أقلام وأراء
الثّلاثاء 07 يناير 2025 10:19 صباحًا - بتوقيت القدس
تواطؤ أم غسيل دماغ؟ لماذا نسكت عن المظالم؟
في عالم يمتلئ بالمظلوميات، كثيرًا ما نجد أنفسنا نشاهد ما يحدث، دون أن نحرك ساكنًا، أو في بعض الحالات نبرر ظلمًا فادحًا، دفاعًا عن الظالمين. من فلسطين النازفة إلى ضحايا الاضطهاد في بقاع أخرى من الأرض، يظل السؤال ملحًا: هل السكوت عن المظالم تواطؤ متعمد، أم هو نتيجة لغسيل دماغ منهجي يجعل الظلم مقبولًا بل ومبررًا؟
غسيل الدماغ: إعادة تشكيل الوعي
غسيل الدماغ ليس مجرد فكرة عابرة في علم النفس، بل هو عملية ممنهجة تهدف إلى إعادة تشكيل وعي الأفراد، بحيث تتماشى قناعاتهم مع مصالح قوى معينة. بدأ هذا المصطلح يظهر لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي على يد عالم النفس إدوارد هانتر، حين رصد الأساليب التي تستخدمها الأنظمة القمعية لفرض هيمنتها على العقول. العملية ليست سطحية؛ بل تتضمن خطوات عدة تبدأ بالعزل الفكري، حيث يُمنع الأفراد من الوصول إلى معلومات حرة ومستقلة، وتعزز بذلك وجهه نظر واحده فقط.
ثم يأتي القمع الفكري ومنع التفكير النقدي، حيث يتم نشر خطاب مكرر يُصور الخضوع كفضيلة. وعبر تكرار الرسائل الدعائية وتكرار الأكاذيب حتى تصبح "حقائق" لا تقبل النقاش، ويتحول الضحية الخافت صوتها إلى شريك غير مباشر في قمع نفسه.
السكوت أمام الظلم ليس مجرد غياب عن التعبير؛ إنه يمثل حالة نفسية معقدة تتداخل فيها مشاعر الخوف، الإنكار، والتكيف مع الواقع المؤلم. التشويه الإدراكي هو أحد أبرز الظواهر النفسية التي تحدث عندما يُبرر الأفراد أفعال الظالمين. هنا، يصبح الظالم حاميًا للأمن، بينما تُلام الضحية على معاناتها.
عندما يستمر الظلم لفترات طويلة، يبدأ الإنسان في الانغماس في آليات دفاعية مثل الإنكار أو تطبيع الواقع المؤلم. يبدأ الشخص في قبول الوضع القائم كأمر لا مفر منه. الخوف الجماعي أيضًا يلعب دورًا حاسمًا، حيث تزداد المخاوف من التعبير عن المعارضة، وتستمر الدائرة المفرغة من الصمت والخضوع.
أما الاستلاب النفسي، فيتمثل في الشعور بالعجز أمام سلطة قاهرة، ما يؤدي إلى فقدان القدرة على المقاومة، ويصبح الانصياع الخيار الوحيد.
إذا نظرنا إلى التاريخ، نجد العديد من الأمثلة التي توضح كيف استخدمت قوى استعمارية وغاشمة غسيل الدماغ لضمان استمرار ظلمها.
في العالم الجديد، تم استخدام الأساليب النفسية والدينية لتبرير العبودية، حيث كان يتم تضليل العبيد بأنهم أقل إنسانية وأن خضوعهم هو إرادة إلهية. عبر التلقين الديني وإجبارهم على التخلي عن ثقافاتهم وأسمائهم، تم بناء وعي مشوه حول العبودية للسيد الأبيض المسيحي وأهميتها وعلاقتها بالدين.
أما في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي، فقد سعت فرنسا إلى غرس الشعور بالدونية لدى الجزائريين عبر تغييرات جذرية في المناهج التعليمية التي صورت فرنسا كدولة متحضرة، بينما اعتُبر الجزائريون متخلفين وبدائيين. بالإضافة إلى ذلك، فرضت فرنسا قوانين مثل "الأنديجينا" التي حولت الجزائريين إلى رعايا من الدرجة الثانية.
