أقلام وأراء
الخميس 12 ديسمبر 2024 8:46 صباحًا - بتوقيت القدس
لن تطول سكرة الفرح في سوريا
لا أعتقد أن هناك مَنْ ينكر على السوريين، ويمكن ليس كلهم بطبيعة الحال، حقهم في الفرح لسقوط حكم قمعي واستبدادي بامتياز. ونحن الفلسطينيين كنّا نحمل على أكتافنا طوال عقود تناقض العلاقة مع النظام: قواعد عسكرية للتدريب وتسهيلات لوجستية ودعم سياسي لقوى المقاومة حتى اللحظة الأخيرة لسقوطه، في فلسطين كما في لبنان، وبذات الوقت قيادات وكوادر فلسطينية، ومن مختلف الفصائل، وطنية ويسارية وإسلامية، عرفت طريقها لزنازين النظام البشعة. القصص المروّعة نعرفها، وعانى منها الكثير من الكادرات التنظيمية للفصائل، ولسنا بحاجة لتبهيرات وفبركات باتت اليوم تطغى على شبكات التواصل، لا فائدة تُرجى منها لأن وقائع التعذيب والقمع معروفة. إنه التناقض الذي لم يجد حله حتى اللحظة في التاريخ والفكر العربيين: تناقض الموقف بين العداء للامبريالية من جهةـ، وأنظمة قمعية فاسدة معادية للديموقراطية من جهة ثانية، وهي لذلك تؤلب شعبها عليها بقمعيتها، ولذلك أيضاً توفر أرضية خصبة، للغزاة الخارجيين، ومعهم كل حثالات عصاباتهم من كل الأشكال والأجناس. صحيح أن الطغاة شرط الغزاة.
ولأن اللوحة متناقضة وشديدة التعقيد، فلا يكفي اختصارها بالإشادة بسقوط النظام، وفهم الفرح في الشوارع لأوساط عديدة من الشعب السوري، وذلك فرح لا يمكن فقط فهمه بل وتفهمه.
من تعقيدات المشهد أن ما جرى ليس (تحريرا) كما تزعم العصابات التكفيرية من جبهة تحرير الشام، وغيرها من عصابات الجنسيات المختلفة. لا يمكن تصور (تحريراً) يتم دون طلقة واحدة لبلد بضخامة سوريا خلال أسبوع لا أكثر. بل كل المعطيات تشير أن السلطة جرى تسليمها من الجيش والنظام بترتيب أطراف استانة (تركيا وإيران وروسيا)، المجتمعين قبل يوم من دخول المسلحين لدمشق، ومع التسليم جرى ترحيل آمن للأسد وعائلته بترتيبات روسية. أما إن النظام والجيش سلما السلطة، فهذا تأكيد أنهم فقدوا القدرة على الحكم لانفكاك القاعدة الاجتماعية الحاضنة من حولهم، بفعل تعزز الانتماءات والولاءات الطائفية من جهة (والدعاية الإعلامية الخليجية السنية راس الحربة هنا، كما وبعض مَنْ كان يُسمى القوى الرديفة للنظام)، والقمع الدموي من جهة ثانية، والأوضاع المعيشية الصعبة التي خلقها الحصار الإمبريالي من جهة ثالثة.
والسبب الأخير بطبيعة الحال لا يراه الفرحون والمنتشون بسقوط النظام، علماً ان الحصار خنق الشعب السوري ضمن مخطط طويل المدى لإسقاطه، وهذا ما حصل. يمكن القول دونما تردد، أن الثالوث المعادي (تركيا وامريكا وإسرائيل)، وعبر مجموعاتهم وعصاباتهم، نجحوا في حُسن استغلال النقمة الشعبية المشروعة فالتقطوا اللحظة المناسبة ونجحوا. مرة أخرى الطغاة شرط الغزاة.
ومن تعقيدات المشهد أن سقوط النظام لم يكن بفعل العوامل الداخلية فقط، بل وبدعم وتسليح وتدريب وتوجيه تركي أمريكي إسرائيلي. يكفي ملاحظة ان أردوغان كان ينطق باسم العصابات التكفيرية عندما يتحدث عن التقدم باتجاه حمص ودمشق، وكأنه في غرفة عملياتهم العسكرية، ويكفي تذكر تهديد نتنياهو للأسد قبل 3 أيام من الهجوم على حلب، بأنه سيدفع ثمن دعمه للمقاومة اللبنانية وحزب الله. كثرٌ الذين يعتبرون أنهم وراء إسقاط النظام، اردوغان ونتياهو وبايدن، والأخير يتفاخر في تصريحاته بذلك. هذا يؤكد أننا وإذا كنا أمام تغيير داخلي ضد النظام، لكننا ايضا أمام غزو خارجي من الأطراف الثلاثة. المنتشون بسكرة الفرح لا يريدون رؤية ذلك حتى الحظة.
