تمر السنين متقلبة في ظروفها ووقائعها، آمالها وآلامها، وهذا أمر طبيعي في الحياة وفي أرجاء الأرض. ولكن هذه الأرض ليست كسائر بقاع الدنيا. ففي الأيام الأخيرة من الزمن الأربعيني والصوم الكبير، وبالتزامن مع عيد الفطر السعيد وانتهاء شهر رمضان، تؤكد هذه الأرض من جديد، على أنها أرض السماء، وموطن الأنقياء ومهد الرسالات. تؤكد من جديد بأن القيامة قادمة، وأنها النهاية الإلهية للصوم والعبادات والتضحية والفداء. وعلى أبواب عيد القيامة لهذا العام، نتذكر ما يلي: لكل عيد مدينته: بيت لحم للميلاد، والناصرة للبشارة، وأريحا للتجربة، وما حول طبريا للتعليم والعجائب ودعوة الرسل، أما الآلام والموت والقيامة فهي للقدس وللقدس فقط. وهي المرحلة التي بدونها يذهب كل شيء سدى. إنها محور ومحط أنظار العالم في عيد القيامة، ومركز كل الصلوات والشعائر والفعاليات. هذا العام علينا أن نميز بين أمرين: أولهما روحانية ورسالة، وثانيهما الاحتفالات والشعائر الدينية.
يأتي عيد هذا العام وشلال الدم ما زال ينزف في كل مكان، والحصار والتضييق يزداد على الانسان في كل شبر على هذه الأرض المقدسة. لا يستطيع أحد ان يتخيل مدى معاناة الناس، نحن نعيش بينهم ومن أجلهم، نرى اليأس والقنوط في قلوبهم وعيونهم، نرى الوجع وتلاشي كل أسباب البقاء، نرى موت الجسد مرة واحدة وموت الروح والأمل ألف مرة، وهذا خطر ليس أقل من خطر قتل الجسد. فإن ما يحصل يؤسس لمستقبل أسود مملوء بالحقد الأعمى والمؤدلج، فمراسم أيام الجمعة والسبت خلال الزمن الأربعيني والنزول عبر أزقة شوارع القدس القديمة بين الناس ومعهم. ورياضة درب الصليب على درب آلام سيدنا يسوع المسيح، تكون الرعية حينها صورة مصغرة عن المجتمع، فهي تجمع كل المعطيات وترى وتدرس ما تعيش وتعاني، ولكم ان تعرفوا نتائج ذلك الواقع. فمع الأسف روح الناس منطفئة، والنفوس حزينة، والأمل مفقود، والمعاناة مستمرة بوتيرة متصاعدة. وهذا الواقع انعكس أيضا من تضييق على المسلمين في شهر رمضان، حيث تحمل كل جمعة في ذلك الشهر طقوساً ومراسم وصلوات خاصة تكون القدس في قلبها، وقد عشنا جميعاًَ تقييداً غير مسبوق من تحديد الفئات العمرية المسموح لها بالدخول الى جانب محدودية التصاريح الممنوحة والعديد العديد من الإجراءات المقيتة. ولكن وبالرغم من كل ذلك، فأننا نرفع الصوت متسائلين: ما عذاباتنا إذا ما قورنت بعذابات السيد المسيح في مثل هذه الأيام وعلى هذه الأرض؟ ما عذابات الأمهات إذا ما قورنت بعذاب أمنا مريم العذراء وهي تشاهد وتتابع اعتقال وتعذيب وقتل ابنها وحيدها البريء؟ ما هي عذابات التلاميذ والناس إذا ما قورنت بعذابات تلاميذ المسيح والشعب البسيط المعذب الذي أحبه، وهو يرى أمله الوحيد يساق إلى الذبح كحمل بريء لا يفتح فاه؟ سنحافظ على روح ورسالة هذا العيد بالرغم من كل الألم والعذاب، فهذا العيد يعلمنا بان لا قيامة الا بعد موت، ولا عهد جديد إلا بعد معاناة وألم، ولا قتل للشر إلا بالخير والفداء والتضحية والصبر. وهذا ليس كلاماً بالهواء بل هو شهادة مثبتة في كتب التاريخ وعيد القيامة هو خير دليل: فكل من فرح بالتعذيب والقتل والصلب، وكل من تآمر ودعا لذلك: فجعته القيامة، وترنح لاحقاً أمام انبعاث الحياة الجديدة والأمل الجديد والعهد الجديد الذي أعلن انتهاء عهد هؤلاء الى الأبد والى غير رجعة. هذه هي روحانية ورسالة وواقع العيد هذا العام.