وفي فلسطين، نجد أن الآلة الإعلامية العالمية استخدمت لغسيل الدماغ عبر تصوير الفلسطينيين كإرهابيين، وخلق مبررات للاحتلال الإسرائيلي تحت شعار الارض الموعودة والشعب المختار. هذه الدعاية تتسلل إلى الوعي الجمعي للعالم، فتجعل الكثيرين يتعاطفون مع الظالمين ويغفلون عن معاناة الضحايا.
من بين الأمثلة الأكثر فظاعه للسكوت العالمي عن المظالم، ما يحدث في غزه الآن. رغم أن المعلومات حول ما يحدث متوفرة ومتلفزة وموثقة لكل الحكومات الغربية، إلا أن معظم هذه الحكومات، بل وحتى العديد من المؤسسات العالمية، اختاروا السكوت أو تجاهل هذه الفظائع. على الرغم من أن لديهم معلومات دقيقة حول عمليات القتل الجماعي والتعذيب التي يتعرض لها أهل غزة، فإن رد فعل العالم بطيء ومحدود. لم تتحرك القوى العالمية بشكل سريع وفعال لوقفها، ما يظهر جانبًا مؤلمًا من التواطؤ العالمي والتجاهل المتعمد.
العالم بين السكوت والتواطؤ
إن السكوت عن المظلوميات في العالم غالبًا ما يكون ناتجًا عن غسيل دماغ مكثف وممنهج. يتم تبرير الظلم أحيانًا تحت شعارات كاذبة مثل "السلام" و"التنمية". وسائل الإعلام الموجهة، المناهج التعليمية المنحازة، والخطابات السياسية المزيفة تساهم بشكل كبير في بناء هذا التصور المشوه للواقع. ولكن التواطؤ ليس مجرد صمت؛ إنه موقف واعٍ يعكس الخوف من فقدان الامتيازات الشخصية أو المصلحة.
يلعب علماء السلاطين دورًا رئيسيًا في تعزيز الأنظمة القمعية عبر منح غطاء ديني أو أخلاقي للأفعال الظالمة. هؤلاء العلماء يعملون على غرس فكرة أن الخضوع للظلم هو قدر محتوم، وأن مقاومته هي عصيان لله. إنهم يساهمون في تكريس معاناة الناس عن طريق استغلال الدين لخدمة مصالح الأنظمة المستبدة.
لمحاربة هذه الظاهرة، يجب علينا أن نبدأ أولاً بفهم الأسباب التي تجعل الناس يصمتون. هل هو الجهل المطبق عن الحقيقة، أم تأثير التضليل الإعلامي؟ أم هو خوف من العقاب أو القمع؟ أم ببساطة هو قبول داخلي بأن التغيير مستحيل؟
لذلك، يجب أن نعمل على التعليم والتثقيف لتعزيز التفكير النقدي وكشف الحقائق. يجب أن نفكك هذه الأكاذيب التي يتم نشرها على مستوى عالمي. كما أنه من الضروري فضح التواطؤ الذي يحمي مصالح القوى الظالمة، مع تسليط الضوء على المصالح الخفية وراء المواقف الدولية التي تصمت عن الظلم. أخيرًا، يجب أن نعيد النظر في دور الدين، من خلال استعادة جوهره الذي ينادي بنصرة المظلومين، بدلاً من السماح باستخدامه كأداة لتبرير الظلم.
الصمت أمام الظلم ليس غيابًا عن التعبير فحسب؛ إنه حالة نفسية معقدة، حيث يتداخل الخوف مع الإنكار، والرضوخ مع فقدان الأمل. هذا الصمت يشوه الوعي البشري، ويدفع الشخص إلى أن يصبح جزءًا من آلة الظلم، بدلًا من أن يكون فاعلًا في صنع التغيير.
السكوت عن الظلم يعني اغترابًا عن الذات الإنسانية. إنه اختبار حقيقي للوعي: إما أن نكسر هذه الحلقة المفرغة من الخوف والجمود، أو أن نغرق في السلبية، ونصبح جزءًا من القوة القامعة التي تؤبد الظلم.
