أقلام وأراء

الإثنين 05 يونيو 2023 10:01 صباحًا - بتوقيت القدس

صناعة "الوهم" في الحالة الفلسطينية

يختلف فهمنا للوهم - على الأقل في هذا المقال، عن الفهم الذي تناوله كثير من الكتاب والسياسيين الفلسطينيين والعرب، بمعنى الحالة التي يتم فيها تبني اهدافا غير ممكنة، يصعب أو يستحيل تحقيقها ضمن المعطيات المتوفرة. هذا ينطبق على سبيل المثال على مواضيع مثل الوحدة العربية، وتحرير فلسطين، أو حتى اقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، ويصل احيانا الى "الوحدة الوطنية" وغيرها من أمور تتعلق بالقضية الفلسطينية والقضايا العربية. ينطبق هذا ايضا على بعض ردود الأفعال على كتابي "تحرير الشرق"، والتي تحدثت عن أنه ليس أكثر من حلم أو وهم، رغم أنه يتحدث عن ضرورة خلق وعي جديد بالشرق، يجسده كذات جيواستراتيجية، تتيح المجال لتقارب شعوبه.


الوهم الذي نقصده هنا، هو أن "تتبنى" شعارا لا تدرك فقط عدم واقعيته، واستحالة تحقيقه، بل أنك متخلي عنه أصلا، ولا تسعى لتحقيقه بأي شكل من الأشكال، وفي لحظة من اللحظات تعتبر أنه تحقق، وتطلب من الآخرين اعتباره كذلك، والتعامل معه على هذا الاساس، وتفعل ذلك لأهداف أخرى لا تتعلق بالشعار نفسه، أهمها التأثير في الرأي العام باتجاهات مغايرة.


إن الوهم هنا، لا يتعلق بصعوبة الهدف أو سهولته، ولا بإمكانية تحقيقه أو عدمها، بل هو الحالة التي يجري فيها التخلي عنه وعن محاولات تحقيقه دون الاعتراف بذلك، ويتم عادة بالتحايل عليه وتغييره بشكل أو بآخر، والعمل على اقناع الناس بتحققه.


إنه حالة افتراضية يعيشها الفرد، أو أي كيان اعتباري، بحيث يعتبر أن هدفه تحقق، فيختلط الأمر بين الواقع والخيال، وبين الوهم والطموح، أو أنه يجري العمل على تحقيقه دون أن يكون ذلك صحيحا. الوهم، في هذه الحالة، هو الانتقال من حالة العمل على تحقيق الهدف، الى اعتباره منجزا رغم عدم حدوث ذلك فعليا.


وهو على صعيد الخطاب، أن تفهم الأمر كما تريد، وليس كما هو واقع الحال، فيتم التعامل مع الهدف بصفته منجزا، لا بصفته طموحا ومطلبا ومشروعا يجري العمل على تحقيقه. من هنا لا يعتبر أي "حلم" مهما بلغ من "الخيال" وهما، إذا استمر العمل الجدي لإنجازه. بذلك يختلف "حلم" المكافحين عن "وهم" المهزومين".


يكون هذا النوع من الوهم مصطنعا لدى بعض النخب، ومدركا لدى نخب أخرى، لكنه في كثير من الحالات ينساق على فئات عريضة من الشعب ولدى جمهور البسطاء. الواهمون هم اولئك "العاديون" من الناس الذين "انطلت" عليهم مسألة تحقيق الهدف، أو أنه في طور التحقق، لكن الذين يدركون ذلك هم بالعادة خارج نطاق الوهم، بل "مشتغلين" به.


بناء على طريقة التعاطي مع الهدف، إن كان تبنيه من أجل تحقيقه أم من أجل الانشغال به والاستثمار فيه، يمكن الإضاءة على تطور الوهم الفلسطيني، الذي تدرج من حالة "الهواية" الى حد الاحتراف، حيث يزيد منسوبه كلما عانت القضية من انسداد الأفق.


