Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

فلسطين

الثّلاثاء 11 فبراير 2025 8:26 صباحًا - بتوقيت القدس

حارس شبّابة الرعاة.. في وداع الدكتور والروائي أحمد حرب

رام الله -"القدس" دوت كوم- إعداد توفيق العيسى

أحلام بشارات: ها أنذا أسمع صوته يرافق أصواتهم وهو يصطف بطوله الفارع وهشاشته الملاحظة.. بينهم

بدر عثمان: كان رجلاً نادراً هادئاً مليئاً بالقصص والحكمة لم يسمح لهُ الوقت بإكمال مشروع روائيّ ملحميّ

محمود شقير: وجدت فيه الإنسان الدمث الخلوق المتواضع الذي تألفه بسرعة وتشعر بأنك تعرفه منذ زمن

عبد الغني سلامة: لم يعبأ بالألقاب ولا بالتصنيف الاجتماعي وفي أعماله الإبداعية ظل رافضاً الخضوع لأي مسطرة صارمة

إبراهيم جوهر: صاحب رؤيا وصوت أدبي متفرّد وشخصية ودودة تفرض احترامها على كل من يقابلها

صالح مشارقة: مدوّن سيرة العائلة الصغيرة بلا خوف من العشيرة والعقل الجميل الذي يجد جمالاً في كل شيء


بين السيرة والتاريخ والأدب تبرز ذاكرة تحمل لون دم الشهداء، وهتافاً يتحدث عنه، الروائي والدكتور الراحل أحمد حرب، يبرز جلياً في ذاكرة من عرفوه بصور متعددة، قد تشعر بأنه رواية أو بطل قصة أخرجته الذاكرة من بطون الكتب وسيرها، ونسجته على غرار ما تريده من البطل/ الإنسان/ المثقف، لكنه بتواضع المخلص، يجسد تلك الأدوار دون استعراض، بثقة العارف لدوره والمتأكد منه بشكل طبيعي، كجسد رواية تعبر عنها الأحداث لكنها تختزنها لتمضي، وتحكي..


بالأخضر كفناه.. بالأحمر كفناه


تبدأ الشاعرة والكاتبة أحلام بشارات حديثها حول الروائي والكاتب والاكاديمي الدكتور أحمد حرب بقصيدة الشاعر عز الدين مناصرة " بالأخضر كفناه" مغناة  مارسيل خليفة، لتتذكر علاقة الراحل حرب بالشهداء وتضيء على علاقة أبطال رواياته بهم، هذه العلاقة التي ستتحول الى رواية من لحم ودم حقيقي وستمتد لتصبح ثيمة الذاكرة عند كثيرين.


فتقول: "عادت هذه الأغنية بصوت مارسيل خليفة، وصوت جيل كامل من الفلسطينيين تشاركوها بحنجرة، كأنها واحدة منذ 1984 ، إلى رأسي. عادت نابضة وتدق رأسي بعصا الهاون. حركة الشدّة على حرف الراء في مفردة تصفرّ لم تكن مجرد حركة ضاغطة، كانت السنوات كلها وهي تمرّ عنا، عمن كانوا أطفالاً، أو شباباً، أو من هم أكبر سناً. ردد  الروائي أحمد حرب هذا الشطر، بالشدّة وهي تمر من فوق الحرف الأخير للمفردة، فاهتزّت الكلمة تحت الحركة. غنّى الروائي المقطع في فمه، لتناسب طقس الاحتفاظ ببدلته التي تغمست بدم الشهيد جهاد أبو سليمة، الذي استشهد رفقة صائب ذهب، في جامعة بيرزيت، في الرابع من كانون الأول، من عام 1986.


* أين كنت عندما كان يحمل الروائي شهيداً؟!


