يبدو أن النظام العالمي الذي تجسد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم قد فقد مبررات وجوده، وأن لحظة ولادة نظام آخر قد دنت. لكن شكل المولود الجديد بات أكثر ضبابية بعد تولي "الترامبية" قيادة الولايات المتحدة.
تمثل الصراع على النظام العالمي قبل مجيء ترامب، بنظام امريكي يستند أساسا الى الرأسمال المالي يسعى الى التشبث بقيادة الولايات المتحدة للعالم، مقابل دول صاعدة ممثلة بالصين وروسيا وقوى اقليمية أخرى، تعمل على خلق نظام متعدد الاقطاب، يكسر تفرد أمريكا ويحد من هيمنتها.
لكن مجيء ترامب رئيسا للولايات المتحدة غير قواعد الصراع على النظام العالمي، رغم أن جوهر ذلك الصراع بقي بين الولايات المتحدة العاملة للبقاء زعيمة للعالم بلا منازع، وبين القوى التي لا يروق لها ذلك.
بوجود "الترامبية" في الولايات المتحدة، لم يعد الصراع محصورا بين أمريكا وبين منافسيها التقليديين كالصين وروسيا وبعض الدول الأخرى، بل شمل ذلك الصراع ايضا ما هو جار بين النخبة السياسية- الاقتصادية الجديدة وبين مثيلتها التقليدية داخل النظام الأمريكي نفسه. هذا الوضع أربك الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة بمن فيهم، وربما في مقدمتهم الدول العربية، فحماية الحلفاء التقليديين ورعايتهم لم تعد مسألة ضرورية بالنسبة لأمريكا الترامبية، بل أصبح من الممكن أن يكونوا هدفا لها أسهل من الخصوم التقليديين.
فالترامبية الأمريكية لم تعد متمسكة بالمفهوم الكلاسيكي لأمنها وتفوقها كما كانت ترى الادارات السابقة، فلم تعد بحاجة الى حلفاء وقواعد عسكرية وخوض الحروب وإرسال الجيوش التي تثقل كاهل الميزانية، ولا الى المنح المالية التي تهبها لحلفائها كما كانت ايام صراعها مع الاتحاد السوفياتي. الآن لا يوجد اعداء للولايات المتحدة (ولا اصدقاء”، لا روسيا ولا الصين ولا غيرها، وإن وجدوا فهي قادرة على الدفاع عن نفسها منفردة. هذه الدول قد تكون منافسة لها بمفهوم السوق، وبالتالي هي بحاجة الى الشركات وعقد الصفقات بدل الحروب (الاستثناء الوحيد هو اسرائيل).
العرب والوضع الأمريكي الجديد
كان النظام العربي "مرتاحا" لعلاقته التقليدية مع الغرب وبالتحديد مع الولايات المتحدة (قبل ترامب). المعادلة لدى ذلك النظام كانت واضحة ومستقرة و"مريحة" تتلخص في التخلي الفعلي عن قضية فلسطين مقابل الحماية من ارتداداتها، أي اعتبار فلسطين بمثابة قربان للحفاظ على شقيقاتها، وكذلك الاستعداد للخدمة كخلية "امريكية" نائمة تصحو كلما لزم الأمر، كما حدث في المواجهة مع الاتحاد السوفياتي وفي أفغانستان وفي "التصدي" للنفوذ الايراني وكذلك في الحرب على العراق وغيرها.
حتى ترامب، تعامل العرب على أن لا شيء يهدد امنهم آت من الغرب (بما في ذلك اسرائيل)، وفهموا امنهم القومي في التماهي التام مع الأمن القومي الأمريكي، فأعداء امريكا هم اعداء العرب، ابتداء من الاتحاد السوفياتي الى الأنظمة العربية "الراديكالية" الى ايران والإسلام "المتطرف"، واذا ما حدث وأن تخاصم نظامان عربيان، فإن الأنظمة العربية الأخرى ستقرر موقفها في ضوء الموقف الأمريكي ولا داعي لإجهاد النفس من أجل ذلك.
