واضح أن جولة المفاوضات الثانية التي حسم أمر مكانها في روما، وبوساطة عُمانية يوم السبت القادم، ستكون جولة تفاوضية شاقة وتحتمل الكثير من الفرضيات، خصوصاً أن واشنطن سوف تتمسّك بتحقيق مكاسب تزيد عن ما تضمنه اتفاق 2015 لتبرير خروج الرئيس دونالد ترامب من ذلك الاتفاق والقول إنه حقق اتفاقاً أفضل من الذي حققه الثنائي باراك أوباما وجو بايدن، بينما طهران التي تقول إن انسحاب الرئيس ترامب من الاتفاق سابقة تستدعي التحسب من احتمال التكرار معه أو مع رئيس آخر، وطهران لن تقبل بأن تواجه انسحاباً ثانيا،ً وقد قامت بتدمير منشآت نووية وأتلفت أجهزة طرد مركزي متطورة، وتخلّصت من مخزون من اليورانيوم المخصب.
ومن هذا المنطلق، يتابع المسؤولون في واشنطن وطهران تحضير ملفاتهم لجولة التفاوض الثانية، وتتزامن التصريحات الصادرة عن كبار القادة في البلدين بتأكيد تعاملها مع الوقائع التي سوف تظهر خلال التفاوض بعيداً عن التوقعات المتفائلة أو المتشائمة، والانفتاح على كل الاحتمالات، بما في ذلك احتمال فشل المفاوضات، رغم الاتفاق الظاهر على حصرها بالملف النووي من زاوية محددة هي ضمانات عدم امتلاك إيران لسلاح نووي. ويقول بعض الذين واكبوا مفاوضات الاتفاق الأول عام 2015 إن الضمانات التي سوف يتم التفاوض حولها، تطال كل مفردات البرنامج النووي والعسكري لإيران.
المفاوضات ستستمر بشكل غير مباشر، وقبل أن تنتقل الى حوار مباشر، إذا ما تم تذليل وحل الخلافات الواسعة بين الطرفين، وطهران مرتاحة لما قاله ترامب، بحصر عملية التفاوض حول امتلاكها للسلاح النووي، وبأن الأمر سهل وسينجز، ولكنه لم يتخل عن لغة التهديد، حيث قال، إن فشل المفاوضات يعني قصف المنشأت النووية الإيرانية عسكرياً،
وقبل أن تنتقل المفاوضات من غير مباشرة إلى مباشرة، هناك قضايا تحتاج ربما إلى عشر جولات تفاوضة، أو أكثر حتى يجري حلها، نسبة تخصيب اليورانيوم، وتخزين اليورانيوم المخصب وكميته، وأجهزة الطرد المركزي عالي التخصيب، ومفاعلات الماء الثقيل، والتفتيش في المؤسسات النووية والعسكرية الإيرانية، وربما التفتيش على الصواريخ الإيرانية القادرة على حمل رؤوس نووية، وهذه قضايا خلافية كبرى بين الطرفين، وأمريكا تصر على مواقف متشددة منها، في حين طهران ترفض جزءاً منها بشكل كلي وترفض أخرى بشكل جزئي، وتقبل صيغ معدلة حولها.
ولذلك ترامب يريد أن لا تكون هناك توترات إقليمية، حتى يتمكن من نزع فتيل نشوب مواجهة إيرانية - أمريكية، تقضي على مشاريعه ومخططات حربه على بكين، فهو يرى أن يكون هناك وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، يؤدي مباشرة إلى وقف جبهة الإسناد اليمنية، المكلفة لأمريكا، والمستنزفة لمخزونها الاستراتيجي من قنابل القاذفات الأمريكية "بي 52"، التي سيستخدمها ضد الصين، إذا ما أقدمت على استعادة تايوان، وهي تدرك أن حرباً على ايران تعني، إغلاق خطوط التجارة العالمية وارتفاع أسعار النفط ووقف سلاسل توريد الطاقة، وتأثيرات واسعة على الاقتصاد العالمي وأسواق البورصة العالمية، ناهيك عن الوجود العسكري والقواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة سيتم استهدافها من الجيش الإيراني .
