عندما فشلنا في بناء الإنسان و"تحصينه" وطنياً ومجتمعياً وصلنا إلى ما وصلنا إليه من كوارث وهزائم وخروج من التاريخ والجغرافيا، وعندما نجح الغرب وأمريكا في ان يصنعوا لنا ديناً يناسبنا، وفق ما قاله "ثعلب" السياسة الأمريكية كيسنجر، ووظفوا الأنظمة الرسمية العربية التابعة لتحقيق هدفهم هذا، تلك الأنظمة التي رأت بأن الهدف الرئيسي لها حماية أنظمتها واستمرار السيطرة على شعوبها وتجويعها وإفقارها، حتى لا تفكر في الثورة عليها.
نعم نجحت أمريكا والغرب في حرف الصراع عن قواعده وأسسه، واستطاعوا ان ينقلوا المقتلة السنية - الشيعية من قبل 1400 عام ، من الجانب الرسمي العربي والإسلامي الى الجانب الشعبي، عدا عن استدخال ثقافة الهزيمة واليأس عند الجماهير، استدخلت قضية المذهبية السنية - الشيعية، حتى بات العدو حليفاً ومن يدين بنفس الدين عدواً، وأشد خطراً على ما يعرف بالعالم السني العربي من إسرائيل، وضخت المليارات على ما عرف بالمرجعيات الدينية ودور الإفتاء ورجال الدين، وكذلك على كتاب ومثقفين وإعلاميين وسياسيين، من أجل أن يشوهوا معاني ومضامين الجهاد في الإسلام، حيث بات الجهاد وفتاوى السلاطين ومشايخ الدولار في خدمة امريكا ومشاريعها واهدافها، حركوا ما يعرف بالمجاهدين العرب او العرب الأفغان، للقتال في أفغانستان، من أجل محاربة الإلحاد والشيوعية التي كان يقودها الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كان موجوداً في أفغانستان، ومن بعد ذلك "صنعوا" عبر مختبراتهم ما يعرف بـ"داعش" وحركوها نحو العراق وسوريا، من أجل تدمير المجتمعات العربية وتفكيك جيوشها والقضاء على مؤسساتها المركزية، وكانت العشرية السوداء التي تعرضت لها سوريا من 2011- 2021، والتي أثمرت مؤخراً عن تدمير الدولة السورية وإسقاطها، لكي يحل محلها نظام يرتكز إلى أيدولوجية دينية متطرفة، ويمسك بخيوط الحكم والسلطة في ظل هيمنة وسيطرة ومناطق نفوذ لأكثر من دولة وطرف تحتل الأرض السورية، وتهيمن وتسيطر على خيراتها وثرواتها.
نعم، وفق ما يعرف بمشروع "الفوضى الخلاقة" الأمريكي، نجحوا في إعادة تقسيم الأمة العربية وتفكيك جغرافيتها على خطوط المذهبية والطائفية والإثنية والعرقية، وتمدد المشروع الأمريكي شيئاً فشيئاً ، نحو تحويل ليبيا إلى دولة فاشلة وتقسيم السودان وصوملته، وسعي قادته المقتتلين على السلطة، من أجل الالتحاق بركب التطبيع مع إسرائيل، حيث أرسل قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، مبعوثه السابق الصادق إسماعيل قبل أقل من أسبوعين في زيارة سرية لإٍسرائيل، لنيل رضاها حتى يعبدوا له الطريق نحو أمريكا.
المخطط ماض ومستمر، والخلافات والأزمات العربية تتعمق، وقيادات عربية رسمية وصلت إلى مرحلة ليس فقط التذيل والتبعية لأمريكا، بل تجردت من إرادتها وقرارها السياسي حتى في قضاياها الداخلية، وبات كل من يقول بنهج وفكر وثقافة المقاومة، يريد التخريب والتآمر على ما يعرف بالأمن القطري، وليس بالأمن القومي العربي، فهذه كذبة كبرى، حيث لم يعد هناك مشروع قومي عربي، وإن بقيت أحزاب قومية عربية تمسك بهذا الخيار، فهي بقيت في الإطار النخبوي البعيد عن الجماهير، فهي لم تستطع أن تترجم ذلك في أرض الواقع.
