برحيل الباحث المؤرخ فاضل الربيعي، تُطوى مرحلة من الجدل الشائك في جغرافية الأديان، بعد أن واجه الربيعي مجموعة كبيرة من الأكاذيب، التي ارتدت أثواب الحقائق لعدة قرون، وأخذ يفككها واحدة تلو الأخرى، وسيتردد صدى هذا التفكيك لحقب زمنية طويله مقبلة.
لقد خاض الربيعي في تاريخ توراة اليهود، منبشاً عن "الحقائق التوراتية" من داخل النص نفسه، وعقد جلسات عديدة من المحاكمات الفكرية والسياسية "لليقينيات" التي زورها المستشرقون التوراتيون، من خلال تناوله لــ"جغرافية التوراة" وتاريخ فلسطين واليمن.
وعند قراءة أعمال الربيعي، والاستماع لمقابلاته المتلفزة، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، نلاحظ أنه توفرت في جعبته ترسانة كبيرة من الأدلة من لقى أثرية ومقارنات لغوية، ومقارنة في ما تشابه من أسماء المواقع الجغرافية في التوراة والجغرافيا، التي تؤكد أن مسرح التوراة كان في اليمن، وتاركا لنا إرثاً فكرياً كبيراً، إلا أن هذا الإرث للأسف لم يجد بعد مكانته الحقيقية في وعي الأمة العربية لتسرب الإسرائيليات في بعض سرديات التراث الفقهي الإسلامي .
وحقيقة يجب أن تقال إن الربيعي رحمه الله كان يتمتع بجرأة فكرية، وبروح من التحدي للسرديات "المقدسة"، تندرج في إطار معركة العقل العربي المعاصر ضد قوى الاستعمار والجمود والتخلف التي تحاصره.. إن الربيعي لم يكن مجرد باحث يكتب في مكاتب فارهة، وليس أكاديمياً ينمق حديثه بمصطلحات من اللغات الأجنبية، بل كان صوتاً مدوياً في زمن يسود فيه الصمت، وقلماً أكثر حدة من السيف، في زمن تقطيع أوصال محاولات التفكير الحر.
لقد حمل المرحوم الربيعي في جعبته رؤى سياسية ومقاربات فكرية مختلفة، تتعدى تناول الأحداث اليومية في الساحة العربية والتعليق عليها، إلى الغوص في أعماق التاريخ، كاشفاً العلاقة بين الأساطير القديمة والصراعات الحديثة، فالرجل لم يتحدث كمثقف منقطع عن الواقع، بل كان يقدم قراءة سياسية عميقة، بالتعبير عن قناعته بأن النصوص التوراتية هي نصوص بشرية تخضع للمساءلة بمنهج علمي، وليست كلاماً مقدساً من الكفر اإضاعه للنقاش.
وفي كتبه ومقالاته ومقابلاته طرح الربيعي رحمه الله، أسئلة تحدت السرديات التي طالما اعتبرها الاستعمار والمستشرقون التوراتيون "ثوابت" لا تُمَس، ومنها مثلاً: هل القدس التي نعرفها اليوم هي ذاتها أورشليم التوراتية؟ وهل الأدلة الأثرية التي تحدثت بعد إخراجها من باطن الأرض تؤيد الرواية الدينية التي روجتها وتروجها الصهيونية وقوى الاستعمار التي تستند عليها؟ وما علاقة الديانة اليهودية بالأساطير في الشرق القديم ولا سيما في حضارات بلاد ما بين النهرين؟ والكثير الكثير من الأسئلة التي بمثابة قنابل فكرية، زعزعت ولا تزال تزعزع أساسات الخطاب الرسمي الديني والسياسي الصهيوني والاستعماري .
لكن جهود الربيعي وباحثين عرب آخرين في ذات المجال لم تحظ برعاية أي نظام عربي رسمي أو حتى من قبل المؤسسات الأكاديمة من جامعات ومراكز أبحاث استراتيجية، بخلاف المستشرقين التوراتيين الذين حصلوا ويحصلون على الدعم بكافة أشكاله من الصهيونية والقوى الاستعمارية!
رحم الله فاضل الربيعي .. يفنى الجسد ويبقى الأثر..
.........
كان فاضل الربيعي رحمه الله كان يتمتع بجرأة فكرية، وبروح من التحدي للسرديات "المقدسة"، تندرج في إطار معركة العقل العربي المعاصر ضد قوى الاستعمار والجمود والتخلف التي تحاصره.
شارك برأيك
فاضل الربيعي وتفكيك السردية التوراتية