 وتضيف: " صعدت قصة الروائي أحمد حرب مع الشهيدين ودمهم، وكلمات الشاعر عز الدين المناصرة،  لتظهر أمامي بعد يومين من رحيله. عاد إسماعيل بطل روايته التي تحمل الاسم ذاته إلى الواجهة، وعادت مع إسماعيل" بقايا" ومعهما عاد "الوجه الآخر لأرض الميعاد"، وعدت لأسأل نفسي: أين كنت عام 1986، عندما كان الروائي يحمل شهيداً فيغطي دمه بدلته، ويغني له يا دمه النازف؟ أتذكر المكان في الجفتلك صاخبا بخضرة الحقول، باللون الأصفر الفاتن، في قرون الفاصولياء وأقراص عبد الشمس. كانت صفرة دون إضافات، كصفرة "محاح البيض"، وليمونية كلون الليمون. في العام الذي يلي هذا العام، عام البدء التاريخي للانتفاضة، 1987، كانت لا زالت الألوان تمارس دورها في توشيح الأرض الجافة بأيدي المزارعين.


أربعة ألوان فقط


وفي السابع من تشرين الثاني من عام 1988، كانت الألوان ما زالت  تؤكد دورها في إحداث الفرق بين اللونين البني والأخضر، وما يتلوهما من علبة الألوان. قفزتُ مع أبناء صفي من السادس الابتدائي إلى الثامن الإعدادي، بقدرة الانتفاضة، فلم ندخل الإعدادية من بابها السابع. كان الاحتلال قد أغلق المدارس، وعطل الحياة بكامل صورها، ووأد الألوان، تاركا منها أربعة العلم:


بالأخضر كفّناه،  بالأحمر كفّناه... بالأبيض كفّناه... بالأسود كفّناه.. فاخترناها ألوان الكفن.

وفي العام 2022 كان الحال على حاله، مع ضمور في رؤية تغيّر الحال، صعد الجيبُ، بعجلاته الضخمة تلالاً، وقطع جبالاً، ما بين الباذان وطلوزة، للوصول إلى نابلس. أفعل ما يفعله الناس في الانتفاضة الثانية، يقطعون الجبال، ويحتالون على إغلاقات الطرقات. أسعى في الأرض المغلقة كي استكمل مطلبات بحثي للماجستير، عن الشخصية الرئيسة وملامح البطل في الرواية الفلسطينية، فيما بعد أوسلو، يرافقني إسماعيل والحاجة محبوبة وأبو الرائد .. وشخصيات روايات ثلاثية أحمد حرب يقطعون معي الجبال، وفي أحد الأيام عندما نحاول قطع طريق "السبعطاش" المغلق، على مشارف نابلس، يمطرنا جنود الاحتلال بالرصاص والغاز المسيل للدموع، وقنابل الدخان، تتعتم الرؤية بين أشجار الزيتون، أحاول أن أستند على أحدهم، أبحث عن متبرّع بالغناء، يستطيع أن يجعل من صرير الشدة فوق الراء أكثر خفة وأقل إيلاما وهو يحفر، فيصل الماضي بالحاضر، بما سيأتي، فتصطف شخصيات روايات فلسطينية كثيرة في رأسي وهي تغنّي، تتقدمها شخصيات الروائي أحمد حرب، فتقف في الصف الأول، وها أنذا أسمع صوته، يرافق أصواتهم، وهو يصطف، بطوله الفارع وهشاشته الملاحظة.. بينهم!".


