تركت حرب الإبادة على غزة بصمة واضحة وعميقة على الواقع السياسي الفلسطيني، وكشفت عن تغيرات استراتيجية مهمة، ربما لا نلاحظها حالياً، لكن من المؤكد أنها ستعيد تشكيل المشهد السياسي الفلسطيني على المدى الطويل.
أولاً، كشفت الحرب عن هشاشة الوضع الداخلي الفلسطيني بفعل استمرار الانقسام، وأظهرت أن ترديد ذات الأسطوانة، من وكيف ومتى، بات مملاً بعد ثمانية عشر عاماً، ولا يعود بالنفع على أحد، وبرز بوضوح أن استمرار الانقسام الفلسطيني يضعف قدرة الفلسطيني على المواجهة بكل الأشكال، ويزيد من معاناته على كافة الصُعُد، وتصاعدت الأصوات المطالبة بإنجاز المصالحة الوطنية، في محاولة لزيادة الضغط على الأطراف كافة للتحرك نحو توحيد الجهد السياسي والميداني بشكل حقيقي يليق بشلال الدم المتدفق، ولكن حتى الآن لا يبدو أن ذلك يؤتي اُكُلَه.
ثانياً، وضعت الحرب السلطة الفلسطينية أمام اختبار عسير، أظهر بوضوح محدودية نهجها السياسي، والذي أثبت "فشله" في ردع العدوان، أو الحد من تغوله وبطشه، أو توفير حماية فعّالة للفلسطينيين عامة، وفي الضفة الغربية على وجه الخصوص، هذا إذا ما أقررنا – جدلاً- بأن غزة ذات وضع مختلف، وأنها غائبة عنها لقرابة عقدين، ونتيجة لذلك، ازدادت الأصوات الناقدة والناقمة أيضاً، داخلياً وخارجياً، المطالبة بإعادة النظر بهذا النهج، أو بجدوى اتفاقيات لم يبق منها ما يخدم مصالح الفلسطينيين العليا.
ثالثاً، أظهرت الحرب قوة وتأثير فعل المقاومة، وعززت من مكانتها الشعبية، رغم الملاحظات على تجربة أكتوبر، ولكن دون تبرئة الاحتلال بوصفه المسؤول الأول المباشر، فضلاً عن تواطؤ المحيطين، القريب والبعيد، هذه التطورات ستؤدي إلى تغيرات ملحوظة في ميزان القوى الفلسطيني الداخلي، وربما تفتح المجال أمام قيادات شابة جديدة أكثر انسجاما مع نبض الشارع الفلسطيني، وتدعو إلى نهج أكثر تصادماً مع الاحتلال، حتى لو كان ذلك بـ"حدة" أقل، ولكن لربما بوسائل أكثر تطوراً وإيلاماً، وترفض الواقع الحالي بمجمله.
رابعاً، أدت الحرب إلى إعادة الاعتبار للدور المهم والحيوي للفلسطينيين في كل مكان، في الداخل المحتل وفي الشتات، الذين تم تغييب أصواتهم لعقود، وما هذا الضغط والتقييد إلا إقراراً ضمنياً بأهميته، ما يعني إعادة تعريف قواعد المواجهة، ويفرض ضرورة تطوير استراتيجيات سياسية وتنظيمية تستوعب وتوظف هذه الطاقات بشكل فاعل الآن ومستقبلًا.
خامسا، أكدت الحرب مراراً وتكراراً على أهمية الصورة والإعلام في المعركة، حيث شكلت الصورة والمقاطع المصورة من أرض الواقع عاملاً أساسياً في إيصال حجم المعاناة الفلسطينية للعالم، ومواجهة الرواية الإسرائيلية، وأصبح واضحاً أن المعركة الإعلامية لا تقل أهمية عن المعارك الأخرى، ما يستوجب تطوير استراتيجيات إعلامية فعالة ومهنية.