ثمة في إسرائيل من بقيَ يُمنّي النفس بأن يتخذ ترامب لاحقاً من حربه المدمرة على اليمن نموذجاً لما يمكن أن يفعله بإيران على نحوٍ أقوى وأوسع إذا ما رفضت الانصياع إلى طلباته الكثيرة المتشدّدة. كيف؟ بالانتقال من استراتيجية الاستجابة الدفاعية التي انتهجتها معها إدارة الرئيس السابق جو بايدن إلى استراتيجية الردع الهجومي. أليس هذا مدلول ما هّدد به ترامب ومعاونوه إيران عشيـةَ بدء المفــاوضات في عُمان؟ إلى ذلك، ثمة سؤالٌ آخر: ماذا تريد واشنطن وطهران في المفاوضات؟ ترامب يريد الوصول إلى منع إيران من امتلاك السلاح النووي. طهران تريد أن تقتصر المفاوضات على البحث في الملف النووي فقط، لكن يتضح من تصريحات الرئيس الأميركي ومعاونيه أنّ واشنطن تبتغي توسيع نطاق المفاوضات لتشمل، بالإضافة إلى الملف النووي، سياسة إيران في المنطقة، لا سيما مسألة دعمها للحوثيين في اليمن، وبرنامجها لبناء وتطوير الصواريخ البالستية بعيدة المدى.
عقدة المفاوضات تتركز في برنامج إيران لبناء وتطوير الصواريخ البالستية من حيث هي أخطر على إسرائيل (وربما على الولايات المتحدة أيضاً) من برنامجها النووي. ذلك أنّ نجاح طهران (المفترض) في صنع قنبلةٍ نووية لن يدفعها إلى استخدامها في الحرب لثلاثة أسباب وازنة:
الأول، لأنّ المرشد الأعلى الإمام علي الخامنئي أفتى بعدم جواز صنعها أو استخدامها لكون الفتك الشديد والتدمير العشوائي الناجمين عنها محظورين أخلاقياً وشرعياً. فالعرب، مسلمين ومسيحيين، الذين يسكنون كيان الاحتلال الصهيوني القائم منذ 1948 كما سائر الأراضي الفلسطينية المحتلة سيصابون بالتأكيد في حال استخدام السلاح النوويّ بأضرار فادحة جداً على الصعيدين البشري والعمراني.
الثاني، لأنّ استخدام السلاح النووي يُلحق أذًى وأضراراً فادحة بالطرفين المتحاربين اللذين يستخدمانه ما يحدّ كثيراً من مشروعيّته وجدواه.
الثالث، لأنّ الولايات المتحدة أقوى نووياً من إيران بأشواط الأمر، الذي يُلحق بإيران أضراراً بما لا يقاس مقارنةً بالولايات المتحدة، فماذا حاجة وجدوى تبقيان لاستخدام هذا السلاح الفتاك؟
باختصار مالآت المفاوضات الإيرانية - الأمريكية حتى اللحظة لم يتم حسم نسب وحظوظ الفشل والنجاح فيها، ولكن واضح أن احلام نتنياهو وبعض العرب المنهارين والمطبعين، لم تتحقق بتدمير البرنامج النووي الإيراني على الطريقة الليبية، التدمير تحت الإشراف الأمريكي، رغم أن ترامب لم يسقط الخيار العسكري في حالة الفشل، مستجيباً للتيار المتشدد والمتصهين في إدارته، بأن لا يكون هناك تساهل أو تراخ في المفاوضات مع طهران.
ولكن المؤشرات تقول إن الجولة الثانية من المفاوضات، فيها الكثير من التعقيدات وتواجه الفشل، فأمريكا تملأ مخازن السلاح الإسرائيلي عبر جسر جوي وبحري من الصواريخ الحرارية التي تحمي من إصابة الطائرات حتى من الصواريخ المحمولة على الكتف، وكذلك منظومة "الثاد" التي تحمي السماء من الصواريخ البالستية والفرط صوتية، وجرى تزويد إسرائيل بقنابل موجهة وقنابل خارقة للتحصينات من أوزان طن وطن ونصف، وكميات كبيرة من ذخائر المدفعية والدبابات، وهذا يعني أن الحرب مع إيران تقترب، وتصريحات المبعوث والمفاوض الأمريكي ويتكوف، التي قال فيها بأنه على إيران ان تتوقف عن عمليات التخصيب لليورانيوم بشكل كلي، وليس تخصيب على مستويات منخفضة، تؤشر إلى قرب موعد المنازلة الكبرى، حيث ردت طهران على تصريحات ويتكوف بالقول، إنها لن توقف الصناعة النووية ولا تخصيب اليورانيوم.
شارك برأيك
المفاوضات الإيرانية- الأمريكية معقدة وتسودها حالة من انعدام الثقة