يتعزّى المرء في وقت المِحَن بكلام الرّب الذي يثلج الصدر، ويربت على الروح، فيحضنها برفق وسط ظلامية وبرد العالم. لكن، حتى هذه غير متوفرة لدى الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. فما زالت إدارة السجن تماطل منذ حزيران الماضي في جلب الكتاب المقدس للأسير رامي رزق فضايل، من مدينة رام الله، والذي أُسِرَ في كانون الأول/ ديسمبر 2023.
يستهدف الاحتلال رامي قاصداً التنغيص عليه كلّ عيد، فقد حَدَثَ عدة مرات قُبيل وإبّان وبُعيد عيدَي الميلاد والقيامة المجيدين، أن يقتحم الجيش الإسرائيلي بيته، ويفجّر الباب، مختطفاً إياه من كنف أسرته، وزاجّاً به في الإداري اللعين، مستصدراً في أغلب المرات أمر اعتقال مدته 6 شهور، يجدد حسب مزاجية ضابط المنطقة. وقد حدث مرات كثيرة أيضاً، أن داهمت قوات الاحتلال منزله ليلة العيد، واقتادته خارجاً لتبطش به، وأحياناً أخرى لتشبعه ضرباً أمام ابنته (ميس)، ليعود جيش الاحتلال أدراجه بعدها منسحباً من المكان تاركاً رامي ملقىً على الأرض، وكأن جلّ هدفه إفساد أعياد رامي وعائلته وتعكير صفو حياتهم، و"معايدته" على طريقتهم الوحشية.
تزيد حصيلة اعتقالات رامي التعسّفية عن 12 عاماً، قضى معظمها بأمر الاعتقال الإداري، وهو اعتقال دون تهمة أو محاكمة، يعود إلى قانون الطوارئ الانتدابي لعام 1945، يستند فيه ضابط المنطقة على ملف سري، لا يمكن للمعتقل أو محاميه الاطلاع عليه، ما يبقي الأسير رهن ما يحاك عنه ويفبرك، عاجزاً عن معرفة تهمته، وبالتالي غير قادر على الدفاع عن نفسه في محكمة "الحاكم والجلاد" معاً. أخطر ما في أوامر الإداري أنها غير مسقوفة المدة، أي يمكن تجديدها عدة مرات، تصل في أغلب الأحيان إلى سنوات، يسرقها الاحتلال من عمر المعتقل. وهذا بالضبط ما حدث مع رامي.
منذ آخر اعتقال حتى اللحظة، جدّد الاحتلال أمر الاعتقال الإداري لرامي ثلاث مرات متتالية، كانت الأخيرة عشيّة عيد الميلاد 2024. أفجعه الموت بوفاة والده بعد يومين فقط من التمديد، حيث كان من الممكن جداً، لو لم يستجدّ التمديد الأخير، أن يحظى رامي بوداع أخير لوالده، الذي ظلّ يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يهذي باسمه. لم يعلم رامي خبر وفاة والده، إلا بعد أسابيع طويلة، حين زاره محامٍ خاصّ ليبلغه بذلك، اضطر بعد سماع الخبر المفجع أن يضمد جراح فقده ويلملم آلامه، حتى لا يظهر حزنه في لحظة ضعف فيسعَدَ سجّانه؛ كان عليه أن يستجمع قوّته، ويقف صامداً من جديد.
يقبع رامي في سجن النقب الصحراوي، حيث يعاني الأمرّين جراء تفشي عثّة السكابيوس الجربية والمعدية بالأسرى، نتيجة إهمال الاحتلال المتعمّد في نظافة المكان، وعدم توفيره مواد تنظيف وأخرى معقّمة للأسرى أنفسهم، ناهيك عن سياسة الإهمال الطبي الذي ينتهجها الاحتلال وعدم تقديم العلاج اللازم للحركة الأسيرة، ما فاقم الأمر وزاده سوءاً. فقد أصيب فضايل بمرض سكابيوس في تموز الماضي، وظل يعاني من الطفح الذي نهش جلده أشهراً كاملة، حتى أدمته الدمامل التي فتكت بجسده حتى تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. ومع ممارسات التعذيب المتصاعدة والممنهجة التي تتفنن إدارة السجن بانتهاجها ضد الأسرى، والتي ازدادت وتيرتها أضعافاً بعد السابع من أكتوبر 2023؛ عاد المرض ذاته مرة ثانية، ليفتك بجسد رامي من جديد حتى الآن.
