم. هؤلاء الأطفال كيف ستكون نظرتهم للحياة عندما يكبرون؟ البعض سيقول إن بعضهم سيكون شخصاً حليماً صبوراً يحب الناس لكي لا يعانوا مثل معاناته. وآخرون قد يرون فيه شخصاً صارماً قوي الشكيمة لا ينحني للصعوبات التي تعوّد عليها وقاسى من أشدها مرارة لمدة تزيد حتى الآن على 520 يوماً وربما أكثر. أي صعوبات هذه ستقف مستقبلاً في طريقه؟
ما يجري في غزة أولاً والضفة الغربية من احتلال وقمع وقتل وتدمير وخلع للأشجار وتدمير لدور العبادة والمدارس والمشافي والطرق والبنى التحتية لا يستطيع العقل أن يستوعبه. ولكن هل يعني هذا أن إسرائيل التي يطبق جنودها مبدأ "اقتلوا الأطفال الفلسطينيين لكي لا يقتلوكم في المستقبل" هو ما يجعل إسرائيل أكثر أمناً ونجاة للقاطنين فيها؟
كثير من المحللين اليهود، من إسرائيليين وغيرهم، ترسخ لديهم الاعتقاد بأن ما قام به نتنياهو وأعوانه وجنوده هو هدم لأمة إسرائيل مع الزمن. كل هذا قد يكون صحيحاً وقد يكون خاضعاً للتساؤلات.
الشاعر المصري "مأمون الشناوي" قال:
"لا تسأليني فكم أهل الهوى سألوا
هل يصدق الدهر فيما يرسم الأمل
وهل يطول بأحلام الهوى الأجل
لا تسأليني فإني خائف وجل
لا ينقص البدر إلا حين يكتمل"
والفكرة مأخوذة عن أبي البقاء الرندي الذي رثى الأندلس بقصيدته الشهيرة:
لكل شيء إذا ما تم نقصان... فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الدنيا - كما شاهدتها - دول... من سره زمن ساءته أزمان
شارك برأيك
هل أصبحت الحروب أكثر وحشية