أقلام وأراء
الأربعاء 05 فبراير 2025 9:06 صباحًا - بتوقيت القدس
العالم على كف "رئيس"
بمجيء ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، على العالم (بما فيه أمريكا) أن يكون أكثر قلقا، فنحن أمام رئيس من نوع خاص، ينطبق عليه ما جاء به المثل الروسي الذي يصف سياقة الجاهل للسيارة، بأنها "كالقرد الذي يحمل قنبلة لا تدري أين سيلقيها ومتى سيلقيها". فنحن، العالم وخاصة العرب وخاصة الفلسطينيون، أمام حالة من اللا يقين، ناتجة من أن "السائق" الأول لهذا العالم (الرئيس الأمريكي)، يتمتع بصفات "استثنائية" ومتناقضة، ويريد أن يصنع عالما على شاكلته.
هذا الرئيس مصاب بجنون العظمة، يرى نفسه "امبراطورا" أو أكثر، لدولة يريدها الأعظم في العالم وإلى الأبد، لكنه في نفس الوقت يريد أن يكون أكثر منها عظمة. هو أكبر من الدولة ومن المؤسسة، يتصور امريكا دولة ليست كأي دولة، ويتصور نفسه رئيسا ليس كأي رئيس، ويبني على ذلك اعتقادا أن ما يصح على أي دولة في العالم لا يصح على امريكا وما لا يجوز لأي انسان في العالم جائز له.
وفي الوقت الذي يتطلب فيه هذا الشعور "بالإستثنائية"، حدا أقصى من "الارستقراطية" السلوكية، والنخبوية الثقافية، واللباقة الفكرية، والمسؤولية الجدية، تجده على العكس فاسدا بامتياز، لا يجد مشكلة في استخدام المال السياسي ولا حرجا في توظيف الأقارب. وشعبويا يحترف "البلطجة"، ويتبناها نهج حياة، ويعتبرها وسيلة ناجعة لتحقيق أهدافه. وهو بغض النظر عن مدى ذكائه، وأنا اعتقد انه كذلك، "يحرص" على أن لا يبدو حكيما بل متهورا و"يستثمر" ذلك في "تمشيطه" للمساحة الواقعة بينه وبين "فريسته"، ويبدأ بالتنمر على "ضحيته" فيرهبها ويرهب الآخرين معها، ويُسقطها -على الأغلب- دون الحاجة الى الدخول في معركة حقيقية.
في تنمره على الآخرين بمن فيهم اسلافه رؤساء الولايات المتحدة السابقين، لا نجد لديه أي نوع من "الشهامة"، فيزداد تنمره كلما كان الطرف المقابل اكثر ضعفا. لا مكان للمشاعر الإنسانية في قاموسه، ويهين "اصدقاءه" قبل خصومه، والقريبين منه قبل البعيدين عنه، وينتظر الانصياع لإرادته من الجميع، ويعتقد أنه أكبر من أن يُرد له طلب، ويتوعد من يقوم بذلك "بالويل والثبور وعظائم الأمور".
هو تاجر (مقاول) بالمعنى الحرفي للكلمة وكذلك بالمعنى المجازي (مع الاحترام للتجار المحترمين)، هدفه الوحيد هو الربح، فيعتبر التحايل شطارة، والغش كفاءة، ينافس حلفاءه كما الآخرين، ويخدع المقربين قبل البعيدين، واذا أظهرت له أنك جاهل في الأمر يتمادى في استغلالك. وكتاجر هو براغماتي بامتياز، يريد أن يظهر قويا في داخل امريكا وخارجها، لكنه إن شعر أنه في مواجهة خصم عنيد يتراجع بلا تردد، إلا أنه لا ينسى ولا ييأس فيعيد الكرة مرة أخرى اذا وجد ظرفا أنسب.هذا ما عمله في مواجهته مع الدولة الأمريكية العميقة في فترة رئاسته الأولى.
على هذه الصفات المفرغة من القيم والمتشابكة حد التناقض، بنى ترامب استراتيجيته وأهدافه. شعاره الأساس "جعل امريكا عظمى مرة أخرى"، لكنه يحرص أن يتصدر المشهد. هو مهتم بأمريكا العظمى لكنه مهتم بعظمته اكثر، فيراها الدولة العظيمة لأنه رئيسها أكثر مما يرى أن عظمته تأتي من كونه رئيسا لتلك الدولة "العظيمة".
هنا تأتي مشكلة ترامب مع امريكا التي عرفناها وعلاقته بالدولة العميقة (المؤسسة) وصدامه معها، وإصراره على تغييرها وتغيير موقع الرئيس منها. فالدولة العميقة في الولايات المتحدة تتشكل بالمجمل من المجمع العسكري المتمثل في الجيش والاستخبارات، والاوليغارشية التقليدية صاحبة الرأسمال المالي المرتبطة بالفدرالي الأمريكي، وبيروقراطية الدولة وعلى رأسها القضاء.