ما دام الأمر كذلك، فلماذا على العرب أن يهتموا بأمنهم القومي ما دام مرتبطا بالأمن القومي الأمريكي (والاسرائيلي)، لذلك ذهب مفهوم الأمن القومي لديهم الى حد التلاشي، واختُصر الى أمن كل نظام بمفرده، ما دام "المرشح" الوحيد لتهديد أي نظام عربي هو "شقيقه" النظام العربي الآخر.
كانت الأمور لدى العرب واضحة تماما، طمأنة امريكا وإسرائيل الدائمة بأن موضوع فلسطين عندهم قد انتهى، وذلك بملاحقة كل ما ومن “تسول له نفسه" بأن يتصرف عكس ذلك، ومقابل ذلك يضمنون امنهم واستقرارهم و"مساعدات" امريكا لهم.
بمجيء ترامب تحولت امريكا من شيخ قبيلة يحكم بالنفوذ وبالعطايا، الى زعيم عصابة يحكم "بذراعه" ويبتز الأموال من الآخرين، وخاصة من "اصدقائه" التقليديين بدل أن يعطيهم. ومن الأيام الأولى لأمريكا الجديدة، وعلى إثر "اقتراح" ترامب بتهجير الغزاويين الى مصر والاردن، أدرك العرب أن الوضع مع امريكا لم يعد كما كان، وأنها ليس فقط توقفت عن حمايتهم، بل أصبحت مصدرا لتهديدهم. في هذه اللحظة بالذات حل الإحساس الغرائزي الكامن بالخطر مكان الوعي بالأمن الذي تم تغييبه، وأخذت ردود الأفعال على اقتراح ترامب بالظهور بشكل واضح وجريء.
استراتجية الأمن العربي.. قبل ترمب كما بعده
حتى تسلم ترامب منصبه في رئاسته الثانية للولايات المتحدة، بقي النظام العربي مطمئنا الى أمنه اعتمادا على طبيعة السياق الذي نشأت فيه الدولة "الوطنية" العربية، وهو نفس السياق الذي نشأت فيه اسرائيل، اضافة الى المهمة التي اوكلت امريكيا (وغربيا) لتلك الدولة، ذلك السياق و"رداءة" المهمة كانا مصدر ارتياح النظام العربي لأمنه.
لكن تلك الطمأنينة اهتزت بعد أن تصدى العرب إعلاميا لمشروع ترامب لتهجير الفلسطينيين من غزة الى مصر والاردن، وازداد ذلك حدة بعد أن طلب نتنياهو من السعودية "استضافة" الغزاويين فيها. بعد ذلك تمت الدعوة لعقد مؤتمر قمة عربي طارئ في القاهرة، ذلك الذي جرى مؤخرا، حيث تم إقرار الخطة المصرية لعدم تهجير الفلسطينيين وإعادة إعمار غزة.
ومع ذلك لم يبد على العرب أنهم أدركوا أن امريكا الترامبية لم تعد بحاجة لهم ولا لغيرهم، وأنهم قد يكونوا هدفا لها مثلهم مثل غيرهم بل ربما أسهل من غيرهم وأضمن. فمن خلال متابعة رد فعل النظام العربي على الحرب الاسرائيلية التي جرت إثر "الطوفان" على غزة، ومقارنة ذلك بما جرى بعد مؤتمر القمة الطارئ ردا على اقتراح ترامب تهجير الفلسطينيين، نجد أن التغيرات التي جرت على النظام الأمريكي لم تغير شيئا يستحق التنويه له فيما يتعلق بموقف النظام العربي من مسألة الأمن القومي ومن فلسطين.
بقي ذلك النظام مخلصا لمعادلته "الذهبية" وهي قبوله بالتضحية بفلسطين مقابل اعفاءه من تحمل نتائج تفاعلاتها وارتداداتها. لا يبدو أن النظام العربي يرفض مسألة تهجير الفلسطينيين من غزة من حيث المبدأ، ولا حتى إبادتهم، إنما رفض ما قد يترتب عليه نتيجة ذلك. لذلك لم يتفاعل العرب مع جنوب افريقيا أو كولومبيا وايرلندا وبعض الدول التي اتخذت خطوات عملية قانونية ودبلوماسية ضد العدوان الاسرائيلي، ولم يصدر عنهم ما يوحي أنهم مزعوجون لذلك.