مجموعة من الرجال ونصف نجار


الشاعر بدر عثمان الذي عرف د. أحمد حرب أواسط العام 2005، وهي أشهر العطلة الصيفيّة في المدرسة،  قدم شهادة تتراوح بين الذاكرة الشخصية والمهنية عن مجموعة من الرجال يجلسونَ في دائرةٍ كبيرة، يأرجلونَ التمباك في مساحةٍ خارجيّة خلفيّة للمقهى، باتت، في آخر زيارة لرام الله، مساحة مغلقة تسلّلت إليها نباتات تنمو وتعكس إهمالاً للمكان. وكانت العادة أن من يأتي يجلسُ يدفع حساب طلبه من سبقهُ من الجالسين، عادة عكست لُطف مجموعةٍ متنوّعة تتحاور كلّ مساء بقضايا مختلفة. وكان د. حرب (أبو فجر)، رحمهُ الله، أنيقاً دائماً، بابتسامتهِ الهادئة وسكونه، مثالاً تعلّقتُ بهِ. وعرفتُ لاحقاً أنّه أستاذ الأدب الإنجليزيّ في جامعة بيرزيت، الجامعة التي بدت، بالنسبة إليّ، بعيدة في ذلك الزمن، وأنا نصف نجّار؛ ما يُطلق على العتّال الذي لا يُتقن فِعلاً قصّ الخشب على المنشار الذي أودى بأصابع نصف العُمّال. 


بعد ذلك بخمس سنوات أو ستّ، التقيتُ بالدكتور حرب في دائرة الأدب الإنجليزيّ في كلّيّة الآداب في جامعة بيرزيت. ذهبتُ إليه "ليدير باله عليّ" كما وصّاني أبي. "دكتور دكتور... أنا أنا"، فاستقبلني في مكتبهِ وتحدّثنا.


 أذكرُ أنني رأيتُ ثلاثة كُتب على مكتبهِ، "The Canterbury Tales"  لجيفري تشوسر، "The Sound and the Fury"  لويليام فوكنر، "A Portrait of the Artist as a Young Man"  لجيمس جويس، والتي اضطررت إلى استعارتها منه شخصيّاً عندما كان يدرّسنا مساقات مختلفة، منها مساق الرواية. في ذلك المساق تحديداً، شكّلت المحاضرة الأولى أساساً مُلهماً، إذ قدَّم فيها د. حرب تأطيراً مذهلاً لتطوّر الرواية. سجّلته كلمةً كلمةً، وأعدتهُ كالببغاء على مسامع الأصدقاء لاحقاً، مُستهلّاً القول، كما بدأت تلك المحاضرة، Novel  كلمة لاتينيّة تعني الجديد... واستمرّ لُطف د. حرب، ودماثته، حين طلبتُ منه أن يكون عضواً في لجنة نقاش رسالتي لدرجة الماجستير، وهو بابتسامتهِ قَبلَ ذلك، وكانت الصورة التي جمعتنا بعد ذلك برفقة الأستاذين العزيزين إبراهيم أبو هشهش وعبد الرحيم الشيخ. ولقاءات كثيرة جمعتنا، توسّطتها د. وفاء درويش، في بيتها، تعرّفتُ فيها أكثر على د. حرب، طِفلاً عاش واقعاً أسطوريّاً، بدا لي أنّه خياليّ، إلى حين سمعتهُ في مهرجان فلسطين للأدب عام 2014، يروي قصّة تفضيل أهله له على حساب أخته، في رحلة هجرةٍ، تركوها وراءهم، ولأنّ الزمن الفلسطينيّ معادلة تراوح بين الفانتازيا والواقع، فقد تفاجأت العائلة بلحاق الابنة تحبو إليهم.


شاهدا على شمس كانت أكبر


وبعد ذلك تعرّفت على "خالتو"  سارة والأعزّاء صوفيا وفجر وسري. وكان من كرم الحياة أنّ د. حرب الذي رأيته أوّل مرّة في مقهى البرازيل، قريباً يحنو علينا ويخبّئنا في سيّارتهِ في ثلجة رام الله عام 2013، ويتأكّد ألّا يتسلّل البرد إلينا. كان د. حرب رجلاً نادراً، هادئاً مليئاً بالقصص والحكمة. لم يسمح لهُ الوقت بإكمال مشروع روائيّ ملحميّ شاهداً على مراحل كانت الشمس التي تُشرق على فلسطين أكبر من الآن، اكتفى بتكثيفها بقصّة كتبها على صفحة فيسبوك قبل شهرين، عن الشهيدين صائب ذهب، وجواد أبو سلمية الذي بقي دمه الحارّ على يدي "أبو فجر" وبدلته، وبقي يردّد "يا دمهُ النازف إنْ كنتَ عذاباً يوميّاً لا تصفرّ". ومنذ أن قرأت خبر وفاة د. حرب، تملّكني حزنٌ عميقٌ، ولم أفكّر إلّا بجُملة كتبها عن ابن عمّهِ الشّهيد حسن، في سيرتهِ "مواقد الذكرى": "أين تجدون مثل هذا الرجل الذي جمع في شخصه بأس الرجال وعطف النساء، ومن يعوّضنا عن فقدانه؟"


