من المعروف أن حضارة الشعوب تقوم على منسوب وعيها وثقافتها، والمطبخ ركنٌ أساسيّ من أركان الثقافة، وثيمةٌتحافظ عليها الأجيال وتتناقلها عبر العصور والأزمنة. ومن المعروف أيضاً أن المطبخ الفلسطيني غنيّ بتنوعه وبعديد الأطباق والأكلات التي تميَّز بها، وهو عامرٌ بالأصناف الشهية المتعددة، ومن تلك الأكلات الشهيرة "المفتول".
إنها طبخة الجدات والأمهات، وطعامهن الذي حرصن على أن يصنعنه بحب، فتكبَّدن الشقاء والتعب في عمر النكبة والمشقة، وحافظن عليها بموفور المحبة ما استطعنا إليها سبيلاً. ولأنهن بنات كنعان، بأصالة حضورهن، اتخذن هذا الدور الذي لا يوازيه دور، فصنعن الطعام من دون شكوى، واخترن الإبداع بما هو صعبٌ، ومحالٌ على الأخريات صنعه، في تمايز الأقدار والصفات، إلا إذا امتلأن بالحب.
الحب سمة المطبخ الفلسطيني الكنعاني، وفي حضوره مهابةٌ لا تضاهى لوفرة أصنافه ولذتها، فمن قمح البلاد صنعن المفتول، وفي تجاعيد أيديهن عمرُ الشقاء وسنينُ التعب وصبرُ المريمية الملحميّ. وفتلُ المفتول من أعظم مظاهر ذلك؛ فهو معيار قوة الحب ومقياس صدق العاطفة، إذ ترافق قسمات وجوههن ضحكةٌ غامرة، مفعمةٌ بالدفء، وفيضُ العاطفة المتدفق من الأعماق، لتعلن بذاتها عن ذاتها، سيدة نفسها، ووصية حدسها.
هكذا ارتسمت بوجه الحاجة أم نزار وهي تقول: "بالصحة والعافية".
نأكل بشراهةٍ للذة الطعام المعدّ بقدر عالٍ من الحب، ونتلمس كم الأوجاع التي يمكن أن تصيبها جراء الوقت الذي استغرقته في إعداد هذه الأكلة، التي يلزمها مجهودٌ بدني وعضلي وعقلي، كما يلزمها سخاءٌ في العاطفة والحب. فأطيب الطعام هو الطعام الذي يصنع بحب.
أعرف، عزيزي القارئ، أنك تتبع المقال لتعرف أسرار المفتول، ولست هنا لأقول لك ذلك، بل لأعبر عن امتناني الشديد ليدٍ وددت تقبيلها، صنعت الطعام بكل حب. فما بالك عزيزي القارئ إذا كنت من الذين لا يحبون البصل؟! وهذا يعني مجهوداً إضافياً لصنع مفتولٍ على طريقةٍ منفصلة، في وعاءٍ منفصل، فيكون الأمر زيادة في الشقاءوالتعب، وفي ذات الوقت زيادة في الحب المتبادل.
رأيتُ في يدين أمك يا نزار ألف دهشة وهي ترسم تعاليم البلاد ورائحتها، وأصغيتُ لموسيقى شهية المقام في حسّها وذوقها وتقاسيمها، وهي تصنع المفتول بإيقاعٍ هادئ يطرب له كل ناظر.
يقول محمود درويش:
" ليدين من حَجرٍ وزعتر، هذا النشيدُ..
مضت الغيومُ وشردَّتني، ورمتْ معاطفَها الجبالُ، وخبأتني"
وأقول: ليدين تحفظ في قسماتها خارطةَ البلاد وتعجن الصبح قمحاً وزعتر، هذا النشيدُ..
هكذا ظلت بلادنا عصية على كل استعمار جاءها، وهكذا ستبقى تحافظ على أسرار بقائنا فيها، فنحن الذين عُجّنا من ترابها، ومن قمحها، فبدت ملامحنا من حنطة البلاد وبشرتنا من لونها.
شارك برأيك
المفتول الفلسطيني من يد الحاجة أم نزار العيسة