لم يكن صبر أهل غزة صبرًا عاديًا، بل كان أسطوريًا، فاق حدود التحمُّل البشري، حتى بدا وكأنه صبر الأنبياء والأولياء. فقد كان صبرًا على القهر والخذلان، وعلى القتل والمجاعة، وعلى حرب إبادة لا تشبهها أي حرب في التاريخ الحديث، فما عاشه أهل غزة لم تعشه البشرية من قبل، تحت وقع القصف الذي لم يهدأ، ووسط الجوع والعطش والبرد، والدمار الهائل الذي التهم كل شيء، بينما اكتفى العالم بالصمت أو التواطؤ، ولم يتحرك بشكل جادٍّ لوقف هذه المجزرة طيلة أشهرها الطويلة والمريرة، ورغم ذلك، تمسَّك أهل غزة بأرضهم، ولم يرضخوا لمحاولات التهجير، حتى وإن لم يبقَ لهم سوى الركام مأوىً، فآثروا البقاء واحتملوا كل ما حدث ويحدث، ولم يهنوا، بينما هان العالم، الذي اختار أن يكون متفرجًا على مذبحة العصر.
التظاهرات التي خرجت بالأمس وجابت شوارع القطاع المدمر، تطالب بوقف الإبادة وجرائم الحرب، جاءت بعد أن احتمل الناس في غزة ما لم يحتمله بشر، وهي حق طبيعي لا يجوز تشويهه لأهداف هنا أو هناك، كما لا يجوز تجاهله أو الالتفاف عليه، لكي لا تدور عاقبة الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، وبالتالي فكلمات التشكيك وخطابات التخوين، مثار فتنة وتحايل على حقيقة الواقع، ولن تجدي نفعًا، بل تشكل خطرًا فادحًا غير محمود العواقب.
بالأمس خرج الناس في غزة ولسان حالهم يقول: إلى متى؟! ووقف النازحون أمام خيامهم البالية، وأمام مراكز الإيواء التي لم تؤوِ إلا وجعهم، ورفعوا صوتهم في وجه كل من يملك قدرة على وقف النزيف ولم يفعل، وطالبوا الكل بتحمل مسؤولياته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولم تكن تلك التظاهرات مجرد احتجاجات، بل كانت النداء الأخير لكل ضمير، ولكل من يمتلك قدرة على وقف المقتلة.
الناس الذين خرجوا بالأمس مطالبين بوقف هذه المقتلة، كما طالبوا في الوقت ذاته كل فلسطيني بتحمل مسؤوليته، خاصة القيادات والفصائل والأحزاب، لأن واقع الحال الرث في غزة لم يعد يحتمل، وكل لحظة تأخير تعني مزيدًا من المعاناة، ومزيدًا من الدماء، ومزيدًا من الأطفال الذين ينامون بلا سقف، وبلا غذاء، وبلا حياة، وهذه الأصوات التي تظاهرت بالأمس تستحق التدخل العاجل والفوري، وأن لا يدفن البعض رأسه في الرمال ثم يخرج علينا بتصريح هنا أو هناك.
من حقّ الناس في غزة أن يتظاهروا لوقف الحرب، ولا يجوز لكائنٍ من كان أن يلومهم أو يُشكك في خطواتهم، لأنَّ ما احتملوه وصبروا عليه لم يصبر عليه أحدٌ من قبل. وما يعيشونه غيرُ قابلٍ للعيش، وسط واقعٍ فاقدٍ لكلِّ شيء. لذلك، فإنَّ محاولاتِ البعض للتصيُّد وتوزيع الاتهامات تثيرُ الاشمئزاز. فمن غير المقبول أن يُلقي أحدٌ الخُطب الوطنية من بيته في إحدى العواصم، وبين عائلته، وهو يمارس حياته الطبيعية، ثمَّ في وقت فراغه يجلس أمام شاشة الكمبيوتر ليُصدر التصريحات، ويوزع الوطنية على الناس الذين فقدوا بيوتهم وعائلاتهم، ويعيشون الفقد في كلّ دقيقة، بلا طعامٍ ولا شراب، وبلا أمنٍ ولا أمان، في خيام رثَّة ومراكز نزوح باتت مكارهَ صحيَّة.
..............
من حقّ الناس في غزة أن يتظاهروا لوقف الحرب، ولا يجوز لكائنٍ من كان أن يلومهم أو يُشكك في خطواتهم، لأنَّ ما احتملوه وصبروا عليه لم يصبر عليه أحدٌ من قبل.
شارك برأيك
غزة.. صبرٌ فاق صبر الأنبياء