أقلام وأراء
الأحد 16 فبراير 2025 9:25 صباحًا - بتوقيت القدس
أمريكا من المكارثيـة إلى الترامبية

في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوڤييتي المنتصر على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وفي العام 1948 نجح الشاب "جوزيف مكارثي" في انتخابات الكونغرس الأمريكي، حيث استغل في خمسينيات القرن الماضي حالة الفزع التي سادت في الولايات المتحده من تمدد الاتحاد السوفييتي الشيوعي في أوروبا وفي شرق آسيا، فمارس ضغوطاً شديدة على المجتمع الأميركي حتى أوصله إلى قبول تعصبه، فسادت حالة إرهاب فكري شديدة ضد الموظفين الحكوميين في البداية، ثم شملت المثقفين والشخصيات العامة، في حقبة تعرف في تاريخ أمريكا بـ "المكارثية". وشكل مكارثي لجنة في الكونجرس كانت مهمتها التحقيق في انتشار الشيوعية في أمريكا، وتوجيه اتهامات اعتباطية إلى أبعد الحدود، وتسببت الحملة المكارثية آنذاك، إلى فقدان المئات لوظائفهم بعد إدانتهم بالشيوعية أو مناصرتهم لها، وطالت تلك الاتهامات شخصيات شهيرة، مثل شارلي شابلن، وألبرت آينشتاين، ومارتن لوثر كينج.
إلا أن حرية التعبير في الولايات المتحدة تصدت لآلة الرعب "المكارثية"، التي استخدم مكارثي فيها خطاباً دينياً مفاده أن الشيوعية دين هدفه هدم المسيحية وهدم الوطن. ونتيجة لجهود عدد من المفكرين والناشطين في مجال حقوق الإنسان، مثل "إدوارد مارو" و"آرثر ميلر"، وغيرهما انتهت موجة الكراهية المكارثية العاتية، وفي النهاية أدين مكارثي من قبل الكونغرس ومات مدمناً، بعد أن تيقن الأمريكيون أنه ليس أكثر من شخص يكيل الاتهامات الباطلة لخصومه بلا وازع أخلاقي، لغرض تحقيق مكاسب سياسية شخصية على حساب معاناة ضحاياه.
لكن ما العلاقة بين جوزيف مكارثي ودونالد ترامب؟
على الرغم من مرور نحو 70 عاماً على المكارثية، إلا أن العلاقة بين المكارثية والترامبية تمثلت بالمحامي النيويوركي "روي ماركوس كوهن"، الذي ارتبط اسمه بظاهرة المكارثية، وانحدارها الأخلاقي إلى درجة كبيرة، بسبب الدور الذي مارسه كمستشار قانوني لمكارثي. وهو نفسه الذي لعب دوراً كبيراً في تمثيل وتوجيه رجل الأعمال الناشئ في سبعينيات القرن الماضي في مجال العقارات ورئيس الولايات المتحدة الحالي دونالد ترامب! كما أن كوهن كان مهندساً لانتخاب رونالد ريغان، وكان مقرباً من ريتشارد نيكسون، وأدخل ملك الإعلام اليهودي روبرت مردوخ للمؤسسة الأمريكية. ومساهمة "كوهن" في صنع دونالد ترامب في بداياته جرت بمساعدة المافيا، بالإضافة إلى إقناعه مجلة "فوربس" بتسمية مقاول العقارات الناشئ من بين أفضل 400 ثري في أمريكا. وقال عنه ترامب ذات مرة "إذا كنت تريد أن تكون شرساً ضد خصم، فقم بتعيين روي".
وكما اعتمد مكارثي على كوهين في حملته ضد السياسيين والفنانين والصحفيين الأمريكيين بتهمة الشيوعية، يعتمد دونالد ترامب في ولايته الرئاسية الثانية اليوم على الملياردير "إلون ماسك" بتمكينه من الوصول إلى أنظمة مالية وبيانات حساسة، وإغلاق برامج حكومية كالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، في مواجهة ما يسميه "البيروقراطية الفيدرالية"، ما تسبب في تداعيات واسعة في المؤسسات الحكومية. تدخلات ماسك طالت ما لا يقل عن 6 وكالات فيدرالية، ما أثار تساؤلات بشأن مدى تحديه لسلطة الكونجرس، واحتمالية انتهاكه لقوانين حماية الخدمة المدنية، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز. وشملت الإجراءات التي اتخذها ماسك كبار المسؤولين في وزارة الخزانة، والوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، وهما من مؤسسات "الدولة العميقة" الهامة.
وكما ساعد "روي كوهن" مكارثي في طرد مسؤولين كبار في وزارة الخارجية من وظائفهم، وفي إنهاء الحياة السياسية لأعضاء في الكونغرس، فإن الملياردير ماسك يساعد ترامب بصفته عضواً في إدارته كرئيس لوزارة جديدة أُطلق عليها اسم "وزارة كفاءة الحكومة"، وهدفها شن الحرب على "الدولة العميقة"، لخفض التكاليف في الموازنة الأمريكية العامة، ومنح ترامب لماسك سلطات واسعه لإعجابه به، حيث وصفه في حديث للصحفيين بعبارات تتسم بالمراوغه بقوله "بأنه خبير في خفض التكاليف، وأحياناً قد لا نتفق معه، ولن نسير في الاتجاه الذي يريده، لكنني أعتقد أنه يؤدي عملاً رائعاً، إنه رجل ذكي".