لا شك أن اهدافا فلسطينية "نادرة"، وفي الحقيقة انا لا اتذكر غير هدف واحد، هو مسألة وحدانية التمثيل الفلسطيني، بقيت اهدافا لم يسمح قطعيا بتسلل أي "وهم" لها، بمعنى أنه لم يجر أي "تحايل" على فهمها. لذلك حاربت منظمة التحرير طيلة الوقت، بلا كلل، وفي كل الاتجاهات، من أجل ترسيخ تمثيلها للفلسطينيين. في هذه الحالة لم يكن الهدف شعارا يرفع فقط، بل معركة دونها كل التضحيات.


بالمقابل ارتبط هذا الهدف "بشعار" آخر، لم يتصف بالصرامة نفسها التي رافقت وحدانية التمثيل، هو "موضوع القرار الفلسطيني المستقل "، الذي بقي ضبابيا بين كونه حقيقة معاشه، أو هدفا وطموحا يعمل على انجازه، أو "شعارا" يستخدم عند الحاجة. في هذه الحالة، كانت ممارسة الشعار انتقائية من وضع لآخر، حيث اختلطت حقيقة الشعار بكثير من "الغبش" في التعامل معه، فاستخدم للانتقال من تحالف سياسي الى آخر، وفي التعامل مع المتناقضات العربية التي لم تتوقف يوما ما.


انتقل "الوهم" الفلسطيني الذي اتصف في مرحلته الأولى بضبابية الموقف من الهدف، الى مرحلة "أرقى" بعد قيام السلطة الفلسطينية إثر اتفاق اوسلو، وهي مرحلة "الرمزية" التي أكد عليها السلوك السياسي الفلسطيني منذ ذلك الحين. تجسد ذلك في الحرص على إظهار ما يصاحب السيادة والدولة من مراسم، رغم عدم وجود السيادة والدولة.


هذه الأمور اتقنها الرئيس ابو عمار بشكل كبير؛ السجاد الأحمر عند استقباله للضيوف المهمين، وعند زيارته لأي مدينة داخل الوطن أو خارجه. واصطحابه للفرقة الموسيقية أينما حل، والموكب الرسمي الذي لا بد منه أثناء التنقل. وإطلاق القاب الرئيس والوزير وكل التسميات الموجودة في الدول، على كبار موظفي السلطة الفلسطينية. ذلك أو معظمه استمر بعد مرحلة الرئيس عرفات.


بالطبع، ليس من الضرورة أن تكون الرمزية وهما. فإن تم التعامل معها على أنها وسيلة من أجل تحقيق السيادة في الواقع وفي وجدان الناس، فليس هناك أي وهم. أما إذا تم فهمها والتعاطي معها على أن السيادة قد تحققت، وما هذه الرمزية الا دليل على تجسدها، فهذا هو الوهم بعينه. الصورة تشبه تماما من يشتري اثاثا قبل أن يبني البيت، فهذا يمكن أن يفهم على أنه اصرار على التوجه لبناء البيت، أو أنه ما دام الأثاث موجودا فلا بد من أن يكون البيت قد وجد، ويتم التعامل مع الأمر على هذا الأساس، وهنا يكون الوهم.


في المرحلتين الأولى والثانية من "الوهم" الفلسطيني، وهما المرحلتان اللتان تم فيهما التعامل بضبابية مع الهدف، تلاشى الفرق بين الهدف وضرورته، وأصبح الأمر ملتبسا بين الهدف الذي يجري العمل على انجازه، وبين اعتباره منجزا. فبين من يفهم أن وجود البساط الأحمر يعني وجود رئيس بالفعل، أو يعني ضرورة العمل على ايجاده، وأن وجود رئيس يعني وجود دولة بالفعل، أو ضرورة النضال من أجل انجازها، كان التداخل في الأمرين كبيرا لدرجة كان من الصعب الإقرار بوجود وهم أو بعدم وجوده.