وايضاً ينبغي الإشارة أن التغيير لا يطال النظام بل الدولة كدولة. وهذا الأخطر، إذ يمكن أن يفتح الطريق لتقسيم الوطن السوري نهائياً، وعلى الأقل لأربعة كانتونات: شرق الفرات للاكراد (وطبعا هذا لا يعجب الأتراك)، حوران للدروز، ساحل اللاذقية للعلويين، ودمشق للسنة، وهذا سيناريو أكثر تعقيداً حتى من السيناريو الليبي والعراقي (لا يعتقدنّ أحد أن العراق لم ينقسم شماله الكردي عن جنوبه ووسطه)، لأن الشعب السوري يحوي على كم كبير من الاثنيات والأعراق والأديان والطوائف، والتي لا يمكن أن يجمعها إلا دولة علمانية ديموقراطية يصعب تصور أن الجولاني، الذي تحول سريعاً بقرار من ال CNN ليصبح أحمد الشرع، يمكن أن يكون، هو وعشرات المجموعات التكفيرية من كل الأجناس، رأس حربة هكذا مشروع إنقاذي للوطن والدولة.
اما الأكثر خطورة، إن جاز التعبير، فهو انطلاق المشروع الإسرائيلي لفرض تصوره حول (شرق أوسط جديد) على سوريا، مستنداً لزخم سقوط النظام، وتواطؤ (المنتصرين) الذين يعتبرون النظام المنهار وإيران عدوهم الأول، لاعتبارات طائفية خيانية صريحة، لا دولة الإبادة والمشروع الأمريكي للهيمنة في المنطقة. شرق أوسط يدمج دولة الإبادة في المحيط العربي، لا مجرد التطبيع معها، ويقضي نهائياً على القضية الوطنية ومشروع المقاومة. أما الهجوم الإسرائيلي العسكري الحالي، فيتجاوز الهدف الآني بقطع أية إمكانية لإعادة بناء حزب الله لقوته العسكرية عبر تدمير المخازن والممرات ومعامل التصنيع التي تخدم الحزب في سوريا، ليصل للهدف الاستراتيجي بتدمير كامل قدرات الجيش السوري ضمن تصور/ هدف/ حلم صهيوني قديم بتدمير الجيوش الثلاثة، المصرية والسورية والعراقية. أما أن يحاجج أحدهم انطلاقاً من توتر اللحظة وهشاشة الانتماء الوطني والقومي فلا يرى أهمية للتدمير الذي تم فعلاً خلال اليومين الماضيين لكل مقدرات الجيش، فهذا موقف لا يفهم ببساطة طبيعة الموقف الصهيوني. الصهاينة يفترضون أن وجود الجيش يمكن في يوم ما، في لحظة ما، في ظرف ما، يتوفر فيه طرف جدّي يمتلك إرادة القتال، أن يستخدمه ضدها، وبالتالي يجب تدميره، ناهيك عن ان الجيش ومقدراته ليست ملكية (آل الأسد) مثل الصحون والملاعق والأكواب التي نهبها (ثوار الفتح) من القصر الرئاسي، بل هي مقدرات الشعب السوري أولا وقبل كل شيء. أن لا يقاتل النظام منذ العام 74 (قاتل جنوده في بيروت في العام 82 بالمناسبة)، ضمن التصور البائس (التوازن الاستراتيجي) الذي دحرته كل حركات التحرر في العالم، لا يعني انه لم يقاتل عبر الدعم الكبير للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية. جاهل وجاحد مَنْ ينكر ذلك، إن لم يكن معادياً للمقاومة.
وبعد،
كل الاحتمالات مفتوحة، احتمال أن يتمكن الشعب السوري بقواه الحية، الوطنية والديموقراطية، من ان يخرج من سكرة الفرح، ليضع مهام بناء دولة مدنية ديموقراطية علمانية على طاولة العمل، دولة تتعايش فيها كل المكونات الدينية والطائفية والإثنية والعرقية دون تمييز، دولة تؤكد انتماء سوريا للقومية العربية ومشروعها التاريخي كما تربى الشعب الفلسطيني، دولة تضع فلسطين فعلاً وقولاً على جدول دعمها وإسنادها.
واحتمال ان ينجح المشروع الصهيوني لتقسيم سوريا، وبالحد الأدنى بناء دولة تبني علاقات حُسن جوار مع دولة الإبادة، على طريق أن تصبح جزءا من المشروع الإبراهيمي التطبيعي، الذي تنخرط فيه ذات الدول التي دعمت دائما تلك المجموعات والعصابات، وحينها سنكون أمام تفكك محور المقاومة بصورة نهائية، ذلك التفكك الذي بدأت معالمه بالظهور بعد الاتفاق في لبنان وسقوط النظام، وما يبدو انسحاباً إيرانياً، بل وهزيمةً، من المنطقة.