وإذا كانت المكارثية قد نشأت في مناخ الحرب الباردة، التي كانت في أوجها بين واشنطن وموسكو في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى أن تفكك الاتحاد السوفييتي في العام 1990، فإن الترامبية نشأت في مناخ دولي مختلف، يتميز بالحرب التجارية بين أمريكا من جانب والصين واقتصادات عالمية ناشئة من الجانب الآخر، تحت الشعار الشعبوي "أمريكا أولا"، الذي تبناه ترامب في فترتي رئاسته الأولى والثانية. وكان هذا الشعار عندما تمت صياغته قبل أكثر من مئة عام، يقضي بتجاهل الشؤون العالمية، ونأي الولايات المتحدة بنفسها عن الحروب، والتركيز على الشؤون الداخلية الأمريكية بالتركيز على القومية الأمريكية والتجارة الحمائية.
وكان الرئيس الأمريكي "وودرو ويلسون" هو أول من صاغ شعار"أمريكا أولا" في حملته الانتخابية في العام 1916، لهدف عدم المشاركة في الحرب العالمية الأولى، كما أن منظمة "كو كلوكس كلان" العنصرية المتطرفه استخدمت الشعار في عشرينيات القرن العشرين، عندما كانت المشاعر العنصرية وكراهية الأجانب منتشرة في أمريكا على نطاق واسع. وبعد مرور نحو 100عام على إدارة الرئيس "وودرو ويلسون" استخدم دونالد ترامب الشعار في حملته الرئاسية الأولى في 2016، التي شهدت انسحاب الولايات المتحدة من معاهدات ومنظمات دولية مختلفة.
إلا أن مفهوم شعار "أمريكا أولا" بنسخته الأولى في عهد الرئيس ويلسون يختلف تماماً عن مفهومه عند ترامب، الذي يستند في مجال سياسة إدارته الخارجية إلى مبدأ "السلام من خلال القوة"، بإدعائه أنه يهدف إلى منع اندلاع حرب عالمية ثالثة، واستعادة السلام في أوروبا والشرق الأوسط، وتحصين الولايات المتحدة من أية هجمات معادية. ومفهوم ترامب لــ "أمريكا أولا" هو إعلاء شأن المصلحة الوطنية الأميركية، وتحديث الجيش الأميركي ليبقى أقوى جيش في العالم، وللدفاع عن حدود الولايات المتحدة، وكذلك ضمان وفاء الحلفاء بالتزاماتهم في مجال الدفاع المشترك، بالإضافة لتعزيز القدرات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية لـ "حماية أسلوب الحياة الأمريكي"، بإحياء القاعدة الصناعية الأميركية لضمان خلق وظائف جديدة للأميركيين، مع إيلاء الأولوية للصناعات الدفاعية.
وهذه المبادئ "الترامبية" تثير جملة من المخاوف لدى حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حد سواء، نظراً إلى ما تضمره مواقف ترامب السلبية من العمل الدولي المتعدد الأطراف، ومعارضته للاتفاقات التجارية الدولية، وسعيه للتحلل منها، وإعجابه بالأنظمة والقادة الاستبداديين، بالإضافة إلى افتقاره إلى مقاربة منسجمة في السياسة الخارجية، وعدم القدرة على التنبؤ بقراراته، وإحاطة نفسه بمجموعة من المستشارين المتطرفين، وميله إلى تبني مقاربات في السياسة الخارجية على نمط الصفقات التجاري، ناهيك عن سعيه لتفكيك مؤسسات النظام الدولي.
ومن مظاهر الترامبية على النمط "المكارثي" حملات الترهيب ضد كل من تسول له نفسه إدانة الحرب الوحشية على غزة. وكما كان السؤال الأكثر رعبا للمواطنين الأمريكيين في الحقبة المكارثية "هل أنتَ شيوعي، أو كنت شيوعياً يوماً ما؟ فإن السؤال المطروح في الحقبة الترامبية اليوم "هل تدين حماس؟"، بالإضافة لملاحقة الناشطين في الجامعات الأمريكية ضد الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية بتهمة اللاسامية.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
أول الغيث قَطْرُ!
حديث القدس
الانقسام الإسرائيلي
حمادة فراعنة
دوام ترديد التهديد بالتهجير وانعكاساته النفسيّة المتوقعة!
غسان عبد الله
الرسوم الجمركية الأمريكية "من أجل الفنتانيل" تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية
جي وينهوا
الوعد المشؤوم
حديث القدس
بين ابتزاز غزة بالتهجير واجتثاث مخيمات الضفة.. ما العمل؟!
جمال زقوت
الرقص على حافة الجنون
رمزي الغزوي
العناد الفلسطيني ورفض التوطين والتهجير
حمزة البشتاوي
هذه رسالتي لحركة "حماس"
محمد المصري
أزمة النظام السياسي الفلسطيني بين الشرعية الثورية والانتخابية ومعضلة الديمقراطية
مروان إميل طوباسي
أميركا وتداعيات "الدعم غير المشروط"
جيمس زغبي
اعتذار الرئيس الأميركي
حمادة فراعنة
زامير والتهديد بالتغيير
حديث القدس
خطاب فانس في ميونخ.. الضلال والسطحية والتطرف
أحمد رفيق عوض
جمعية فلسطين الدولية.. تفوّق نوعي متعدد الطبقات
حمادة فراعنة
مصر صمام الأمان للقضية الفلسطينية ضد مخطط التهجير
رائد عبد الفتاح مهنا
عن السعدنة وطريق السعادين
مصطفى بشارات
الأنظمة وتهجير غزة.. بين "التنمية بالحماية الشعبية" ومواجهة الصهيوأمريكي
د. عادل سمارة
التحول في الترمبية في المرحلة الثانية
رمزي عودة
نتنياهو وتزييف الحقائق
حديث القدس
الأكثر تعليقاً
نتنياهو: لا مكان لحماس أو السلطة الفلسطينية في غزة في اليوم التالي للحرب

