Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

أقلام وأراء

السّبت 08 مارس 2025 9:45 صباحًا - بتوقيت القدس

المعرفة المُستعبَدة: عندما تصبح الحقيقة خطرًا

د. سماح جبر/ استشارية الطب والعلاج النفسي


في مساء بارد من شتاء القدس، كنت في زيارة لرجل مسنّ من قرية لم تعد موجودة على الخرائط. جلس على كرسيه الخشبي، يقلب بين يديه مفتاحًا صدئًا، وكأنه يبحث بين تعرجات معدنه عن ماضٍ لم يُكتب له البقاء. قال لي بصوت مُتهدّج: "كنتُ طفلًا عندما اقتحموا قريتنا، رأيتهم بعيني يحرقون البيوت ويطردون الناس، لكن عندما أحاول أن أحكي اليوم، أجد من يشكك أو من لا يريد أن يسمع".

خرجتُ من عنده وأنا أفكر: كيف تتحول الحقيقة إلى شيء مشتبه به؟ ولماذا يُسمح لسرديات معينة بالبقاء، بينما تُدفن أخرى أو يُعاد تشكيلها لتخدم مراكز القوة؟ هنا تذكرتُ الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي تحدث عن مفهوم المعرفة المُستعبَدة، وهي تلك المعرفة التي يتم تهميشها أو قمعها، ليس لأنها خاطئة، بل لأنها تتحدى السرديات التي تحمي السلطة.


 فوكو والمعرفة المُستعبَدة 


بحسب فوكو، ليست المعرفة مجرد سجل محايد للحقائق، بل ساحة صراع تتحدد فيها السلطة. فهناك معرفة مسيطرة، تُقدَّم على أنها الحقيقة المطلقة، وهناك معرفة مُستبعَدة لأنها تشكل خطرًا على النظام القائم. صنّف فوكو المعرفة المُستعبَدة إلى نوعين رئيسيين:

1. المعرفة المدفونة: وهي التي يتم إسكاتها تاريخيًا، إما عن طريق الإهمال أو التشويه المتعمد. إنها المعرفة التي ترفض السرديات الرسمية، مثل الروايات الفلسطينية عن النكبة التي وُصفت لعقود بأنها "نزوح طوعي"، أو شهادات الأسرى الذين تعرضوا للتعذيب، والتي تُشكَّك مصداقيتها حتى عندما تأتي بوثائق وأدلة.

2. المعرفة المحلية أو التمردية: وهي المعرفة التي تتشكل في سياقات القهر والاضطهاد، لكنها تُقصى لأنها لا تتماشى مع الخطاب السائد. مثلًا، عندما يوثّق الصحفيون الفلسطينيون الجرائم المرتكبة في غزة، يتم اتهامهم بعدم المهنية أو بالتحيز، في حين يتم التعامل مع وسائل الإعلام الغربية على أنها المصدر "الموضوعي" للحقيقة، حتى لو تجاهلت السياق التاريخي والسياسي للصراع.


المعرفة المُستعبَدة في فلسطين: من النكبة إلى غزة


في فلسطين، تتجلى المعرفة المُستعبَدة في كل تفاصيل حياتنا. منذ النكبة، كان التاريخ الفلسطيني يُعاد كتابته من قِبَل من ارتكبوا الجريمة، وكان صوت الضحية إما مختفيًا أو مموهًا تحت عبارات مثل "صراع"، و"نزاع"، و"أرض بلا شعب". في الكتب المدرسية الغربية، قد تُذكر النكبة بإيجاز، لكنها لا تُقدم كجريمة تطهير عرقي، بل كحالة اختفت مع الزمن، كأن شعبًا بأكمله يمكن أن يُمحى دون أثر.

أما في غزة، حيث القصف والدمار جزء من الحياة اليومية، يتم تقديم الفلسطينيين هناك على أنهم مجرد أرقام، "قتلى في غارات جوية"، دون الحديث عن القصص، عن الوجوه، عن الأحلام التي انقطعت وسط الليل. يتم تصوير غزة على أنها "مشكلة إنسانية" تستدعي إرسال المساعدات، بدلًا من كونها نتيجة مباشرة لاستعمار استيطاني يفرض حصارًا لا ينتهي. حتى عندما يتحدث العالم عن "الصدمة النفسية" لدى أطفال غزة، نادراً ما يتم ذكر أن هذه الصدمة ليست حدثًا عرضيًا، بل نتيجة مستمرة لعقود من العنف الممنهج.

إن أخطر أشكال قمع المعرفة هو قتل من ينقلها. لم يكن غريبًا أن يكون الصحفيون الفلسطينيون على رأس قائمة الاستهداف أثناء العدوان على غزة، فقد تم اغتيالهم عمدًا، ولم يكن ذلك مجرد "أضرار جانبية" كما يزعم الاحتلال. كانوا يحملون كاميرات، لا أسلحة، لكن الحقيقة التي وثّقوها كانت أكثر خطورة على النظام الإسرائيلي من أي سلاح.