تغلب على الدولة العميقة المكونة من هذه الأطراف الثلاثة الايديولوجيا الدينية المتمثلة أساسا بالمسيحية الصهيونية، واذا ما اضفنا الى ذلك البعد الايديولوجي الديني الثقل المالي الذي يشكله الرأسمال الصهيوني في الاوليغارشية التقليدية الأمريكية، ندرك "احقية" ما قلناه في مقال سابق من أن الدولة العميقة الأمريكية ما هي إلا الصهيونية ذاتها، تزيد قليلا أو تنقص قليلا.
مشكلة ترامب مع هذه التركيبة التقليدية للدولة العميقة في امريكا ليست أبدا ايديولوجيتها المسيحية الصهيونية التي يؤمن هو نفسه بها، إنما مع مكانة الرئيس "المنتخب" مقابل بيروقراطيين غير منتخبين، اضافة الى أنه يرى نفسه ممثلا لاوليغارشية جديدة تجاوزت الرأسمال المالي، مرتبطة أساسا بالانتاج الحقيقي سواء في مجال التكنولوجيا أو الإنتاج الفعلي والمباشر. هذا الذي جعلنا نراه محاطا بإلون ماسك و"أمثاله" في حفل التنصيب وليس بأصحاب البنوك الكبيرة كما جرت العادة.
يعتقد ترامب أن الاوليغارشية التقليدية الأمريكية المعتمدة على الرأسمال المالي (والتي يشكل الصهاينة وحلفاؤهم الجزء الأكبر منها)، هي التي أبعدت الاقتصاد الأمريكي عن الإنتاج الفعلي وتركت الساحة للاقتصاد الصيني للتفوق في معظم قطاعات الإنتاج. في هذا الأمر نجده في حالة "احتكاك" مع الرأسمال "الصهيوني" في الداخل الأمريكي في الوقت الذي هو ايديولوجياً متناغم معه بالكامل، ولكي لا "يُساء" الظن في موقفه من هذا الشكل من الاوليغارشية التقليدية، وحتى لا يُفسر بموقف من الصهيونية نفسها، ذهب اكثر في تأييده لإسرائيل، وقام بتعيين غلاة المؤيدين لها في البيت الأبيض وفي المناصب العليا في الإدارة الأمريكية. هو بذلك يرى أن "مواجهته" المحتملة مع "بعض" الصهيونية في امريكا بصفتها جزءا من الدولة العميقة، لا تعني، ولا يجب أن تعني، موقفا سلبيا من الصهيونية ذاتها، بدليل موقفه المنحاز اكثر للصهيونية في اسرائيل. هذا ما قد يفسر موقفه "المتأرجح" من نتنياهو الذي يمثل ليس فقط الصهيونية الاسرائيلية بل وإلى حد بعيد الصهيونية في امريكا.
يدرك ترامب أن هذه "المواجهة" التي ابتدأها مع "الدولة العميقة" الأمريكية في فترة رئاسته الأولى، سعيا منه الى خلق "دولة عميقة" منسجمة مع الرئيس( (معه)، يملك فيها صلاحيات حقيقية اكثر وليس مجرد واجهة لتلك القوى ليست سهلة بتاتا، لكنه يؤمن أنه بذلك النمط الجديد من العلاقة بين الدولة العميقة والرئيس، ستكون الولايات المتحدة اكثر قدرة على مواجهة "خصومها" المتمثلين أساسا بالصين.
خسر ترامب تلك المواجهة في فترة رئاسته الأولى، وشُنت عليه حملة شعواء، و"رُتبت" له عشرات القضايا أمام القضاء الأمريكي (المستهدف من قِبله ايضا)، ووصل الأمر الى محاولة اغتياله، وقد يكون في ذهنه أن مسألة اغتياله سواء معنويا أو جسديا ما زالت قائمة. ربما يفسر ذلك، أو على الأقل قد يساعد ذلك في تفسير إقدامه على التوقيع على كشف الوثائق المتعلقة باغتيال الرئيس جون كنيدي (وآخرين) حيث تُتّهم "الدولة العميقة" بذلك، وكأن هذا الكشف يعبر عن خشيته من أن يلقى مصير كنيدي، كما قد يشكل له نوعا من الحماية.
