بهاء رحال
كتبنا لنكون صوتهم، وكتبنا كي نقول للعالم أهوال ما يعيشه الناس تحت وقع الإبادة، وكيف ماتوا وكيف قصفوا وكيف بترت أعضائهم، وكم عاشوا جوعى وعطشى، وكم من خوف تربص بهم في فصول الحرب التي لم تنته، وهم لا يزالون يعيشون كل أنواع العذاب والقهر والموت، ويعيشون وحشة الواقع وغرابة الأحداث، ولعنة النزوح والخيمة ومراكز الإيواء، وكنا نظن أن هذا العالم إن لم يكن يسمع الصوت ولم يشاهد الصور، فإنه بالتأكيد سيقرأ ما يحدث، وظل لزامًا علينا أن نطبع بكلماتنا مشاهد الإبادة، ولم نكن نظن يومًا أن كلماتنا سوف تنتهي وتتعطل لغة الكلام، ولم تنته حرب الإبادة، ولم نفكر يومًا أن ما كنا نعول عليه، من عالم متحضر بمواثيق دولية وأممية وقانون دولي، سوف يتدخل لوقف المقتلة، وأنه لن يتخلى عن واجبه الإنساني، ولم يكن لأحد أن يتخيل هذا السقوط الأخلاقي الفادح، الذي أخرس معظم المؤسسات الدولية، وقد اتخذت هذا الحياد الأحمق.
جف الحبر، ولم يتوقف سيل الدم النازف في غزة، ولم تتوقف المعاناة المستمرة والحصار الظالم والخراب الكبير، ولم يبقَ لنا غير أن نحمل كل الألم في دواخلنا صامتين، وأن نعد الخيبات التي أصابتنا من هذا العالم المزيف، الذي صمت وسكت وهرب من أمام مسؤولياته، بينما الناس في غزة يعيشون تحت وقع الإبادة، والحصار وويلات الموت والجوع المستمر، بل إنه يشتد ويزداد مع مرور الوقت، وفي هذه الأيام المثقلة بالمصائب والمصائر المبهمة.
لقد أصبحت الكلمات عاجزة عن مواساة طفل يبحث عن أمه تحت الركام، وعن تهدئة قلب أم تحمل كفن وليدها وتبكي بحرقة، وعن زوجة تجمع أشلاء زوجها التي تناثرت جراء القصف، وعن قهر الرجال الذين يموتون قهرًا وظلمًا، وحين تكسرت الصور، وانطفأت الأضواء، وبقيت الحقيقة وحدها تصرخ في وجه هذا العالم الأبكم، ولم يعد بوسع الكلمات أن تضيف أكثر مما قيل، وقد صار الموت خبزًا يوميًا، والخوف رفيقًا لا يغادر، والمجازر مشهدًا مكررًا بلا انقطاع. وكثيرًا ما قلنا خلص الحكي، فالمشاهد المروعة التي تصل بالصوت والصورة، أكبر من أن تصفها الكلمات، وحجم الألم لا يمكن اختزاله في سطور، ومسافة الخوف والرعب أوسع من معاني اللغة، وأمام حقيقة الواقع تخرس الكلمات.
قلنا أننا شهود على ما حدث ويحدث، وأن أقل واجب هو شعورك تجاه الضحايا، وأن تكتب لهم وعنهم، وأن تروي لتبلسم جراحهم النازفة، وأوجاعهم الدائمة، وأن تسرد للعالم فظائع ما أقدم عليه الاحتلال من وحشية ودموية، وأن تصف البشاعة بعين الكلام، وأن الواجب يحتم عدم غياب صوت المكلومين، وحكايات المقهورين، ونزوح الناجين، وجوع الأطفال وقهر الرجال، وإثم صمت العالم.
كتبنا في التصاق ما بيننا من روابط، لعل الضمير الإنساني يتحرك ويستيقظ، فتتوقف الإبادة ومعها تتوقف مشاريع التطهير العرقي، وتنتهي فصول المقتلة التي لم تنتهِ، بل يصرّ الاحتلال وحكومته المتطرفة على استمرارها، وعلى المضي قدمًا في طريق الدمار والخراب، وهذا واقع غزة التي باتت كل تفاصيلها محاصرة بالموت: هواؤها، ترابها، بحرها، وحتى أحلام أطفالها الذين بترت أطرافهم قبل يكبروا، ليعيشوا لحظة عناق.
كتبنا في انتظار اليوم الذي نصحو فيه لنكتب "صباح الخير يا غزة"، وعلى أمل أن يأتي صباح لا تحاصره الطائرات والدبابات، وكلنا يقين بأن ذلك الصباح آتٍ مهما طال الانتظار.
...............
لقد أصبحت الكلمات عاجزة عن مواساة طفل يبحث عن أمه تحت الركام، وعن تهدئة قلب أم تحمل كفن وليدها وتبكي بحرقة، وعن زوجة تجمع أشلاء زوجها التي تناثرت جراء القصف، وعن قهر الرجال الذين يموتون قهرًا وظلمًا.
شارك برأيك
خلص الحكي