انتظرت.. ولم يرد


يشاركنا الروائي والقاص الكبير محمود شقير شهادته بكثير من الأسى موضحاً حجم الفجيعة من جهة، وأخرى حجم الصدمة التي شعر بها لرحيل الراحل أحمد حرب فيقول: "آخر مرّة التقيته كانت بتاريخ 17-7-2022 في قاعة قصر الثقافة في رام الله. كنا نحتفل بمرور خمسين سنة على استشهاد الخالد غسان كنفاني. في ذلك اليوم سلمتني وزارة الثقافة نسخة من الكتاب الذي أعددته عن غسان بعنوان "غسان كنفاني... إلى الأبد".


 كان أبو فجر يجلس إلى جواري، وقد أهديته تلك النسخة الوحيدة التي وصلتني في ذلك اليوم. بعد أيام شرفني بكتابة مقالة جميلة عن الكتاب، وقد هاتفته وشكرته على مقالته الجميلة. كان الهاتف هو وسيلة التواصل بيننا، بعد أن لم أعد قادراً على الوصول إلى رام الله بسبب المتاعب الصحية وبسبب أزمات السير وفترات الانتظار الطويلة عند حاجز قلنديا الاحتلالي العسكري.


 التقيته أوّل مرة عام 1991 في عمّان حين انعقد فيها مؤتمر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وكنا معاً في عداد وفد أدباء فلسطين إلى المؤتمر. ومنذ اليوم الأول للقائنا وجدت في د. أحمد حرب الإنسان الدمث الخلوق المتواضع الذي تألفه بسرعة وتشعر بأنك تعرفه منذ زمن. وحين عدت من المنفى عام 1993 إلى فلسطين، وإلى القدس تحديداً تعددت لقاءاتنا في بيته وفي بيوت بعض الأصدقاء، وفي المؤتمرات والندوات الأدبية، وفي اللجان الثقافية. وحين كان رئيساً للجنة جوائز فلسطين للآداب، شرفتني اللجنة التي كان يرأسها بمنح كتابي القصصي "سقوف الرغبة" جائزة فلسطين للآداب للعام 2019.


