هل شاهدت يومًا حفلة عيد ميلاد، وكيف أن أحد الحضور يسارع بتلطيخ وجه صاحب الميلاد بالكعكة، هذا تمامًا كان شعور مقدمة البرامج المشهورة ووبي جولدبرج وهي تعلّق ساخرة من ترامب وتصريحاته بخصوص غزة وتهجير الفلسطينيين، والسخرية من ردة فعل نتنياهو على تلك التصريحات، "بدا وكأنّ لا أحد تفاجأ بقدر الشّخص الذي كان واقفًا بجانبه، كان ينظر إلى الأسفل كأنّه يقول: من هذا؟"، لتتساءل جولدبرج بدورها: ما الذي يحدث؟
ونحن نشاركها السؤال ذاته: ما الذي يحدث؟ ألم يتعلم ترامب ونتنياهو درسًا مما حدث في غزة؟ ألم يحللوا المشهد الأخير لتسليم قوات المقاومة حماس للأسرى، وعودة أهل الشّمال إلى بيوتهم المهدّمة مصرّين على التمسّك بأرضهم؟ أم أن الطّاغية تعمى عيناه عن أيِّ شيء إلّاه؟ هل هو فرعون جديد يقول للعالم: أنا ربكم الأعلى؟!
لم تَعمَ عيني ترامب ولا نتنياهو عن كل تلك المشاهد، إنّما هي استراتيجية سياسية مدروسة، وهي صرف الأنظار عن الحقائق على أرض الواقع، وقد لوحّت زميلة جولدبرج إلى تلك الاستراتيجية بطريقة غير مباشرة عندما قالت: "ما أذهلني حقًّا هو أننا من ناحية لدينا مجرم مدان ب 34 تهمة، ومن ناحية أخرى لدينا رجل أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، حيث قتل 46 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وجرح 100 ألف آخرين، وتحولت غزة إلى أرض قاحلة"، مجرم متهم ومجرم مدان يخططان بشكل غير قانوني، إذن ما الهدف من تصريحات ترامب؟ الهدف هو صرف النظر عن حقيقة الواقع وخلق واقع وهمي يجعل الأفكار المستحيلة قابلة للنقاش، وبالتالي يتعامل العقل اللاواعي مع تلك المشاريع مستحيلة التنفيذ بأنها سيناريوهات مطروحة، مع الزمن قابلة للتنفيذ.
ترامب بذلك هو يعمل على إعادة تشكيل الوعي الجمعي، بحيث يتحوّل الخصم من مهاجم مطالب بحقوقه إلى مدافع عنها مشكك بما له وما عليه، ثم خلق ضجة إعلامية ضخمة (كالعادة) حول وهم يزرع في العقول؛ لتشتيت انتباهها حول القضية الرئيسيّة.
أية فكرة وهمية تطرحها على العقل وتعيد تكرارها مراراً بحيث يألفها العقل ويتجاوز مرحلة الصّدمة ويتعامل معها مع الوقت على أنها حقيقة وتبدأ في طور التنفيذ، وبالتالي تكرار الحديث عن تهجير الفلسطينيين رغم استحالة تنفيذ هذه الفكرة التي يقابلها الفلسطيني والغزيّ تحديدًا بـ"الموت ولا التخلي عن أرضنا"، إنما هو لجعل الناس يتعاملون مع الفكرة كأمر قابل للنقاش، وكل شيء قابل للنقاش تحصيل حاصل هو قابل للتنفيذ مع الزمن، هكذا يفكر ترامب، وعلى الجانب الآخر وانطلاقًا من المبدأ ذاته فإنه يصرف أنظار العالم عن فشل إسرائيل عسكريًا على أرض الواقع في غزة إلى موضوع المكان الذي يستقبل الفلسطيني بعد تهجيره من أرضه، وكأن الرفض أو الخلاف ليس لفكرة التهجير إنما للوجهة التي يهجّرون إليها! هذا فضلًا عن حديثه عن الدول المطروحة لاستقبال الفلسطينيين، فهو لا يطرح فكرة رفضها على الإطلاق إنما يقول: "ستقبل بذلك من أجل أمن وسلام المنطقة"، هو بذلك يعيد برمجة العقول؛ ليضعها في حيّز التفاوض القابل للتطبيق. كل تلك المخططات لتضليل الرأي العام والدول المعارضة ونقلها من حيّز الفعل إلى ردّ الفعل. بالتالي على الجميع أن يكون متيقظًا ولا يقع في هذا الشَّرَك السّياسي، وتبقى القضية المطروحة هي جريمة الحرب التي ارتكبها المحتل الإسرائيلي على أرض غزّة والضفة وفشله عسكريًّا أمام المقاومة، ويبقى وضوح المشهديّة صارخًا، من صاحب الأرض ومن هو مغتصب عابر لا محال.
يقول المثل الشّعبي: "كذب الكذبة وصدّقها"، فإن كان ترامب يصدّق كذبته فعليكم ألّا تصّدقوا تلك الكذبة، أن الشعب الفلسطيني يمكن في يوم من الأيام أن يتخلّى عن أرضه، ولا تناقشوها من الأساس، ولتبقَ عيونكم مفتوحة على المحتل الغاصب الذي يهدف إلى بقاء هذا الجسم الغريب مزروعًا في جسد الشرق الأوسط كالسرطان الخبيث حتى لا يشفى أبدًا ولا تقوم له قائمة، فتظل خيراته مسلوبة وهو يستجدي من قاتله لقمة العيش.
شارك برأيك
بين الجدّ والهزل.. ترامب يوزّع كعكة الميلاد