ترامب وإسرائيل
منذ ساعات رئاسته الأولى أبدى ترامب وقوفه الكامل الى جانب اسرائيل، لا بل مع الجهات الأكثر يمينية وتطرفا فيها، فبالاضافة الى قيامه بتعيين غلاة الصهاينة في المراكز المتقدمة في إدارته، أصدر أمرا برفع الحظر عن بعض المستوطنين الذي أقره سلفه في ما يتعلق بدخولهم للولايات المتحدة، وهدد كل من يعادي "السامية" و"يتعاطف" مع حماس من الامريكيين ردا على الموقف الإيجابي الشبابي والطلابي الأمريكي من فلسطين، وأوقف "المساعدات" الأمريكية للآخرين واستثنى اسرائيل ومصر من ذلك، كلٌ لاعتباراته طبعا.
ترامب وإسرائيل يشبهان بعضهما الى حد بعيد. إننا لأول مرة في التاريخ كما اعتقد أمام شخص لا يشبه شخصا آخر إنما يشبه "دولة"، وأمام دولة لا تشبه دولة أخرى إنما تشبه شخصا. انهما يتفردان في الايغال في العنصرية والشعور بالتفوق، والجشع والاستخفاف بالآخرين والتنمر المزمن واللامبالاة تجاه العالم، وبناء على هذه الصفات لديهما الإستعداد للذهاب "بضمير مرتاح" لارتكاب أي شيء ضد أي أحد.
قد يكون هذا التشابه بين ترامب وإسرائيل هو السر وراء "النكهة" الخاصة للعلاقة بينهما، لكن العامل الايديولوجي (الديني) يبقى الأساس وراء تلك العلاقة و المقرر الأول لموقف ترامب من اسرائيل، ثم يأتي لاحقا العامل الاستراتيجي. واذا ما اضفنا الى ذلك ما تحدثنا عنه من رغبته في الاستقواء "بالصهيونية" الاسرائيلية في مواجهته الداخلية مع الدولة العميقة، نفهم خطواته تجاه اسرائيل منذ رئاسته الأولى عندما نقل السفارة الى القدس، واعترف بضم الجولان السوري، واستعداده الآن للتماهي مع نتنياهو والصهاينة الأكثر تطرفا في "توسيع" مساحة اسرائيل، وإلغاء القضية الفلسطينية، و"محاسبة" المحاكم الدولية، وتبرير جرائم اسرائيل.
ترامب والآخرين
أعاد ترامب تصنيف الآخرين بالنسبة له ولأمريكا. فهو يضع اسرائيل أولا للاعتبارات التي ذكرناها، ويأتي ثانيا الانجلو ساكسون ثم الآخرون.
عند هؤلاء الآخرين يغلب منطق الشركة على منطق الدولة، فيختفي مفهوم التحالف والصداقة ويبرز دور الشريك. في الشركة لا يوجد اصدقاء أو حلفاء بل شركاء وموظفين، وهكذا هي الدول عند ترامب، إما شريك مفيد له ماديا أو موظف ينفذ "تعليماته".
في هذا الإطار أعاد ترامب وجهة نظره في أمور بدت لسنوات من أساسيات السياسة الأمريكية، مثل حلف الناتو الذي نشأ على قاعدة حماية امريكا لحلفائها كونهم كذلك. لكن ترامب يريد الآن حلفا مربحا يتحول فيه الحلفاء الى شركاء مربحين أو غير مكلفين على أقل تقدير، والطرف الذي لا يريد "المساهمة" المادية بالشكل الذي يراه ترامب لا ضرورة لبقائه في الحلف.
لم يكتف ترامب بتصنيف الآخرين حسب فائدتهم "المادية" للولايات المتحدة، بل أخذ "يبيع" تلك الأهمية للمعنيين "بشرائها". المثل الأفضل على ذلك هو طلبه خمسمائة مليار دولار من السعودية مقابل جعلها الدولة الأولى التي يزورها. بامكاننا اعتبار ذلك بداية "لمزاد" يدفع فيه المعنيون ثمنا ليكونوا الثاني والثالث.. في زيارته لهم، وقد يطور ذلك المزاد ليجعله بالاتجاه المعاكس ايضا، فبعد أن حظي نتنياهو بالمرتبة الأولى في زيارته "المجانية" للولايات المتحدة للاعتبارات التي ذكرنا، قد يفتح باب الزيارات مدفوعة الثمن أمام الراغبين في ذلك.
العالم.... مصير مجهول
بمجيء ترامب، بهذه الصفات التي يحمل، كرئيس للولايات المتحدة، وبهذه الصفات التي تحمل الدولة نفسها، بتنا في نظام عالمي منزوع الضمير، تلاشى فيه آخر ما تبقى من قيم انسانية. نحن أمام أكبر مسؤول عن العالم لا يملك أي حس بالمسؤولية، كل ما يدركه أنه الأقوى، وما دام كذلك يحق له أي شيء. والمشكلة أنه فعلا الأقوى لكنه الأكثر رعونة، فأي مصير للعالم يمكن تخيله في ظل هذه القيادة؟!.
