يقال في البديهيات إن الزمن يمضي، لكن الحقيقة القاسية أنه لا يفعل هذا، بل يُعاد تشكيله في أذهاننا وأرواحنا واقوالنا، قطعة إثر قطعة، وعبر ذاكرة منحازة تتقلب بين ضدين، كصديق حكيم، وعدو لئيم.
الذاكرة لا تنقل الماضي كما كان أبداً، بل تعيده كما نشتهي له أن يكون. فهل هذا تحريف وتجريف؟ ليس تماماً. إنما شكل من أشكال المقاومة. الإنسان لا يحتمل الحقيقة كاملة، ولهذا تمارس ذاكرته المخاتلة نوعاً من «الانتقاء الرحيم»، وكأنها مخرجة مسرحية تدرك أن بعض المشاهد لا تُعرض كما هي؛ لأنها قد تحرق العرض وتقتله وتسدل الستارة.
طفل يتذكر حضن أمه دافئاً، وإن غابت قبل أن يلثغ بحروفه الأولى. وفتاة ترى والدها بطلاً، رغم أن صوته العالي كان يبث الرعب في نفسها. ورجل في خريف العمر وتخاريفه لكنه يحنّ إلى أيام شبابه وتصعلكه رغم قسوتها وشظف عيشها. الذاكرة تمنحنا القدرة على الاستمرار والتمرير. أليس في ذلك ما يستحق الغفران أو التجاوز؟
هناك نوع آخر من الذاكرة، ذاكرة صارمة لا تحذف ولا تعدّل ولا ترحم. تحتفظ بالأخطاء كدروس لا تُنسى، وبالندم كقبر فاغر الفم. أصحاب هذه الذاكرة لا ينامون ولا يتنفسون جيدا ولا أعرف كيف يقلبون صفحة الأيام. هم لا يعيشون حاضرهم كون ماضيهم لم يفرغ حقائبه بعد.
فأي النوعين أكثر إنسانية ورأفة وأقل ألما؟ وهل يمكن للذاكرة أن تتحرر من سطوة ونير هذين الاختيارين، الرحمة أو الصدق؟ أم أن الإنسان لا يُبنى إلا على أساس أكاذيبه الصغيرة وأوهامه المتفاقمة في التضخم؟
نحن أسرى لذاكرة خائنة. ربما تكون بصورة أم حنونة أحيانا، أو بهيئة سجّان لا يكل. لكنها بكل تأكيد ليست مرآة مستوية. هي قلم كاتب مأزوم يعيد كتابة الرواية ذاتها مراراً وتكراراً، وبتعديل طفيف في النهايات. فهل نملك شجاعة العيش بلا ذاكرة؟ أم أن نسيان الألم هو النجاة الوحيدة الممكنة والمتاحة لنا على هذا الكوكب؟ وإذا كانت نجاة كاذبة. فهل نحتمل الحقيقة إن جاءت عارية؟
شارك برأيك
ذاكرة الانتقاء الرحيم