الفشل الوطني في عملية "التحصين" استتبعه فشل في "التحصين" المجتمعي، حيث لم ننجح في بناء الدولة الوطنية، دولة مؤسسات المجتمع المدني، التي تشكل حصانة وحماية لكل أبناء المجتمع وأن يكون الجميع متساوين أمام القانون، فما زالت "سهام" العشائرية والقبلية والعشائرية "تنغرس في الجسد العربي، تلك العشائرية والقبلية التي جعلت من الانتماء للقبيلة والحمولة متقدماً على الانتماء الوطني.
وغالباً ما نجد أن الكثير من الخلافات الشخصية والفردية، يجري تضخيمها وتحويلها إلى حروب قبلية وعشائرية مدمرة، تخلق ندوباً وثارات عميقة في المجتمع يصعب دملها.
والمأساة في المبنى العشائري والقبلي، أنه تسلل إلى داخله، من يقولون أنهم رجال إصلاح وحماية للسلم الأهلي والمجتمعي، ونجد بأن مثل جزء من الأزمة وليس الحل، فهم يؤججون الخلافات ويسعرونها، ويقلبون الحق باطلاً والباطل حقاً، خدمة لمصالح وغايات شخصية وفردية، وفي أحيان كثيرة يكون لها علاقة بالابتزاز المالي، وهذا يدفع بالاطراف الضعيفة التي لا تجد من يسندها، أو ينتصر لمظلوميتها، أن تلجأ إلى خيارات إما غير وطنية، أو طلب الحماية من عشائر وعائلات كبرى ونافذة، أو تضطر لمغادرة الوطن ، الذي لا يوفر لها الأمن والأمان والعيش بكرامة، وهذا ما نشهد كشعب فلسطيني واقع تحت الاحتلال، حيث الاحتلال، يغذي تلك الخلافات ويسعرها، لكي يبقى مجتمعنا بعيداً عن قضاياه الوطنية، ويبقى منشغلاً في قضاياه الداخلية، والبحث عن الحل والخلاص الفردي.
علينا كعرب أن نعترف بأننا نعاني من أزمات عميقة سياسية واقتصادية ومجتمعية، ونشهد حالة غير مسبوقة من انهيار منظومة القيم والأخلاق، فطقوسنا وعباداتنا، لا تنعكس في حياتنا اليومية ولا في سلوكنا ولا في أخلاقنا، بحيث أضحت تلك العبادات عادة مجتمعية، وكشكل من أشكال "البرستيج" والمركز الإجتماعي والحضور المجتمعي.
واضح أنه بدون أن يكون هناك عمل جدي، تشارك فيه القوى والمؤسسات المجتمعية والتربوية والدينية والقوى والأحزاب والسلطات بأجهزتها المختلفة، في بناء إنسان متسلح بالوعي والكرامة والانتماء والاعتزار بوطنيته وقوميته، فإننا "سنغرق" في التيه والجهل والتخلف، والمزيد من الانقسامات والخلافات، التي من شأنها أن تجعل مجتمعاتنا، لقمة سائغة، لك من يبحثون عن دور ومكانة في ملعبنا الفلسطيني .
بناء الإنسان "وتحصينه" وطنياً ومجتمعياً يجب أن يكون قضية محورية في قضايا التوعية والتثقيف، التي يجب أن يكون لها مؤسسات وحواضن قادرة على أن تقوم بدورها في عملية البناء و"التحصين"، بعيداً عن العوائق ووضع العصي في الدواليب.
فبدلاً من ضخ الأموال على مؤسسات وبرامج وفضائيات، تكرس المذهبية والطائفية في مجتمعاتنا، علينا أن نضخ تلك الأموال إلى مؤسسات همها البناء والنهوض بالإنسان العربي، لكي لا يبقى أسير الجهل والتخلف والعيش في "جلابيب" الماضي، والتاريخ لا يخضع للهندسة الإجتماعية، بل هو يسير إلى الأمام بطريقة لولبية ولا يسير وفق "هندستهم" الاجتماعية".
شارك برأيك
نعم فشلنا في بناء الإنسان العربي وتحصينه وطنياً ومجتمعياً