في الوقت نفسه، تم منع الإعلام العالمي من دخول غزة أثناء الإبادة الجماعية، في واحدة من أكثر السياسات وضوحًا لمحو الشهود ومنع توثيق الجريمة. ومع ذلك، لم يصمت الصوت الفلسطيني. رأينا صحفيين يبثّون من بين الأنقاض، يكتبون بدمائهم قبل أن يكتبوا بأقلامهم. بعضهم استُهدف وقتل مع عائلته بالكامل، في محاولة لإخماد صوته إلى الأبد. لكن هل يمكن إسكات الحقيقة بقتل أصحابها؟

حتى في مجال الصحة النفسية، نجد أن المعرفة الفلسطينية تخضع للاستبعاد أو التحييد. عندما يعاني الفلسطيني من القلق أو الاكتئاب بسبب القهر والاضطهاد، يتم تصنيفه على أنه حالة فردية بحاجة إلى علاج نفسي، بينما يتم تجاهل السبب الحقيقي: الاحتلال وسياساته العنيفة.


الأطفال واضطرابات ما بعد الصدمة


في المخيمات، حيث الأطفال يشهدون القصف والمداهمات، يتم تشخيصهم باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وكأن المطلوب هو فقط "علاجهم" لكي يتأقلموا مع واقع لا إنساني، بدلًا من معالجة السبب الجذري لمعاناتهم. هذه النظرة الفردية للصحة النفسية تُحوّل الفلسطيني من ضحية لنظام استعماري إلى مجرد "مريض نفسي" يحتاج إلى تصحيح سلوكه!

إن تحرير المعرفة لا يكون فقط من خلال الدراسات الأكاديمية أو التقارير الحقوقية، بل من خلال أفعال يومية تعيد الاعتبار للرواية الفلسطينية. علينا أن نوثق رواياتنا، ونخلق منصاتنا الخاصة، وننشر شهاداتنا بطرق لا يمكن إسكاتها. الصحافة، الأدب، الفنون، وسائل التواصل الاجتماعي، كلها ساحات معركة ضد محو الحقيقة.

في طريق عودتي إلى القدس، تذكرتُ ذلك الرجل العجوز، والمفتاح الصدئ الذي كان يحمله. لم يكن ذلك مجرد معدن قديم، بل كان ذاكرة تحاول البقاء، وحقيقة تأبى أن تموت. وكما أن هناك من يحاول إغلاق الأبواب على الماضي، هناك دائمًا من يحمل المفتاح، مستعدًا لفتحها من جديد.


.............


المعرفة المدفونة هي التي يتم إسكاتها تاريخيًا، إما عن طريق الإهمال أو التشويه المتعمد. إنها المعرفة التي ترفض السرديات الرسمية، مثل الروايات الفلسطينية عن النكبة التي وُصفت لعقود بأنها "نزوح طوعي".

دلالات

شارك برأيك

المعرفة المُستعبَدة: عندما تصبح الحقيقة خطرًا

المزيد في أقلام وأراء

دور المرأه المقدسية في مقاومة التهويد وتعزيز الصمود.

تهاني اللوزي

بمناسبة عيد المرأة : مستمرة بالمعاناة والنضال لنيل حقوقها عالمياً

كريستين حنا نصر

لجنة ثنائية القومية لبناء الثقة

جيرشون باسكين

مشاهد دامية.. واللعبة تتواصل

المتوكل طه

لماذا استعجل العرب الترحيب بالجولاني؟ وما المخاطر القادمة ؟

مروان إميل طوباسي

"رمضان التكافل" لإغاثة غزة

ريما محمد زنادة

في اليوم العالمي للمرأة : مكانة المرأة الفلسطينية ومعاناتها في حاضرنا وفي تاريخنا وتراثنا الحضاري

تيسير خالد

هجوم خاطئ على المؤسسات الأميركية

جيمس زغبي

وحدة حركة "فتح" وحدة البيت الفلسطيني

حمادة فراعنة

المرأة الفلسطينية في الدبلوماسية والقيادة السياسية

دلال صائب عريقات

رمضان في القدس تحت مطرقة الاحتلال وسندان التضييق

عبد الله توفيق كنعان

يوم المرأة العالمي: بئساً لعالم لا يرى

المفاوضات مع حماس شر لا بد منه

حمادة فراعنة

السيطرة على الضفة الغربية !

العائلة الرقمية في عصر الذكاء الاصطناعي: عائلتك لم تعد كما تعتقد.. هل تتحكم بها خوارزميات...

هل الذكاء الاصطناعي يغش؟

عبد الرحمن الخطيب

في مواجهة عملية لمشروع التهجير

علاقات حماس بالغرب: أمريكا.. المفاجأة والكواليس!!

د. أحمد يوسف

الأمن القومي العربي.. أنا "فلسطين" يا أبي

د. إياد البرغوثي

القواعد الحاكمة لسلوك الرئيس ترامب

جهاد حرب

أسعار العملات

السّبت 08 مارس 2025 11:42 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.63

شراء 3.62

يورو / شيكل

بيع 3.94

شراء 3.93

دينار / شيكل

بيع 5.11

شراء 5.1

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%53

%47

(مجموع المصوتين 795)