سادساً، على المستوى الدولي، سلطت الحرب الضوء على تقصير الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية وعجزها عن استثمار التعاطف الدولي الواسع مع الشعب الفلسطيني، وذلك بفعل الانقسام الفلسطيني، ما جعل الدبلوماسية الفلسطينية تبدو وكأنها "تطير" بجناح واحد، وتمثل وجهة نظر واحدة لا يُجمِع الفلسطينيون عليها، ما يستوجب تطوير استراتيجية فلسطينية شاملة لتفعيل الدبلوماسية الشعبية، فضلاً عن ملاحقة جرائم الاحتلال وفضحها.
سابعاً، كشفت الحرب أيضاً أن التعويل الفلسطيني على المؤسسات الدولية كان وهماً كبيراً، حيث تبين بوضوح كيف تم استغلالها وتسخيرها لخدمة الاحتلال والتستر على مجازره وجرائمه، وأن إجراءاتها "الداعمة" للفلسطينيين على ندرتها، لم تكن ذات قيمة فعلية على الأرض، حالياً على الأقل، وقد رأينا كيف تم استهداف طواقمها ومقراتها ومركباتها التي تحمل شاراتها، ما يتطلب إعادة تقييم حقيقية لآليات التعاون معها، والإقرار بأنها بفعل "الضغوط" التي مورست لشراء صمتها، سواء كانت حقيقية أو وهمية، تلك التي لا يمكن تبريرها بحال من الأحوال، جعلت من هذه المؤسسات جزء من "التيار".
ثامناً، أبرزت الحرب الدور المتغير والمربك للقوى الإقليمية، وكشفت عن محدودية التعويل على مواقفها أو دعمها بشكل فعلي، حيث تراوحت المواقف الإقليمية بين التضامن اللفظي والتردد والتواطؤ الضمني مع ما يجري، ما يفرض على الفلسطينيين مراجعة جادة لطبيعة علاقتهم بهذه القوى، والتعويل بشكل أساسي على الذات في تحديد خياراتهم السياسية القادمة، مع محاولة استثمار أي دعم حقيقي، ولكن بذكاء وحذر، بعيداً عن أي رهانات أو أوهام قد تكون مضللة.
تاسعاً، أظهرت الحرب الأخيرة وبوضوح أن حديث الاحتلال عن السلام والتسوية السياسية ما كان يوماً إلا وهما، ووسيلة لكسب الوقت، وجسراً للعبور إلى المحيط العربي والدولي، وأداة لتكريس الاحتلال وفرض الحقائق على الأرض، وقد كشفت الهجمة وتحديداً على القدس والضفة الغربية ذلك بوضوح، وأنه ليس جاداً في هذا النهج على الإطلاق، وأن هدفه الحقيقي هو السيطرة التامة على الأرض الفلسطينية، وتكريس واقع استيطاني "مرعب"، يجعل منها "جحيماً" لا يطاق، وبيئة "طاردة"، على طريق تفريغها تماماً من الفلسطينيين.
ختاماً، يمكن القول إن الحرب المجزرة، والإبادة المروعة في غزة، والهجمة على القدس والضفة، ليست مجرد حلقة أخرى من حلقات المواجهة، بل هي نقطة تحول حقيقية، تفرض تغييرات جذرية على السياسة الفلسطينية، غير أن الاستجابة الإيجابية والفعالة لهذه التحديات، تتطلب إرادة سياسية واضحة، وتغييراً جذرياً في النهج الحالي، وحتى طريقة التفكير، وهذا ليس حكراً على طرف واحد، بل من جميع الفاعلين على الساحة الفلسطينية.
..................
الحرب المجزرة، والإبادة المروعة في غزة، والهجمة على القدس والضفة، ليست مجرد حلقة أخرى من حلقات المواجهة، بل هي نقطة تحول حقيقية، تفرض تغييرات جذرية على السياسة الفلسطينية.
شارك برأيك
هل ستغير "حرب غزة" وجه السياسة الفلسطينية؟