في زمن تتغير فيه الحقائق كما تتبدل العناوين، وتمسخ الهويات في دهاليز السياسة والإعلام، بقيت "القدس" شامخة كاسمها، راسخة كجذور المدينة المقدسة التي نالت شرف اسمها، تكتب ما يحاول الاحتلال محوه بالنار. لم تولد من فراغ، بل في قلب مدينة تتلمس طريقها وسط رماد النكبة، تنزف بصمت، وتقاوم بلا ضجيج، في مدينة عاشت "هزائم" وخذلان، يوم "سقطت" تحت الاحتلال مرتين، فكانت "القدس" تبني من الحبر وطناً، وتصنع من الكلمة سلاحاً، وذاكرة في وجه النسيان والتهجير، فلم تكن مجرد صحيفة يومية، بل مشروع حماية، يوم كان كل شيء فيها مهدداً بالضياع.
كفعل مقاومة، ترفع صوت من لا صوت لهم، وتحفظ ذاكرة المكان من التهويد والنسيان، فكانت أكثر من جريدة، كانت مشروعاً وطنياً في وجه التصفية، وبيتاً للكلمة الحرة، ومنذ ذلك اليوم، و"القدس" تقاتل على جبهتين؛ الحقيقة والبقاء، فكانت تتنفس من خاصرة المدينة، وتبث نبضها وألمها إلى العالم، ويوم احتلت القدس للمرة الأخيرة، وجدت "القدس" نفسها في قلب المعركة، لكنها لم تنكفئ، بل أعادت التمركز، وتقدمت رغم الرقابة والقيود، لتوثق فصلاً ملحمياً من حكاية شعب، ولتشهد على لحظة انهزام اليأس، وانكسار الخوف، ونهضة الكلمة من تحت الركام، وتقدمها الصفوف كطلقة وعي.
منذ عددها الأول، لم تكن "القدس" مجرد صحيفة ورقية يومية، فلم تنزلق إلى الإعلام الشعبوي أو العناوين الصاخبة، واختارت الدقة على الإثارة، والرصانة على الضجيج، فكانت حارساً للكلمة، وراوياً أميناً للملحمة، كتب فصول نكبته، كما بطولته وصموده على مدى عقود.
عشرون ألفاً، ليس رقماً في سجل المطبوعات، بل عشرون ألف شهادة على صمود عاش النكبة، وتجرع مرارة النكسة، وقام لأجل القدس والمقدسات، روت حكايات الشهداء والأسرى، اللاجئين والمخيمات، عاشت زمن الحصار والانتصار، زمن الانقسام ولحظات المصالحة، المقاومة والمفاوضات، يوميات الوجع والقهر، في بقعة لا تهدأ، تغلي كما المرجل، ومعها كوكب الارض.
من القدس انطلقت، لا كرزمة ورق، بل كمنبر وساحة حوار مع العالم، تحمل له نبض الشارع، تنقلت بين الأزقة العتيقة، وعبر البوابات المغلقة، وحملت أحزان البيوت المسروقة، وثقت معارك الشيخ جراح، وسلوان، وباب العامود وغيرها، مما لا يتسع المجال لسرده؛ ما جعل من كل سطر في أرشيفها شهادة على زمن القدس، وكل صورة مرآة لذاكرة مدينة تقام لأجلها الحروب، فحملت ما لم تحمله مؤسسات كبريات، من التضييق والرقابة، إلى القيود الأمنية والاقتصادية. وقفت في وجه موجة الإعلام الرقمي التي عصفت بأكبر الصحف، عايشت التحول وواكبته، واستمرت كمدرسة صحفية لأجيال كاملة من الصحفيين، ومنبر عابر للانقسام السياسي، وجامع تحت مظلة القدس العاصمة، فكانت صوت المسجد الأقصى يوم اسكتت مآذنه، فكان كل عدد من "القدس" صورة لفلسطين كما هي، لا كما يراد لها، ومساحة لمن لا يجدون من يروي حكاياتهم، فجمعت بين الوطني والإنساني، بين النضالي واليومي، بين السياسة والثقافة.
وفي عددها العشرين ألفاً، لا نحتفي بعمر صحفي، بل بالكلمة التي تصنع صمود، بقوة الحبر في وجه البارود، لا نحتفي بعدد، بل بمسيرة، ولا نحتفي بورق، بل بذاكرة، نحتفي بـ "القدس" التي وقفت في زمن السقوط، وتقدمت في زمن التراجع، وبقيت وفية لرسالتها الأولى، وشاهدة زمان الفلسطيني، على المعركة المفتوحة، واستراحة المحارب، على المقتلة والمأساة الإنسانية، وعلى الحلم الذي لم يكتمل بعد.
فسلام على "القدس" في قلب المعركة، وسلام على الحبر إذا انتفض وقام، وسلام على الكلمة إذا صارت كحد السيف، وسلامٌ على "القدس" في عددها العشرين ألفاً، كما في عددها الأول، وسلام على القدس الأم، منارة الأرض وباب السماء، عرش الصمود ومهوى الأفئدة، بداية كل حلم وخيبة "كل جبار عنيد".
............
يوم احتلت القدس للمرة الأخيرة، وجدت "القدس" نفسها في قلب المعركة، لكنها لم تنكفئ، بل أعادت التمركز، وتقدمت رغم الرقابة والقيود، لتوثق فصلاً ملحمياً من حكاية شعب، ولتشهد على لحظة انهزام اليأس، وانكسار الخوف، ونهضة الكلمة من تحت الركام، وتقدمها الصفوف كطلقة وعي.
شارك برأيك
"القدس".. ذاكرة وطن في عشرين ألف عدد وملحمة