للمرأة في فلسطين مناسبتان يجري الاحتفال بهما باعتبارهما أعياداً تستلهم فيهما المرأة الفلسطينية معاني النضال من أجل الحرية في مسارين متلازمين: مسار التحرر من تقاليد متوارثة، كانت وما زالت تكبل دورها في المجتمع، ومسار التحرر من احتلال يثقل دورها بقيود تحول بينها وبين توظيف طاقتها الكاملة في بناء مستقبل واعد للأجيال في دولة مستقلة توفر الأمن والأمان والاستقرار والازدهار والتقدم لمواطنيها دون خوف من مجهول. المناسبة الأولى أممية، وهي يوم المرأة العالمي في الثامن من آذار، أما المناسبة الثانية فوطنية وهي اليوم الوطني للمرأة الفلسطينية في السادس والعشرين من تشرين الأول في كل عام، ربطاً بانعقاد المؤتمر النسائي الأول في مدينة القدس، في مثل هذا اليوم من العام 1929 ، حيث شاركت مئات السيدات الفلسطينيات في مظاهرة جابت شوارع القدس، وصولاً إلى مقر إقامة المندوب السامي البريطاني، لمطالبته بإلغاء وعد بلفور المشؤوم ومنع الهجرة اليهودية الى فلسطين.
في هذا امتياز للمرأة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه تعبير عن الشعور بأهمية دورها للنهوض بمسؤولياتها جنباً إلى جنب مع الرجل للتحرر من القيود على اختلافها، والارتقاء بدورها في عالم تتطور فيه حقوق المساواة بين الجنسين، كعلامة فارقة في الحياة المعاصرة. وتبدو المرأة الفلسطينية هنا عاقدة العزم على انتزاع حقوقها، وهي تستلهم في ذلك ما كان لها من مكانة في تراث هذه البلاد، حيث كانت للمرأة مكانة خاصة في تاريخ وحضارة أجدادنا الكنعانيين، الذين كانوا من أوائل الشعوب، التي وضعت القوانين والأصول المدنية، التي ساوت بين المرأة والرجل، وكانوا أول من حرر المرأة وساواها بالرجل، فكانت المرأة الكنعانية كاهنة، وقائدة جيوش، وسياسية، بدءاً بعشتار مروراً بالأميرة ألبسا وانتهاء بالسيدة مريم العذراء. ولم يكن يضاهي الكنعانيين في تقديرهم لمكانة المرأة ودورها سوى المصريين القدماء، الذين كانوا يعتقدون أنها أكمل من الرجل، حيث كان المجتمع الفرعوني أقرب إلى المجتمع الأمومي، خلافاً لما كان عليه الوضع السيء للمرأة في حضارة ومجتمعات بابل وسومر وآشور.
وعليه فليس في تراثنا ما يدفعنا للتردد والنظر بكل إيجابية للمطالب المحقة التي تسعى المرأة الفلسطينية لتحقيقها. ففي الأصل كانت مكانة المرأة كمكانة الرجل في الأسرة البشرية، لم تكن ملكاً ولم تكن سلعة. لأنها في الأصل حجر الزاوية في المجتمع، تعي كما الرجل معنى الحريات، والحقوق، والمساواة. أما محاولة تحجيم دورها وحصره في جوانب حياة معينة، فقد جاءت لاحقاً في سياق التطورات التي دخلت على وسائل وملكية الانتاج، وهذه المحاولة هي التي أوصلت عديد المجتمعات إلى أدني مستويات سلم التطور في عالمنا المعاصر. وغني هنا عن القول أن محاولة فرض أنماط سلوكية تقليدية على المرأة لا تتماشى مع روح العصر، لأن ذلك يبعث فيها روح التمرد بالتأكيد. فالأصل والحالة هذه أن تقف المرأة على قدم المساواة مع الرجل، فالرجال والنساء متساوون، ولكنهم في الوقت نفسه ليسوا متماثلين، إنهما يختلفان عن بعضهم البعض في شؤون عدة تتصل بالتركيبة الجسدية المميزة للجنس، ولكنهما يتساويان في أمور الحياة الأخرى. حتى في أساطير القدماء كانت المساواة تطرح نفسها في أرقى الصور. الآلهة في الأساطير، كان منها رجال، وكان منها نساء، وذرية تعيش على الأرض وأخرى تعيش في السماء.
