لطالما شكلت القضية الفلسطينية محوراً مركزياً في أروقة السياسة في العالم عموماً، وفي العالمين العربي والإسلامي خصوصاً، وهذا بطبيعة الحال ليس مدحاً للأنظمة في عالمنا العربي، فمنها من كان يشغله ولفترة من الزمن، كيفية التخلص من هذا العبء، وقسم آخر كان يعتبرها قضية جماعية لأمة العرب، تستلزم التضامن العربي الشامل، وتستحق أن يقدم في سبيلها الغالي والنفيس، ومع ذلك، شهدت العقود الأخيرة تغيرات جوهرية في كيفية تعاطي العرب مع هذه القضية، وحدثت مجموعة من التحولات التاريخية في النظرة العربية تجاه القضية الفلسطينية، والتي أثرت على مجمل الديناميكيات الإقليمية والدولية، تاركة الفلسطينيين يواجهون مصيرهم منفردين، مشتتين ومقسمين.
أما عبور القضية الفلسطينية وانتقالها من الإطار الأكبر والأوسع إلى الإطار الفلسطيني الأصغر فلم يكن فجائياً، بل كان نتيجة تطورات سياسية متعددة، لكن الجزء الأكبر منها كان فلسطيني المنشأ، حتى لو كان ذلك بفعل ظروف خارجية، طوعاً أو كرهاً، لكنها بالمحصلة جعلت بعضاً من الفلسطينيين يعتقدون للحظة أنه من صالح القضية أن تصبح قضيتهم، وأن تُرفع الأيدي عنها، وسعى الفلسطينيون جاهدين لهذه الغاية، فعملوا لامتلاك ناصية القرار الوطني المستقل منذ سبعينيات القرن الماضي، الأمر الذي لاقى "ترحيبا" عربياً واسعاً، فقد كانت القضية عبئاً يثقل كاهلهم، ومنهم من رأى فيها استنزافاً لمواردهم، أو سبباً في عدم استقرار بلادهم، وربما سبباً لتوتير العلاقات بينهم وبين شعوبهم، تلك الشعوب التي رأت فيهم متآمرين، أما أولئك الذين أحسنت شعوبهم الظن بهم، فقد رأتهم متخاذلين عن نصرة قضية العرب الأولى، الأمر الذي جعل عديد الدول العربية تعيد تقييم مواقفها من القضية الفلسطينية، سواء كان ذلك بعد حروب عديدة ومفاوضات سلام فاشلة أو نصف ناجحة، الأمر الذي قاد إلى تغيير في الاستراتيجيات. ومع الإعلان عن توقيع اتفاقيات "السلام" الثنائية والتي قادها الفلسطينيون أنفسهم، من خلال مفاوضات سرية، جرت بالتزامن مع المفاوضات العلنية التي كان يشاركون فيها إلى جانب العرب، بدأت دول عربية تجد في ذلك "مبرراً" أو "عذراً" لتبتعد قليلاً، وبدأ معه ينحسر مستوى التزامها المباشر بالقضية.
وبقي السؤال المعضلة، والذي يشبه إلى حد كبير ذلك السؤال الذي طالما كان يسأله لنا أجدادنا عندما كنا صغاراً، أحجية البيضة والدجاجة، ومن منهما سبق في الخلق، أو وجد أولاً؟ فمهما قمنا بالمراجعات والتحليلات، وتمحيص الأسباب والمسببات، فلن نجد إجابة شافية على هذا السؤال في حالتنا، هل وجد الفلسطينيون أنفسهم مضطرين لأخذ زمام المبادرة في إدارة قضيتهم في ظل تراجع مستوى الالتزام والدعم العربي؟ أم أن العرب قد وجدوا أن الفلسطينيين قد أخذوا زمام المبادرة وباتوا قادرين على إدارة قضيتهم فآثروا الابتعاد؟
إن التغيير في الدعم والالتزام العربي للقضية الفلسطينية، وكذلك الجفاء والابتعاد، لم يكن موحداً، فبعض الدول تابعت دعمها بحذر، فيما ابتعدت أخرى قليلاً، وأخرى أوغلت كثيراً، فاتجهت نحو التطبيع. هذه الاختلافات كشفت أيضاً عن تباين واسع في الأولويات الوطنية على حساب التضامن العربي التقليدي، فصرنا نسمع ونرى انتشار تلك الشعارات الضيقة، في كل بلد عربي تقريباً، وحيثما توجهنا، "هذا البلد أولا"
وحيث أن العرب قد تخلوا جزئياً عن دورهم التقليدي، يبقى على الفلسطينيين اليوم أن يدركوا حقيقة أن هذا ما جناه عليهم آباؤهم، أو هذا ما فعلته أيديهم، لكنه – وللأسف - إدراك في لحظة متأخرة، في يوم لا ينفع الندم، فقد وقعنا جميعاً في الفخ.
شارك برأيك
رحلة القضية الفلسطينية من بُعدها العربي إلى الفلسطيني وما دون