تركيا تحذر من نكوص نتنياهو على اتفاق غزة
نتنياهو يرفض إدخال الكرافانات لقطاع غزة وترامب يريد تغيير الاتفاق
محاضرة في جامعة القدس للبروفيسور رياض إغبارية حول الموسيقى والدماغ وصحة الإنسان
الاحتلال يستولي على أرض لشق طريق استعماري شمال غرب نابلس

مصر تستضيف القمة العربية الطارئة يوم 4 آذار/ مارس المقبل

القمة العربية المنتظرة هل تستجيب الأمة للمخاطر الوجودية؟
الأكثر قراءة
لازاريني: اقتحام الاحتلال مدارس للأونروا بالقدس ومعهد قلنديا انتهاك للحق في التعليم ولحصانة الأمم المتحدة

مصادر طبية: مستشفيات قطاع غزة تعاني نقصا حادا في الأكسجين
"هيئة الأسرى" ونادي الأسير يحمّلان الاحتلال المسؤولية الكاملة عن مصير آلاف المعتقلين في سجن "عوفر"

اجتماع للكابينت الإسرائيلي الاثنين لبحث ثاني مراحل اتفاق غزة
إعلام عبري يكشف هوية المحتجزين الذين ستفرج عنهم المقاومة السبت المقبل
الاحتلال يحكم على الأسير المقدسي الطفل محمد زلباني بالسجن لمدة 18 عاما
بيان صادر عن حركة حماس بشأن القصف الأخير على جنوب قطاع غزة


أسعار العملات
الأربعاء 19 فبراير 2025 10:18 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.54
شراء 3.53
دينار / شيكل
بيع 5.0
شراء 4.99
يورو / شيكل
بيع 3.7
شراء 3.69
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%54
%46
(مجموع المصوتين 666)
شارك برأيك
أمريكا من المكارثيـة إلى الترامبية