لقد اقتصر رد الفعل العربي على العدوان الاسرائيلي على بعض الدعوات للتهدئة وضبط النفس بعد الإعراب عن "الاستنكار" الشديد لما قامت به المقاومة، وعند انعقاد مؤتمر القمة الطارئ، حرص العرب على إرسال رسائل الطمأنة الى اسرائيل في موضوع الالتزام بالعلاقة معها، وكانت كل الاقتراحات والاجراءات مطلوبة من الجانب الفلسطيني ولم يُطلب من اسرائيل أي شيء عملي.
لقد غض النظام العربي الطرف عن أن اسرائيل لم تعد تقتصر بعدوانها على غزة وفلسطين، بل امتدت لتشمل لبنان وسوريا واحتلت اراض جديدة فيهما. وبقيت فلسطين لدى ذلك النظام وليس اسرائيل، هي العبء على الأمن القومي العربي.
لم يرسل مؤتمر القاهرة الى اسرائيل ما يشير الى عدم رضاه فيما يتعلق بكل انتهاكاتها، ولم يلتزم بأي شيء قد يثير حفيظة اسرائيل، فتحدث عن خطة إعادة الإعمار، وكان واضحا في تحميل الفلسطينيين مسؤولية ما جرى ولم يُشر الى مسؤولية اسرائيل، ولم يهتم بإغاثة المدنيين التي تمنع عنهم اسرائيل الطعام والدواء.
نصت المبادرة العربية للسلام على "مقايضة" التطبيع مع إسرائيل بإقامة الدولة الفلسطينية، لكن التطبيع استمر ولم تقم الدولة، بل توقف الوعد بانشائها. التطبيع مع إسرائيل عند العرب لا يسير إلا باتجاه واحد ولا يعود الى الخلف، فهو إما يتقدم وإما يتوقف عند النقطة التي وصل اليها الى حين توجد الظروف التي تسمح بتقدمه. لا يبدو أن النظام العربي مستعد للتراجع عن التطبيع قيد انملة حتى لو أُبيد الشعب الفلسطيني بأكمله،
لكن المسألة بالنسبة للإسرائيليين لم تعد مقتصرة على فلسطين، فهم يعتقدون أن المنطقة ستكون أفضل عندما تقوم اسرائيل الكبرى، أي عندما تختفي سبع دول عربية عن الوجود.
تقوم اسرائيل الآن بفرض مفهومها للشرق الأوسط الجديد على حساب النظام العربي بالأساس؛ تبيد الفلسطينيين، وتوسع احتلالها في البلدان المجاورة، وتهدد الأنظمة القائمة، وتعيد تقسيم المنطقة، ومعها امريكا (ترامب) في كل ما تفعل، بل تسبقها وتمهد لها الطريق. ولا تغيير في نظرة العرب الى امنهم القومي حتى بعد أن اصبحت انظمتهم وبلدانهم في خطر، وما زالوا يحملون فلسطين مسؤولية ما ترتكبه اسرائيل.
بات واضحا أن مقولة مقايضة فلسطين بأمن النظام العربي لم تعد كافية ولا صالحة، وأصبح ذلك النظام مهددا بصورة أكثر جدية من قبل الذين يفترض أنهم حماته وحلفاؤه، امريكا وإسرائيل، خاصة بعد الحرب الأخيرة ومجيء ترامب.
حتى باقتراب هذا "المشهد" الذي بات في أوضح صوره، حيث يتم تقسيم شعوب ودول، وحيث تختفي أنظمة وتجيء أخرى، لا يبدو أن شيئا سيتغير في وعي وسلوك النظام العربي. ما زال ذلك النظام (على الأقل مما يمكن استنتاجه من مخرجات القمة والسلوك المرافق) يعتقد أنه باظهار "اخلاصه" و"امتثاله" للمطلوب سوف يحمي نفسه، لكنه لا يريد أن يصدق أن هذه الصفات (الإخلاص والامتثال)، باتت بمثابة الدم الأحمر الذي يثير شهوة "سمك القرش" المقيم الآن في واشنطن وتل أبيب.
شارك برأيك
الأمن القومي العربي.. أنا "فلسطين" يا أبي