لكن الأمر يأخذ في الوضوح اكثر، عند الحديث عن مرحلة ثالثة من "الوهم"، يكمن في التعامل الفلسطيني مع العلاقة بين الوسيلة والهدف، فتتبادلا الأدوار، وينتقل الأمر الى اعتبار الوسيلة هي الثابت، والهدف هو المتغير.


في هذا السياق، لا يجري استبدال الوسيلة إذا صعب تحقيق الهدف، بل يجري تغيير الهدف ليتلاءم مع استمرار الوسيلة. وحتى لا ندخل في سلسلة من تغيير الأهداف للإبقاء على الوسيلة، يصبح الحفاظ عليها هو الهدف الأكبر، حيث لا مساومة في ذلك على الإطلاق، وحيث نسجل نجاحنا الدائم طالما استطعنا الابقاء على وسيلتنا، أي طالما نجحنا في الابقاء على ذاتنا... فنحن الوسيلة ونحن الهدف.


لكن ذلك ليس ذروة الوهم في الحالة السياسية الفلسطينية. فهناك مرحلة يمكن اعتبارها اكثر "تقدما"، يتم فيها الخلط بين الاعلان عن الهدف وتحقيقه، حيث يتم رفع اهمية الاعلان عن الهدف الى مستوى الهدف نفسه.


اعتبر الفلسطينيون "اعلان" الاستقلال، أو اعلان وثيقة الاستقلال استقلالا، واحتفلوا ويحتفلون بالإعلان تماما كما تحتفل الشعوب الأخرى باستقلالها. ويعتبر كثيرون "اعلان" قيام دولة فلسطين بمستوى قيامها. ويتصرفون على هذا الأساس... وزارات وبرلمان وأجهزة وانتخابات وقوانين...


مرة أخرى، المهم هنا هو السياق الذي يتم فيه فهم الأمور والتعاطي معها، فإن كان ذلك يصل للناس (للشعب)، على أنه حافز للحشد، والإصرار على المضي نحو تحقيق الأهداف، فهذا طبيعي وضروري ومقدر. واذا وصل على أنه تم انجاز المهمة وما عليهم الا أن "يتمتعوا" بالمنجزات وبالأهداف التي تحققت، فهذا وهم متكامل الأركان، سيترتب عليه الكثير من الأضرار.


الوهم مرتبط بعدم الوعي به، فإذا تعاملنا معه على أنه حالة مرضية نفسية تنتفي بمجرد الوعي بها، فإن كثيرا من النخب السياسية والثقافية الفلسطينية ليست واهمة - نظرا لإدراكها للحالة، بل منتجة للوهم ومسوقة له ومستخدمة له كذلك. "المصاب" بالأساس هو النسبة الأكبر من الشعب وبعض النخب، بما فيها تلك "المعارضة"، التي تطالب بأشياء يفترض أنها تدرك أن من تطالبهم، ليسوا ذوي صلة بما يطلبون، أو ليسوا في وضع يتيح لهم التعامل مع تلك المطالب.


لقد تجاوزت نخب فلسطينية حالة الوهم الى حالة "الاستثمار" فيه. بمعنى أنها أعطت للوهم دورا وظيفيا، تستفيد منه في الحفاظ على الذات وعلى "المكاسب". بهذا يتم الحفاظ على كل "الآليات" التي يستمر بها الوضع الراهن، وهذا كما قلنا يتطلب تجاوز الأهداف الحقيقية، مع الابقاء على آليات الوهم بها. ذلك الذي يتطلب "حركة"، أو ما يشبه الحركة، لمد صاحبها بقدرة على تبرير وجوده ليس أكثر.