 قبل أقل من سنة هاتفني وسألني عن صحتي وعن أخباري. طمأنته على وضعي، وحين سألته عن صحته وعن أخباره، تحشرج صوته وقال وهو يداري انفعالاً مفاجئاً إنه مريض. فهمت منه أنه المرض الخبيث، فانصدمت وشعرت بالأسى من جراء معاناة صديق عزيز. ثم تواصلت معه على الهاتف غير مرة، وكان آخر اتصال قبل شهر تقريباً، سألته عن صحته، فقال إنه يشعر بتحسّن في وضعه الصحي فابتهجت لذلك، واقترحت عليه أن يكتب شيئاً عن مشاركته في برنامج الكتابة الدولي لكي نضم ما سيكتبه إلى نصوص أخرى لكاتبات وكتاب فلسطينيين شاركن وشاركوا في البرنامج المذكور تمهيداً لترجمته ونشره على نفقة إدارة البرنامج وبإشرافها. تحمّس أبو فجر للاقتراح، ووعدني بأنه سيكتب برغم المرض، وقبل أسبوعين أرسلت له رسالة على مسنجر أسأله إن كان كتب بعضاً من ذكرياته عن تلك الأيام، وانتظرت أن أتلقى منه ردّاً، ولم يردّ. قلت: ربما لم يشرع أبو فجر في الكتابة حتى الآن، والأفضل ألا ألحّ عليه كيلا أزعجه. ولم يخطر ببالي أن المرض قد اشتدت وطأته عليه، وذلك اعتماداً على تأكيده السابق لي بأن صحته في تحسّن. قبل يومين وأنا أعبّر عن صدمتي برحيل هذا الإنسان الصادق النبيل كتبت: كنت أنتظر النصّ الذي ستكتبه عن مشاركتك قبل سنوات في برنامج الكتابة الدولي الذي تنظّمه جامعة أيوا الأميركية، تمهيداً لجمع نصوص عن ذكريات كاتبات فلسطينيات وكتّاب شاركوا في البرنامج ذاته، ولترجمة النصوص ونشرها في كتاب. ولأنّك غادرتنا فجأة وترك فراقك حزناً مقيماً في قلوبنا، فسوف نكتب مشاعرنا عن صدقك ونبلك ووفائك وتميّزك ونجعل اسمك يتصدّر صفحات الكتاب. صديقي الوفي د. أحمد حرب/ أبو فجر: وداعاً وداعاً وداعاً ".


دون شرح يظهر الروائي الفذ


الكاتب والقاص والباحث عبدالغني سلامة يرى أنه برحيل الدكتور أحمد حرب فقدت فلسطين أحد أبرز أعلامها، من الذين صنعوا مشهدها الثقافي؛ مثقف حقيقي، انشغل بالهم الوطني والشأن العام، الذي لم تشغله صورته في الإعلام، وظلت تسكنه القيم الأصيلة، متواضع ودمث، توحي ابتسامته بالطمـأنينة.. أحمد حرب، الإنسان قبل الروائي، والصديق قبل الأستاذ.. 


ويضيف سلامة: " وُلد في الظاهرية أقصى الجنوب، وهي بلدة ريفية محافظة، تميزت بمستوى تعلم أبنائها، وبميولهم اليسارية، ومنها انتقل بطموحه وذكائه إلى رام الله ومن ثم إلى عمّان فالولايات المتحدة، ليعمل أخيرا أستاذا للأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة بيرزيت، وليبدع في حقول الثقافة والتعليم والرواية والنقد.


لم يعبأ بالألقاب ولا بالتصنيف الاجتماعي، مترفعاً عن تعريفات المنطقة أو الحزب أو الأيديولوجيا، لكنه ظل وفيا ليساريته وتقدميته ولإنسانيته.. وفي أعماله الإبداعية ظل رافضا الخضوع لأي مسطرة صارمة تصنف نوع العمل، فجاءت رواياته غنية وشيقة دون تكلف، وخالية من البذخ اللغوي، من الممكن تصنيفها سيرة ذاتية أو رواية، أو أي صنف آخر، المهم أنها تُظهر خشيته على مجتمعه من الأمراض النفسية والعلل الاجتماعية، وحرصه على التجديد والتقدمية، ومزاوجته بين الأصالة والحداثة، وبين الوطنية والإنسانية بمعناها الأشمل." 


النّقد الاجتماعيّ حتى لو كان ساخراً موقف سياسي ووطني


وفي قراءته لروايات الراحل أحمد حرب يكثف سلامة قراءته لأعماله بقوله: " روايات: "إسماعيل"، و"الجانب الآخر من أرض الميعاد"، و"بقايا".. وآخر أعماله "مواقد الذكرى".. التي يروي فيها قصّة تفضيل أهله له على حساب شقيقته، في رحلة الهجرة، حيث تركوها وراءهم، لتفاجأ العائلة بلحاق الابنة بهم.. يسرد على لسان أمه: "وَلَدتُك في يوم حصاد قائظ تحت شجرة السدرة في قاع خلة أم سدرة. قالت أمي. كانت بدوية، الله يذكرها بالخير، ترعى الغنم وتجمع سنابل القمح التي تخطئها مناجل الحصادين."