أما الاحتفالات والشعائر الدينية، فسأتوقف أولا عند عيد الفطر، حيث كانت فرحة الأطفال بالعيد وهدايا العيد، الملابس الجديدة والألعاب، تبث فينا الروح والأمل والسعادة، ولكن عيد هذا العام وفي يومه الأول ارتدى واحد وخمسون طفلاً من غزة الأكفان بدلا من الملابس الجديدة، واحد وخمسون شهيدا من الأطفال ففط في اليوم الأول من العيد. أطفال أبرياء لا ذنب لهم. كنا سابقاً ننتظر العيد لاستضافة أطفال غزة، مسلمين ومسيحيين، ولكن عيد هذا العام فتح لهم القبور بدل الصدور. وعودة الى احتفالات وشعائر عيد القيامة لهذا العام، فالعالم أجمع يعرف ويقف صامتاً أمام واقع خضوعها بشكل كامل الى إجراءات التضييق والحصار: ففي السنوات الماضية كانت القدس تعج كل جمعة برياضات درب الصليب، الى جانب الحشود الهائلة من الحجاج والسياح الذين يغيبون هذا العام وللعام التالي على التوالي. في عيد القيامة وعلى صعيد الاحتفالات او المراسم هنالك ثلاث فعاليات كبيرة على الصعيد الشعبي: أحد الشعانين، رياضات درب الصليب يوم الجمعة العظيمة وكل جمعة خلال الزمن الأربعين، وسبت النور. ومن الجدير بالذكر والتوقف بأن هذا العام عاش شعبنا بمسيحييه ومسلميه الصوم معا وسيحتفل المسيحيون بشكل موحد بعيد القيامة المجيدة، ستحتفل كل الكنائس معا، فلو أن الظروف أفضل لوجدنا القدس على غير هذا الحال. أما بالنسبة الى الفعاليات الرئيسية تلك: فهي تتكون من ثلاثة روافد بشرية الى جانب الإكليروس: أهل القدس والداخل، أهل الضفة، الحجاج: فأهل القدس والداخل مرهقون بالإضافة الى ذلك فهم يخضعون ويعانون من التعليمات الصارمة التي تحد من الدخول والمشاركة الى جانب الاحتكاكات العنيفة التي نشهدها كل عام، والضفة غائبون لغياب التصاريح، مرهقون ومسحوقون تحت نير العذاب اليومي والتضييق الاقتصادي، والحجاج مختفون لظروف الحرب. وكأنها خطة محكمة لخنق القدس وقتلها وقتل كل ما تمثل لنا، كأنها تأسيس لمرحلة جديدة لا يراد لها أن تحمل الخير، كأنها حلقة من حلقات تثبيت امر واقع جديد يحمل في ثناياه رسالة مفادها: لا حصانة ولا مكانة ولا شيء مقدس. إلغاء وجود كامل، لتنطفئ الاحتفالات من تلقاء نفسها وليصبح غيابها تحصيل حاصل يجب على أصحابه وعلى العالم أن يعتاد عليه ويتقبله.
ما أشبه اليوم بالأمس، فهيرودس قتل الأطفال، وقيافا عظيم الأحبار تامر لقتل المسيح أرادا للمستقبل أيضا ان يكون على مقاسهما وهواهما. ولكن إرادة الله ومحبته الأبوية جلبت لكل المتألمين الطمأنينة والأمل، جلبت لهم وللعالم أجمع عهدا جديدا. نسأل الله تعالى ان يعجل بفرج القيامة من بين الأموات، وأن يلهم قادة العالم لوقف هذا الجنون، وأن يعرفوا بأن العدل والعدل فقط هو ما يحقق السلام، وليأخذوا من التاريخ عبرة ومن الكتب السماوية فكرة، بأن القدس لم تكن يوما، ولن تكون في يوم، حكرا على أحد دون الاخر. وأن شوكة الشر تكسر بالخير فقط، وما الألم والتضحية الا انبعاث لحياة جديدة.
................
كانت فرحة الأطفال بالعيد وهدايا العيد، الملابس الجديدة والألعاب، تبث فينا الروح والأمل والسعادة، ولكن عيد هذا العام وفي يومه الأول ارتدى واحد وخمسون طفلاً من غزة الأكفان بدلا من الملابس الجديدة
شارك برأيك
من الموت تنبعث الحياة