كان لصحيفة القدس أثر موضوعي على المضمون الإخباري، وعلى كل من عمل محرراً أو كاتباُ أو مراسلاً للصحيفة. فالموضوعية بمفهومها الفلسفي تعكس الضمير الصحفي على صفحات يطالعها القراء يومياً.
في التقاليد الصحفية يتربع الضمير الصحفي على أرجوحة العدالة التي تميز كاتباً عن زميله بقدر عمره المهني، وبعدم إقحام الذاتية في المضمون، بل باتباع الدقة والمصداقية والنأي عن استخدام عبارات القذف والتشهير لاعتبارات مهنية وإنسانية.
هكذا كانت صحيفة "القدس" ولا تزال منذ أسسها، وقاد هيئة تحريرها الراحل الأستاذ محمود أبو الزلف فحظيت باحترام الجمهور، وتجاوزت ذاك الإطار الواسع إلى المؤسسات والهيئات وعموم الوطنيين الفلسطينيين الذين كانوا ينتظرون موعد صدور الصحيفة، في ظروف غير ما نحن عليه اليوم من تطور استحوذ على أحدث وسائل الإعلام، بتقنيات معاصرة لم يشهدها جيلنا السابق في بدايات المهنة.
لقد كانت علاقتي بصحيفة القدس استثنائية، لانفتاح هيئة التحرير على قصار القصص الإخبارية في المخيمات الفلسطينية، وفي القرى النائية، بعيداً عن المدن وشخصياتها التي كانت تصريحاتهم تحتل مساحات واسعة على صفحات الجريدة، والاحترام المتبادل بين زملاء المهنة.
ولعلني أنصف هذه الصحيفة بما تستحقه من إطراء مهني، لتميزها عن باقي الصحف الفلسطينية بالعودة إلى صفحات ذاكرة مقدسة من تاريخ الشعب الفلسطيني، لأنسخ عنها واقعة مشرفة اكتملت بالانتماء المهني والوطني، وإن كان هناك فصل أخلاقي بين المهنية والوطنية في مهنة الإعلام.
سمعت رنين الهاتف الأرضي في مكتبي بمقر مكتب بيت لحم الصحفي، رفعت السماعة.. فإذا بالمتحدث يعرف نفسه بـ ناجي العلي من لندن. كان ذلك في العام 1985- قبل الانتفاضة الأولى بعامين- حينها أخبرني بأنه انتقل للعمل في مكتب صحيفة القبس الكويتية هناك.
طلب مني ناجي المساعدة في نشر رسوماته الكاريكاتورية في إحدى الصحف الفلسطينية المحلية في القدس المحتلة.
رحبت بالفكرة ووعدته بمناقشة هذا الأمر في لقاء مع رئيس تحرير صحيفة القدس المرحوم الأستاذ محمود أبو الزلف حيث التقيته في اليوم التالي في مكتبه، ورحب أبو الزلف بالفكرة، وبانت علامات السرور على وجهه، لاتصال ناجي كما وعدني بنشر رسوماته على أعلى الصفحة الأخيرة، لكنه طلب مني الاستفسار من ناجي عن قيمة المكافأة التي تناسب منشوراته.
أجبت أبو الزلف: سوف استوضح من ناجي وأوافيك بالرد هاتفياً.
في اليوم التالي، رفعت سماعة الهاتف وضغطت على أرقام هاتف ناجي، وعندما رد علي أخبرته بالأمر وسألته عن قيمة المكافأة التي تناسبه لنشر رسوماته في صحيفة القدس.
لم يتريث ناجي في الرد، بل أجابني بسرعة بأنه لا يريد مكافأة، بل يتمنى فقط أن تنشر رسوماته في صحيفة بفلسطين المحتلة.
وفي اليوم التالي، غادرت بيت لحم إلى القدس لتوزيع نشرة الأخبار باليد. التقيت الأستاذ الراحل أبا الزلف وأخبرته بأن ناجي ليس لديه ميول لتقاضي مكافأة عن رسوماته. إلا أن أبا الزلف أصر على أنه سيرسل مكافأة خاصة وطلب مني أبلغ ناجي العلي بأن يبدأ بإرسال رسوماته فوراً.
لكن الراحل أبا الزلف استدرك بالسؤال: كيف يمكن لناجي إرسال رسوماته فأخبرته أن لدي جهاز فاكس يمكنني من استلام الرسومات وأي نصوص صحفية أخرى.
آنذاك، لم تكن في الصحف الفلسطينية أجهزة فاكس، إذ كانت هذه التقنية حديثة.
أخبرت أبا الزلف بأن لدي جهاز فاكس في مكتبي، ويمكنني استقبال تلك الرسومات يومياً وتسليمها لقسم التحرير في صحيفة القدس لعدم وجود فاكس في الصحيفة.
وافق أبو الزلف ثم بدأ ناجي بإرسال رسوماته إلى (مكتب بيت لحم) عصر كل يوم، كي أتخطى اللحظة الأخيرة لموعد استقبال المواد الصحفية وأرسلها قبل النشر.
استمر ناجي بذلك شهوراً وفجأة.. سكت الاتصال من لندن. في اليوم التالي لم يصلني منه شيء على غير عادته، استفسرت عن الأمر فوراً، وعلمت من وسائل الإعلام التي سارعت لنشر خبر إطلاق الرصاص عليه لاغتياله، حيث رقد في العناية المكثفة حتى استشهاده في 29 آب/ أغسطس 1987.
كان وقع الخبر علي كالصاعقة. لم أدرك في تلك اللحظة إلا الأعمال الكاريكاتورية التي كان ينشرها ناجي ومنها في صحيفة القدس، التي كانت تعبر عن واقع الأمة، ومعاناة الشعب الفلسطيني في الوطن، والشتات وظل الحزن، يسكنني منذ ذلك الوقت، لأن الاغتيال جريمة لا تغتفر.
رحم الله أستاذنا الراحل أبا مروان والصديق رسام الكاريكاتير الشهيد ناجي العلي.
............
لعلني أنصف هذه الصحيفة بما تستحقه من إطراء مهني، لتميزها عن باقي الصحف الفلسطينية بالعودة إلى صفحات ذاكرة مقدسة من تاريخ الشعب الفلسطيني، لأنسخ عنها واقعة مشرفة اكتملت بالانتماء المهني والوطني.
شارك برأيك
صحيفة القدس.. مهنية لا تشبهها أخرى