أدرك طبعاً أن باطن مجتمعاتنا يختلف عن ظاهره، فقد يبدو الظاهر متمدناً ويبدو الباطن مختلفاً خاصة عندما تعم المجتمع ظواهر من ظلم، وتصرفات وسلوك المجتمع الذكوري، الذي يضع المرأة في منزلة أدنى، حيث تكتسب الذكورة صفة سلطوية تعطي صاحبها، الحق في الهيمنة بحجج وذرائع حماية المرأة باعتبارها الحلقة الأضعف في المجتمع. من هنا فإن الحجر على حرية المرأة بذريعة الخوف عليها، دليل على ضعف التربية في المجتمع. ثقافة التربية السليمة هي التي ترشد العقل إلى اتخاذ القرارات والخيارات السليمة الصحيحة، وبناء شخصية مستقلة قادرة على مواجهة صعوبات الحياة.
أما الخوف عليها، أي على المرأة، فهو الوسيلة لطمس شخصيتها عوضاً عن إبرازها. تربية المرأة وتعليمها ومعاملتها أسوة بالذكور ضرورة ثورية حتمية لإحداث نقلة اجتماعية نوعية، تقف فيها المرأة والرجل على قدم المساواة في مواجهة الموروث المتخلف. هنا يصدق قول كارل ماركس تماماً بأن التقدم الاجتماعي يقاس بالموقف الاجتماعي من تحرر المرأة، وفي هذا حكمة بالغة، فتغير نظرتنا وموقفنا من المرأة وتحويلها من عنوان على صلة بالجنس إلى عنوان على صلة بالشراكة في الحياة، يحرر مساحة واسعة من عقل الرجل، ويمكنه من استخدم هذه المساحة المحررة في تحرير انتصاره على المفاهيم التقليدية لينطلق الجميع نحو مستقبل أكثر ثراء، وأكثر إنسانية.
وفي حالتنا الفلسطينية الراهنة، في ذكرى الثامن من آذار فلا نضيف جديداً عندما نؤكد أن النساء الفلسطينيات يواجهن ظروفاً بالغة الصعوبة والقسوة. فمن ناحية تتواصل جرائم الاحتلال وتتسع مساحة هذه الجرائم لتطال المزيد من النساء، ويتجلى ذلك بوضوح في الحروب التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، حيث تشكل المرأة والطفل نسبة تصل إلى نحو 65 بالمئة من عدد ضحايا تلك الحروب . فما زالت الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 تشهد تصعيداً واضحا في الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال، التي لا تستثني منها النساء. وقد عاشت المرأة الفلسطينية وخاصة في الأعوام الأخيرة ظروفاً صعبة وقاسية بعد أن صعدت تلك القوات من استخدام القوة المميتة ضد المرأة الفلسطينية، هذا إلى جانب التوسع في حملات الاعتقال، التي طالت الأطفال والنساء، حيث تحتجز سلطة إدارة السجون الإسرائيلية، حسب آخر المعطيات حرية نحو 21 سيدة فلسطينية، ونحو 351 طفلاً فلسطينيا .
وفي الحديث عن معاناة المرأة الفلسطينية من الحروب، لم يعد مصطلح الإبادة الجماعية كافياً لوصف المأساة الإنسانية بحق النساء والأطفال الفلسطينيين الذين يشكلون النسبة الأعظم من ضحايا حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة. فعلى امتداد أكثر من 15 شهراً من الحرب، وحسب بيانات فلسطينية ودولية متطابقة إلى حد بعيد، تسببت الحرب الوحشية على قطاع غزة في استشهاد أكثر من 20 ألف طفل فلسطيني وأكثر من 15 ألف سيدة فلسطينية. ذلك يعني أن النساء والأطفال دفعوا الثمن الأكبر لحرب الإبادة المتواصلة، ما دفع خبراء حقوقيين لاستخدام مصطلح "الإبادة الجماعية للإناث والأطفال " لوصف الفظائع التي ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزة. فضلاً عن ذلك تم تهجير 800 ألف امرأة قسراً من منازلهن، وتعاني 700 ألف امرأة في سن الإنجاب من سوء التغذية الحاد، ولا تسطيع نحو 700 ألف امرأة في سن الإنجاب الحصول حتى على منتجات النظافة الأساسية، وارتفعت معدلات الإجهاض بنسبة 300% بسبب الرعاية الطبية غير الكافية، والصدمات النفسية، والقصف المتواصل للمنازل والتجمعات السكانية دون تمييز.