حتى اللحظة وبمجريات الأحداث اليومية لا تباشير للاحتمال الأول، وعليه يتوجب على كل القابضين على جمر مناهضة المشروع الامبريالي الصهيوني، ان يعيدوا ترتيب أوراقهم وحسابتهم للاستمرار في معركتهم، في ظروف مستجدة وغاية في الصعوبة، ضد هذا المشروع، وأدواته في المنطقة، تحت الشعار الذي لم يزكِّ التاريخ غيره: المقاومة جدوى مستمرة
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
عندما يتحمل الفلسطيني المستحيل
حديث القدس
المشهد الراهن والمصير الوطني
جمال زقوت
الخيار العسكري الإسرائيلي القادم
راسم عبيدات
ترامب في خدمة القضية الفلسطينية!!
د. إبراهيم نعيرات
ما المنتظر من لقاء نتنياهو وترامب؟
هاني المصري
زكريا الزبيدي تحت التهديد... قدّ من جبال فلسطين
حمدي فراج
هل وصلت الرسالة إلى حماس؟
حمادة فراعنة
مجدداً.. طمون تحت الحصار
مصطفى بشارات
بين الابتكار وحكمة التوظيف .. الذكاء الاصطناعي يعمق المفارقات !
د. طلال شهوان - رئيس جامعة بيرزيت
الطريق إلى شرق أوسط متحول: كيف نحافظ على السلام في غزة مع مواجهة إيران
ترجمة بواسطة القدس دوت كوم
عيد الربيع يصبح تراثاً ثقافياً غير مادي للإنسانية
جنيباليا.. مأساة القرن
حديث القدس
لقاء نتنياهو- ترمب ومصير مقترح التطهير العرقي ووقف الإبادة
أحمد عيسى
"الأمريكي القبيح" واستعمار المريخ
د. أحمد رفيق عوض
رافعة لفلسطين ودعماً لمصر والأردن
حمادة فراعنة
"ترمب" والتهجير الخبيث!
بكر أبو بكر
تحويل الضفة إلى غيتوهات
بهاء رحال
من أين جاؤوا بنظرية "الضعيف إذا لم يُهزم فهو منتصر" ؟
د. رمزي عودة
محمد الطوس "أبو شادي" يبعث من جديد بعد أربعين سنة
وليد الهودلي
الذكاء الاصطناعي في التعليم.. قفزة نحو المستقبل أم تحدٍّ أخلاقي يلوح في الأفق؟
سارة الشماس
الأكثر تعليقاً
من أين جاؤوا بنظرية "الضعيف إذا لم يُهزم فهو منتصر" ؟
الترامبيّة المُتحوّرة!
استراتجية أم تكتيك؟ تصريحات أبو مرزوق تلقي حجراً في المياه المتدفقة
الرئيس يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لوقف العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية
الاحتلال يفرج عن الدفعة الرابعة من المعتقلين ضمن اتفاق وقف إطلاق النار
21 اقتحامًا للأقصى ومنع رفع الأذان 47 وقتاً في الإبراهيمي الشهر الماضي
اللواء ناصر البوريني يستقبل سفير المملكة الأردنية الهاشمية في فلسطين
الأكثر قراءة
إعلام عبري: نتنياهو يناقش خطط عودة الجيش الإسرائيلي إلى غزة
الشرطة الإسرائيلية تعتقل 432 عاملا فلسطينيا داخل أراضي 1948
ترامب: لا ضمانات لدي أن الهدنة بين إسرائيل وحماس ستصمد
مستعمرون يقتحمون مبنى "الأونروا" في حي الشيخ جراح
ترامب يبحث الثلاثاء مع نتنياهو سيناريوهات التهجير لغزة واحتمال العودة للحرب
مارتن أولينر يدعو إلى دعم خطة ترامب للتهجير.. "سكان غزة لا يستحقون الرحمة"
استراتجية أم تكتيك؟ تصريحات أبو مرزوق تلقي حجراً في المياه المتدفقة
أسعار العملات
الثّلاثاء 28 يناير 2025 12:16 مساءً
دولار / شيكل
بيع 3.61
شراء 3.6
دينار / شيكل
بيع 5.09
شراء 5.08
يورو / شيكل
بيع 3.77
شراء 3.76
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%55
%45
(مجموع المصوتين 554)
شارك برأيك
لن تطول سكرة الفرح في سوريا