الصمت قد يوفر راحة مؤقتة، لكنه يصبح عبئًا يثقل الروح. أما المقاومة، فهي معركة النفس مع خوفها، ولكنها أيضًا أولى خطوات التحرر الحقيقي.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
ظروف مثالية نحو صفقة التبادل.. وماذا عن الضمانات؟
حديث القدس
الصفقة على الأبواب ما لم يخرّبها نتنياهو
هاني المصري
المقاومة أمر ما حتمي .. ودمشق تعطي للعروبة شكلها
حمدي فراج
ترامب وسموتريتش.. تقاطع أيديولوجي مسيحي أنجليكاني ويهودي تلمودي توراتي
راسم عبيدات
سوريا إلى أين؟
حمادة فراعنة
المغطس مكان عماد السيد المسيح يتوج بتدشين كنيسة كاثوليكية جديدة
كريستين حنا نصر
أسرى فلسطين في معسكرات الموت
حديث القدس
الفلسطينيون بين وعيد ترمب بالجحيم وسعي نتنياهو لـ"النصر المطلق"
اللواء المتقاعد أحمد عيسى
البدائل الوطنية الديمقراطية.. مفتاح التغيير الحقيقي بالمنطقة ولمواجهة الاحتلال
مروان اميل طوباسي
قد تتوقف الإبادة ولكن !
بهاء رحال
رحيل عيسى الشعيبي
حمادة فراعنة
أمريكا تؤسس لعالم جديد وعنيف
د. أحمد رفيق عوض
آفاقُ التربية: نحوَ سُمُوٍّ إنسانيٍّ مُلْهِمٍ
ثروت زيد الكيلاني
حلحلة الانسداد السياسي في لبنان و سوريا، مؤشر لشرق عربي مشرق
كريستين حنا نصر
بوادر اتفاق تلوح بالأفق!
حديث القدس
الدبلوماسية العامة والمؤثرون.. أداة قوة ناعمة
دلال صائب عريقات
هل تصل الفاشية الرأسمالية الغربية إلى الحكومات العربية؟
عبدالله جناحي
جابوتنسكي ونظرية الأمن الإسرائيلي
أسماء ناصر أبو عيّاش
هل كانت لداود مملكة في هذه البلاد؟!
تيسير خالد
منطق استعماري قديم
حمادة فراعنة
الأكثر تعليقاً
دروس "الطوفان" وارتداداته(2) السياسي يربك الثقافي
ارتفاع حصيلة قتلى حرائق لوس أنجلوس إلى 11 شخصا
غضب واسع من فشل احتواء حرائق لوس أنجليس
مقتل 5 عسكريين إسرائيليين بمعركة شمال غزة
أبو ردينة: القيادة سعت منذ اليوم الأول لبدء العدوان على قطاع غزة
الصفقة على الأبواب ما لم يخرّبها نتنياهو
كتيبة جنين والمقاومة في مخيم جنين توافق على مبادرة الوفاق الوطني
الأكثر قراءة
أوسلو تستضيف اجتماعا دوليا لدعم حل الدولتين
مفاوضات وقف إطلاق النار بغزة.. اتفاق يلوح في الأفق وهذه تفاصيله!
دروس "الطوفان" وارتداداته(2) السياسي يربك الثقافي
الاحتلال سيستخدم عوائد الضرائب الفلسطينية لسداد ديون شركة الكهرباء
أسر رهائن إسرائيليين في غزة يوجهون انتقادات حادة لوزير المالية
مصادر منخرطة في المفاوضات تكشف لـ"القدس" تفاصيل الاتفاق الذي سيعلن اليوم
ترمب و"تسوية الحدّ الأدنى" للقضية الفلسطينية: قراءة استشرافية (الحلقة الثالثة والأخيرة)
أسعار العملات
الأربعاء 08 يناير 2025 9:02 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.65
شراء 3.64
دينار / شيكل
بيع 5.15
شراء 5.13
يورو / شيكل
بيع 3.78
شراء 3.77
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%59
%41
(مجموع المصوتين 413)
شارك برأيك
تواطؤ أم غسيل دماغ؟ لماذا نسكت عن المظالم؟