في روايته تشعر أن شخصياته أناس حقيقيون، نكاد نعرفهم بالاسم، حرارة الوصف ودقته، وبتلك اللغة البسيطة والصادقة، وبأسلوبه المميز والسلس في استعراض المواقف، بالإشارة ودون شرح، يظهر الروائي الفذ، والسارد المتأني، الذي يصف ظروف ما بعد النكبة، ومرحلة الستينيات (قبل وبعد النكسة).


في "مواقد الذكرى" باح أحمد حرب بما لم يجرؤ أحد على البوح به.. بشفافية ورقة ونقد لاذع ولكن مهذب..


 تحدث عن الطقوس والمعتقدات، والخرافات، والسحر، ومقام الغماري، والأعراس، ومواسم الحصاد، ومراسم الدفن، وحلقات اللطم.. وعن حياة الناس، وعاداتهم، وأعيادهم وعلاقاتهم، ونظرتهم للمرأة والإنجاب وتجاه الاحتلال واستفزازاته.. والأهم عن أخطائهم وتصرفاتهم الشخصية.. مما يشكل إطلالة توثيقية على ظروف تلك المرحلة، بالاعتماد على الذّاكرة الشّفوية، بلغة شاعرية تربط الأدب بأسلوبه الجمالي، وتجعل من النّقد الاجتماعيّ حتى لو كان ساخراً موقفاً سياسياً ووطنياً.


مزج ثقافة القرية التي تشرّبها مع ثقافة المدينة


أحمد حرب الروائي الأكاديمي الفيلسوف جمع في شخصيته صفات الهدوء والعمق والبساطة وهو صاحب رؤيا. هكذا يعرف الكاتب إبراهيم جوهر الراحل ويضيف: اكتفى بالتلميح حينا دون التصريح المباشر معتمداً على ذكاء قارئه أو ليحثه على الوصول بنفسه لما يراد. إنه يحترم قارئه ومن يستمع له في الكتابة وفي الحديث والمحاضرة.


بدأ ناقداً يتابع ما ينتجه جيل سبعينيات القرن الفائت في القصة القصيرة التي جذبت عدداً من الأدباء إلى ساحتها وهم يتخذون منها وسيلة نضال وتوعية واحتجاج وإيصال رسالة، ثم راح ينشط في اللقاءات الثقافية والمؤتمرات الأدبية إلى جانب عمله في التعليم الأكاديمي ليصدر أولى رواياته التي بدا فيها وكأنه يحاور ما أنتجه أدباء آخرون وكأنه يقول: هذه معادلة الثقافة الفلسطينية التي تبني فوق ما بناه الآخرون وتأخذ منهم مؤيدة أو معارضة.


وهو صوت أدبي متفرّد، وشخصية ودودة تفرض احترامها على كل من يقابلها. ولقد مزج ثقافة القرية التي تشرّبها مع ثقافة المدينة التي درس فيها أو أقام. لم يخذل الجغرافيا ولا التاريخ فكان أن كتب هوامش من سيرة القرية وسيرته الذاتية، ولم يمهله هادم اللذات ليواصل مشروعه الثقافي الذي يعطي للكلمة هويتها وألقها وللوطن بهاءه وأفقه الرحب.


مقدم الآخرين إلى المنصة والمتضامن مع غير الرسميين


الكاتب والأستاذ صالح مشارقة عرف الدكتور أحمد حرب كونه الانسان قبل المثقف وقبل الأكاديمي وقبل أية تسميات. 


القادم من آخر البرية في الجنوب الى مركز الثقافة والتعليم والرواية، ولم يفقد طبيعته وهدوءه وتوازنه. 

