لم تكن منظمة التحرير الفلسطينية يوماً مجرّد إطار مؤسسي، بل كانت وما زال يفترض وجودها بمكانة حركة التحرر الوطني الجامعة، التي مثّلت التقاطع الوطني الفلسطيني الأوسع، وقاطرة النضال من أجل إنهاء الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال الوطني. إنها التعبير الأصدق عن وحدة الهوية السياسية لشعب يعيش على امتداد المنفى والشتات، وتحت نير الاستعمار الاستيطاني، هكذا كانت، وهكذا يجب أن تبقى وترتقي بدورها.
من هنا، كان من الخطأ الجسيم والخلل المفاهيمي، أن نُسرع في الاعتقاد بإمكانية بناء مؤسسات دولة مستقرة ذات سيادة ومتواصلة تحت حراب الاحتلال، قبل أن يُنجز الهدف الأساسي الذي وُلدت المنظمة من أجله وهو إنهاء الاحتلال أولاً.
لقد بدت تلك المقاربة، التي تَبناها النظام السياسي الفلسطيني بعد أوسلو، وكأنها قفزة فوق جوهر الصراع، واستبدالاً لتحرير الأرض بترميم الذات في ظل الاستعمار الاستيطاني ومفاهيم الحركة الصهيونية العالمية. لكن الاحتلال لم يكن يوماً في وارد منح "دولة"، بل كان دائماً يعمل وفق عقيدته الثابتة والمتمثلة بالسيطرة والضم والتفكيك والإحلال.
فمشروعه السياسي لا يتغير، شطب القضية الفلسطينية من جذورها، واجتثاث كل مقاومة فكرية أو عملية لها في الإقليم، والتوسع بمشروع "إسرائيل الكبرى" في خارطة المنطقة دون مقاومة جدية تُواجهه في إطار ترتيبات "الشرق الأوسط الجديد"، وما يتطلبه من إيجاد "سلطات متجددة" توائم رؤيته.
لكن الرياح لم تجرِ كما اشتهت سفن تل أبيب وواشنطن، فالمفهوم الذي صُدّر للعالم عن "إسرائيل الضحية" لم يصمد أمام مشاهد محرقة القرن الـ ٢١ والإبادة الجماعية اليومية في غزة، بل في كل فلسطين، ولم يعد العالم قادراً على تجاوز القضية الفلسطينية كملف ثانوي أو مؤجل.
لقد أدرك كثيرون ولو متأخرين، أن فلسطين ليست هامشاً، بل هي جوهر الصراع والاستقرار بالمنطقة ، وأن لا استقرار دون عدالة، وأن لا سلام دون عدالة وإنهاء الاحتلال، وهذا ما يتوجب الاستفادة منه والبناء عليه من تعاظم التضامن الدولي الواسع لشعوب العالم وبدء أفول "العظمة الأمريكية".
في هذه اللحظة التاريخية، تتحرك الأهداف الصهيونية بوتيرة محمومة من واقع صراع تناقضاتها، لتصفية ما تبقى من وجودنا الوطني، إنهاء الجغرافيا الفلسطينية، وإنهاء الوجود الديمغرافي بالمجازر والتهجير، وتدمير الشرعية الوطنية الممثلة بمنظمة التحرير وكيانها السياسي ودورها التي نشأت من أجله مروراً بأدوارها الكفاحية كجبهة وطنية واسعة.
ورغم كل هذا، لا تزال مفاتيح الخروج من المأزق في أيدينا حتى اللحظة ولو كانت متأخرة . فالوحدة الوطنية ليست ترفاً ، بل شرط بقاء .
والبرنامج السياسي لا يمكن أن يكون مفصولاً عن الشرعية الدولية والحقوق التاريخية السياسية غير القابلة للتصرف، لكنه يجب أن يُعيد فرض العدالة والحقوق كمرجعية، والنضال الشعبي التحرري المتكامل، بأدواته السلمية والميدانية والسياسية، كشكل الحاضن الأقوى لصمودنا وانتصارنا.
وفي هذا السياق، يُشكل انعقاد المجلس المركزي لمنظمة التحرير لحظة اختبار، لا للنظام السياسي فقط، بل للمشروع الوطني التحرري برمته. فالنِصاب الحقيقي لهذا المجلس ليس في عدد المقاعد التي ربما يشغل معظمها المراقبون في جلسته الافتتاحية، بل في مستوى التمثيل السياسي والإرادة السياسية النضالية التي يحملها.
واليوم، إما أن يُعيد المجلس المركزي الاعتبار لوحدة التمثيل الفلسطيني ويطرح رؤية جامعة ديمقراطية تعتمد الشرعية الانتخابية التي تُعبّر عن كل أبناء الشعب، أو أن يتحوّل إلى صدى لمرحلة فقدت قدرتها على التأثير.
إننا بحاجة إلى قرار وطني يقول بوضوح، لا دولة تحت الاحتلال، بل مقاومة تُنهي الاحتلال، وتبني الدولة على أسس من الحرية والكرامة والسيادة في هذا الزمن من تراجع هيمنة النظام أحادي القطب. هذا هو امتحاننا اليوم، إما أن ننجح فيه، أو نترك الميدان لأعداء التاريخ والجغرافيا.
شارك برأيك
بين فَشل مفهوم الدولة تحت الاحتلال وشروط الصمود قراءة في افتتاح دورة المجلس المركزي