كل هذا يدعونا إلى ضرورة المطالبة، أولاً وقبل كل شيء، بتوفير الحماية للسكان المدنيين تحت الاحتلال بمن فيهم النساء والأطفال، والعمل بكل السبل والإمكانيات المتاحة من أجل ممارسة الضغط على سلطات الاحتلال، ودفعها لاحترام حقوق الإنسان، والالتزام بمبادئ القانون الإنساني الدولي. وفي الوقت نفسه ودون أن نضع ذلك على قدم المساواة، دعوة منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الفلسطينية لاتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لوضع حد لمظاهر العنف المحلي، وملاحقة مرتكبي الجرائم بحق النساء ومحاسبتهم، والوفاء بجميع الالتزامات الدولية الناجمة عن انضمام فلسطين إلى اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، ومواءمة القوانين المحلية مع الاتفاقيات الدولية بما فيها اتفاقية "سيداو" والقرار الأممي 1325، وإعلان بيجين وخطة العمل المنبثقة عنه عام 1995، وقبله إعلان مكسيكو عام 1975، وكوبنهاغن عام 1980، ونيروبي عام 1985، والعمل على ضمان تنفيذ وتطبيق هذه القوانين في مختلف المجالات، ومواجهة سوء استخدام الدين والعادات والتقاليد لتبرير الظلم المركب الواقع على المرأة، بهدف إقصائها وتهميشها.
نظرياً، منحت القوانين الفلسطينية المرأة الفلسطينية حقوق المساواة مع الرجل في شؤون عائلية، ودعت إلى إعادة النظر في قانون العقوبات لجهة توفير الحماية للمرأة الفلسطينية. وهنا نؤكد أن الحماية الفعلية للمرأة الفلسطينية في مجتمعها المحلي تتحقق في مسارين، الأول، عندما تجري عملية مواءمة حقوقها في التشريعات الوطنية مع الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها دولة فلسطين، والتزام نظامنا السياسي الفلسطيني بها، وخاصة اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو )، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمرأة، في إطار بناء منظومة قوانين عصرية تحمي الحقوق والحريات، وتحارب كافة أشكال التمييز، وتوفر البيئة التشريعية والاجتماعية لضمان ذلك، والثاني، عندما تجري ترجمة قرارات المجلس الوطني الفلسطيني بشكل شفاف وأمين، بشأن تمثيل المرأة في مراكز صنع القرار على اختلافها في بلادنا على نحو يعكس التجانس والانسجام، وتقليص الفوارق بين نسب المشاركة لتصل إلى نحو 30% وهي النسبة التي أقرها المجلس الوطني في دورته التي انعقدت في نيسان/ أيار من العام 2018. حصل تقدم على هذا الصعيد، ولكنه تقدم أعرج، فنسبة تمثيل المرأة ارتفعت في المجلس المركزي تصل نحو 25 % من مجمل العضوية، بينما ما زالت في المجلس الوطني تراوح عند حدود 11 %، أما في مجلس الوزراء لحكومة محمد مصطفى، فتقترب من 20 بالمئة ، فيما ينعدم التمثيل في اللجنة التنفيذية، وفي مكتب رئاسة المجلس الوطني، ورئاسة لجانه المتعددة، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً لتساؤلات مشروعة.
شارك برأيك
في اليوم العالمي للمرأة : مكانة المرأة الفلسطينية ومعاناتها في حاضرنا وفي تاريخنا وتراثنا الحضاري