هذا الشكل من النظام العالمي يملك كل مبررات زواله، فهو اضافة الى خلوه من القيم وافتقار قيادته الى العقل، مرشح لحالة عميقة من اللا استقرار، حيث يشن قائده "حربا" على الجميع. لكنه في نفس الوقت عصي على التغيير بسبب جبروت قيادته وضعف الأدوات المرشحة لتغييره.
نحن أمام حالة استعصاء عميقة تتطلب من القوى "الانسانية" في العالم العمل على تجاوزها بالسرعة الممكنة، فالبشرية لم تعد فقط أمام سؤال مصير النظام العالمي، بل مصير العالم نفسه الذي بات على كف "رئيس".
دلالات
عبدالرحمن الخطيب قبل 3 دقيقة
على العرب وخاصةالفلسطينيين التوحد امام هذا الفيل الهائج ليس هذا فقط بل على كل دول الجنوب كذلك التوحد يا شعوب العالم انهضوا
المزيد في أقلام وأراء
حرب ترامب الاقتصادية
حمادة فراعنة
منظمة التحرير وشرعية التمثيل الوطني في الميزان الفلسطيني !!
محمد جودة
عندما يتحمل الفلسطيني المستحيل
حديث القدس
المشهد الراهن والمصير الوطني
جمال زقوت
الخيار العسكري الإسرائيلي القادم
راسم عبيدات
ترامب في خدمة القضية الفلسطينية!!
د. إبراهيم نعيرات
ما المنتظر من لقاء نتنياهو وترامب؟
هاني المصري
زكريا الزبيدي تحت التهديد... قدّ من جبال فلسطين
حمدي فراج
هل وصلت الرسالة إلى حماس؟
حمادة فراعنة
مجدداً.. طمون تحت الحصار
مصطفى بشارات
بين الابتكار وحكمة التوظيف .. الذكاء الاصطناعي يعمق المفارقات !
د. طلال شهوان - رئيس جامعة بيرزيت
الطريق إلى شرق أوسط متحول: كيف نحافظ على السلام في غزة مع مواجهة إيران
ترجمة بواسطة القدس دوت كوم
عيد الربيع يصبح تراثاً ثقافياً غير مادي للإنسانية
جنيباليا.. مأساة القرن
حديث القدس
لقاء نتنياهو- ترمب ومصير مقترح التطهير العرقي ووقف الإبادة
أحمد عيسى
"الأمريكي القبيح" واستعمار المريخ
د. أحمد رفيق عوض
رافعة لفلسطين ودعماً لمصر والأردن
حمادة فراعنة
"ترمب" والتهجير الخبيث!
بكر أبو بكر
تحويل الضفة إلى غيتوهات
بهاء رحال
من أين جاؤوا بنظرية "الضعيف إذا لم يُهزم فهو منتصر" ؟
د. رمزي عودة
الأكثر تعليقاً
من أين جاؤوا بنظرية "الضعيف إذا لم يُهزم فهو منتصر" ؟
استراتجية أم تكتيك؟ تصريحات أبو مرزوق تلقي حجراً في المياه المتدفقة
الرئيس يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لوقف العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية
الاحتلال يفرج عن الدفعة الرابعة من المعتقلين ضمن اتفاق وقف إطلاق النار
اقتحامات واعتقالات في الضفة الغربية
21 اقتحامًا للأقصى ومنع رفع الأذان 47 وقتاً في الإبراهيمي الشهر الماضي
ترامب: الولايات المتحدة ستسيطر على قطاع غزة وتصبح مالكة له
الأكثر قراءة
إعلام عبري: نتنياهو يناقش خطط عودة الجيش الإسرائيلي إلى غزة
الشرطة الإسرائيلية تعتقل 432 عاملا فلسطينيا داخل أراضي 1948
ترامب: لا ضمانات لدي أن الهدنة بين إسرائيل وحماس ستصمد
مستعمرون يقتحمون مبنى "الأونروا" في حي الشيخ جراح
ترامب يبحث الثلاثاء مع نتنياهو سيناريوهات التهجير لغزة واحتمال العودة للحرب
مارتن أولينر يدعو إلى دعم خطة ترامب للتهجير.. "سكان غزة لا يستحقون الرحمة"
استراتجية أم تكتيك؟ تصريحات أبو مرزوق تلقي حجراً في المياه المتدفقة
أسعار العملات
الثّلاثاء 28 يناير 2025 12:16 مساءً
دولار / شيكل
بيع 3.61
شراء 3.6
دينار / شيكل
بيع 5.09
شراء 5.08
يورو / شيكل
بيع 3.77
شراء 3.76
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%55
%45
(مجموع المصوتين 555)
شارك برأيك
العالم على كف "رئيس"