هذا يجري في الموقف من الانقسام، ومن المفاوضات، ومن بعض أشكال المقاومة، ومن العلاقة بالأمم المتحدة ومنظماتها، ويظهر في بعض السلوك السياسي لبعض الاحزاب السياسية "موالية" كانت أو "معارضة"، وكذلك في سلوك بعض النقابات ومؤسسات المجتمع المدني.


هذا الوهم، الذي يصنعه "خبراء" في نظرية "المثل" عند أفلاطون-وليعذرني عدم العارفين بها- فيصورون الواقع خيالا ويستجلبون خيالا على المقاس، لتقديمه على أنه انجاز، وهو الذي ترعاه صيغة "مستحدثة" من التربية والاعلام وجيش من المثقفين، فتعمل على تمويه المشهد وخلط الأوراق، وتحدث فوضى فكرية "خلاقة" في عقل الشعب، تصور التراجع تقدما والهزائم انتصارات.


انه الوهم الذي يحدث في ظل غياب الاستراتيجيا التي تحدد الأهداف العليا للشعب الفلسطيني، وتتيح لمن يستفيد من الحالة، امكانية تقديم "انجازاته" للشعب، باختيار الأهداف التي يحددها حسب مصالحه، ويسوقها على أنها أهداف الشعب.


يتطلب شفاء الشعب من الوهم الذي يعيشه، وكذلك حرمان "المستثمرين" له من اسلحتهم، الشجاعة لإجراء مكاشفة ترسم الأهداف الحقيقية من جديد، وتعيد ترتيب "الاشياء"، وتخلق الآليات المناسبة لتحقيقها.

دلالات

شارك برأيك

صناعة "الوهم" في الحالة الفلسطينية

المزيد في أقلام وأراء

٢٠٠ يوم على أطول عدوان ضد قطاع غزة

حديث القدس

مخيم "نور شمس" وإعادة تدوير الموت عنقاء ستنهض من رمادها

سماح خليفة

مَرض"الوطنّي الوحيد"

سهيل كيوان

أطفالنا القادمون!

أسامة الاشقر

فعل الإجرام واحد

حمادة فراعنة

الفيتو تقويض للسلم والعدالة والمساواة..... الفيتو الأمريكي الدليل ؟

فوزي علي السمهوري

مقابلة الرئيس مع وفا … بداية تغيير أم بقاء القديم على قدمه؟‎

هاني المصري

تراجع إسرائيل وإيران عن حافة الهاوية لا يعني نهاية المخاطر

محمود علوش

الفصح المجيد في أدبنا العربيّ التّليد

د. إياس يوسف ناصر

حرب المجازر والمقابر ..

حديث القدس

ما العمل في ظل أجواء الفقدان

غسان عبد الله

عن اليوم التالي لحرب غزّة واليوم الذي يليه

سعيد زيداني

الحرب على غزه وتصفية القضية الفلسطينية

ناجى صادق شراب

عار الفيتو

رمزي عودة

جرائم المستعمرة متواصلة

حمادة فراعنة

الاحتلال يواصل جرائمه والقيادات تواصل تصريحاتها .. والالتصاق بالكراسي

إبراهيم دعيبس

اجتماع السبعة : خطاب الاستعداء اجتماع الستة : اعتدال ينقصه الغضب

أحمد رفيق عوض

بمناسبة يوم الأسير: شهادة الأسير عز الدين عمارنة، السجون وعجائبها السبع؟!

وليد الهودلي

استراتيجيات الرد المتوازنة: لعبة شد الحبل بين إيران وإسرائيل على وقع حرب غزة

فادي أبو بكر

الهند والأونروا... بين نهجين: الشراكة التنموية و"عدم التسامح مع الإرهاب"

منال علان

أسعار العملات

الثّلاثاء 23 أبريل 2024 8:39 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.78

شراء 3.76

دينار / شيكل

بيع 5.32

شراء 5.28

يورو / شيكل

بيع 4.02

شراء 3.99

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%73

%22

%5

(مجموع المصوتين 152)

القدس حالة الطقس