مع إلغاء الزيارات لأفراد العائلة ولطاقم الصليب الأحمر، تصل فتات أخبار الأسرى لعائلاتهم "بالقطّارة" عن طريق أسرى محررين وما يدلونه من شهادات للإعلام إثر تحررهم، أو من خلال زيارات المحامين الشحيحة جدا، والتي بالكاد تنقل حال الأسرى بالعموم ودون تفاصيل، خوفاً من وقفها أيضا. فقد ورد لعائلات الأسرى، أن أبناءهم وأحباءهم لا يزالون في ملابسهم الداخلية كجزء من سياسة العقاب الجماعي غير المسبوقة في توحّش إدارة السجون، والتي صادرت الملابس الإضافية لدى المعتقلين، وجرّدتهم من حقوقهم وأبسط مقومات الحياة لديهم، مصادرة ما حققته الحركة الأسيرة من إنجازات ونضالات في السابق، ومحوّلة الأسرى إلى مجرد رهائن. ينطبق الحال على رامي، إذ لم يزل بملابسه الداخلية التي لم يغيّرها منذ سنة ونصف، كما أصبح أكثر نحولاً، وبشعرٍ أشعث ولحية طويلة.
تنتاب (ميس) -ابنة 18 ربيعاً- غصة في قلبها، فهي في سنتها الدراسية الأخيرة في المدرسة، وتتوق بكامل عنفوانها أن يشاركها والدها فرحتها بالتخرج الشهر المقبل، لكن الاحتلال الإسرائيلي يتحكم ليس فقط في حياة الأسرى، بل بحيوات عائلاتهم، لتغدو أبسط الأشياء مستحيلة. تقول (ميس): "أربعة أعياد فقط، ما بين ميلاد وقيامة، هي التي حظيتها مع أبي بفعل اعتقالاته المتكررة، وأغلبها كانت أوامر اعتقال إداري." وتكمل قائلة: "أجتهد لأجل أبي، سأهديه نجاحي لأفرح قلبه."
يعاني رامي مع أكثر من 10,000 أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، بعد أن حوّلت منظومة الاحتلال الاستعمارية الأسرى إلى مجرد رهائن لدى مصلحة السجون، مستغلة الإبادة والنحر القائم في القطاع، ومتفرّغة بكل ما فيها من تلذذ ساديّ لاستكمال جريمة الإبادة في مسارح السجون، ممعنة في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومستخدمة قضيتهم كورقة للمساومة والابتزاز السياسي، وفرض سياسة الأمر الواقع.
في ظل كل هذا، ونحن نعيش أسبوع الآلام قبيل القيامة المجيدة؛ يتوجب على الكنيسة أن تقوم بدورها، وأن تكون حاضرة بصوتها النبويّ، اقتداء بكلام الإنجيل المقدس وعملاً بكلام السيد المسيح : "لأنّي كنتُ عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ." (مت 25: 36)، وأن تفعّل أذرعها القانونية من مؤسسات حقوق إنسان عاملة في الميدان القانوني والمناصرة الدولية، لأن تكون حاضنة للأسرى في عزلتهم، والضغط على مصلحة السجون للسماح بطلب زيارات دورية لهم، حسبما نصّت عليه القوانين الدولية كافة، للاطمئنان عليهم، وطمأنة عائلاتهم، وإتمام مهمّة الكنيسة لاهوتياً ودينيا ونبوياً، من خلال سرّي المناولة والتوبة، إضافة الى تزويدهم بحاجاتهم الأساسية، مثل طلب رامي المتواضع جداً: أن يحظى بكتاب مقدس.
يقع على كاهل الكنيسة عمل الكثير، وإتمام الدور القانوني والأخلاقي المناط بها، للضغط على دولة الاحتلال من أجل السماح لكهنتها ورجال الدين عامة زيارة السجون، والوقوف على أحوال الأسرى فيها، والتحقيق الجدي في شكاوى المعتقلين، وتفعيل مناصرتها لهم وتدويل قصصهم الإنسانية بين الكنائس عالميا، ومطالبة الكنائس بسحب استثماراتها من "اسرائيل"، لاستمرارها في ارتكاب جريمة الإبادة في غزة، ومن ضمنها استهداف المكوّن المسيحي وأوقافه التاريخية في القطاع، إضافة الى مقاطعة الشركات التي تقدم خدمات لمصلحة السجون، والتي تنتهك حقوق الأسرى، غير آبهة بما نصت عليه المواثيق الدولية، ناهيك عن تسليط الضوء على قضايا التعذيب وتقديم الشكاوى الدولية، والعمل على تفعيل مساءلة الاحتلال ومحاسبته لغاية استتباب العدل وصون الحقوق.
عندما يُمنع الأسير/ة من حظوة الكتاب المقدس والتمتع بقراءته في كربه، وأن تقع عينيه على آيات تعّزيه برجاء، أن هذا الظلام سوف ينقضي، وأن الوعد المقدّس يقول: "وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُم." (يو 8: 32)، تصبح مناشدة مثل مناشدة رامي إعلاناً كونياً، يؤكد بوضوح على ظلامية السّجّان وخوفه الدائم من حتمية انتصار الحقيقة.
شارك برأيك
درب آلام الأسرى الطويل..عندما يُمنع الأسير من الكتاب المُقدّس