لم يعبأ يوماً بترتيبات التصنيف الاجتماعي، فهو الأب والأخ الأكبر والصديق المساند والداعم لكل الأجيال التي جاءت للكتابة. 


لطالما حظيت معه بفكرة لم أنتم لها، إنه "ابن بلدي" الطبيعي، بدون تكليف وبدون تعريفات المنطقة أو الحزب أو المؤسسة. 


حارس شبابة الرعاة، ومدوّن سيرة العائلة الصغيرة بلا خوف من العشيرة او خطابات الكتابة، العقل الجميل الذي يجد جمالاً في كل شيء، والإضافة في كل إنسان، والفكرة في كل جدال. 


مقدم الآخرين إلى المنصة، الناقد العقلاني والسارد المتأني، المتضامن مع غير الرسميين والعاديين دائماً. 

الشاب الخائف على مجتمعه من أية أمراض، الغيور على التجديد والتقدمية، المتفهم لضرورة الأصالة وجدارة الحداثة. 


زوج العزيزة سارة ووالد البنات والأولاد الجميلين وصديق كوكبة من أساتذة بيرزيت الإضافيين والتأسيسيين. 

ابن البرية التي بين الظاهرية وبئر السبع وواد الخليل والبرج ودورا والرماضين وكل الجنوب الذي كان يحبك. 


د. حرب في سطور


أحمد حرب الأكاديمي والأديب والناقد والروائي من أعلام الفكر والأدب، وأستاذ متميز ترك أثراً عميقاً في الأوساط الأكاديمية والثقافية  


ولد في مدينة الظاهرية عام 1951.


تخرج من الجامعة الأردنية عام 1974 بدرجة البكالوريوس في الآداب – تخصص الأدب الإنجليزي، 

عمل مدرساً للغة الإنجليزية في مدارس مدينة الخليل. ثم واصل مسيرته العلمية في الولايات المتحدة، حيث حصل على درجة الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنجليزي والمقارن من جامعة أيوا- أيوا ستي، وانضم إلى برنامج الكتاب العالمي للكتابة الإبداعية.


عمل أستاذاً للأدب الإنجليزي والمقارن في جامعة بيرزيت منذ عام 1987، حيث شغل مناصب قيادية عديدة، منها:  رئيس دائرة اللغة الإنجليزية وآدابها، وعميد كلية الآداب، وعضو مجلس الجامعة بين عامي 2002 و2007. 


كما كان عضواً في عدد من مجالس الأمناء والإدارة لمؤسسات ومراكز ثقافية وأكاديمية، وعضواً مفوضاً في الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان "ديوان المظالم" منذ عام 2006، وتم انتخابه مفوضاً عاماً للهيئة في 26 نوفمبر 2011. كما كان عضواً فب الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين وعضو في برنامج الكتاب  العالمي ( الكتابة الابداعية) وعضو مجلس أمناء مؤسسة محمود درويش.


ترك الدكتور حرب إرثاً أدبياً وفكرياً غنياً، حيث ألّف العديد من الروايات التي حظيت بتقدير كبير، منها ثلاثيته الشهيرة: "إسماعيل"، و"الجانب الآخر لأرض الميعاد"، و"بقايا"، بالإضافة إلى روايته الأخيرة "مواقد الذكرى"، التي مزجت بين السيرة الذاتية والأدب والتاريخ. كما نشر دراسات نقدية وأدبية في مجلات متخصصة مرموقة، وساهم في تعزيز الثقافة والأدب في فلسطين.


دلالات

شارك برأيك

حارس شبّابة الرعاة.. في وداع الدكتور والروائي أحمد حرب

المزيد في فلسطين

أسعار العملات

الأحد 09 فبراير 2025 9:22 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.55

شراء 3.56

دينار / شيكل

بيع 5.01

شراء 5.0

يورو / شيكل

بيع 3.68

شراء 3.67

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%55

%45

(مجموع المصوتين 609)