أقلام وأراء
الإثنين 27 يناير 2025 9:29 صباحًا - بتوقيت القدس
"الأيديولوجيا تسقط من جيبي": قراءة في ديوان "في البيت وما حوله" لعبود الجابري
"الأيديولوجيا، تسقط من جيبي". بهذه العبارة المباشرة، يقود الشاعر العراقي عبود الجابري في ديوانه "في البيت وما حوله"، الصادر عن دار الدراويش للنشر والترجمة عام 2021، أفكارنا التي حفظناها وتخذلنا، والتاريخ هذا الذي ليس أكثر من كتب "لتلفيق الأعذار الوحشية"، إلى مساحة فلسفية للمساءلة؛ إذ لا يعْرِفُ الشيء أكثر من تجربته، ووحده العشب، الذي يعرف أجسادنا، سيحترق ويهتف: "تَبًّا لك، ما هكذا يُكتب التاريخ". بهذا، سنكون مدينين للغابة بالكثير من الأشياء، وعكس ما يقول الشاعر في ديوانه أثر من ذيل الحصان، حيث أورَثنا أسلافنا الفؤوس، ولنا في ذمة الغابات حطب تنازلنا عنه.
فهل تسقط الأيديولوجيا من جيوب غير الشعراء أيضًا بصفتهم فلاسفة مجازيون، أم أنهم يخافون كما يقول الشاعر في ديوانه "متحف النوم": "أنا تمثال الملح الذي عاقبه الله بالمطر"، و"أين تذهب هذه الحمامة...؟ حين يمنحها الشجر، عشاً خفيضًا، وجيران لا يحفلون بتاريخها"؟ ما الذي يمكن أن يحل مكان هذه الجثة الهائلة التي نرثها ونشكلها من طين الماضي إن تجرأنا عليها؟ ما الذي سيتبقى في جيوب التاريخ حين نفرغها؟ وهل الفراغ العظيم هو الخوف الذي يخشاه البشر ويهربون منه كنتيجة، وهو ما يعبر عنه الشاعر في إعلانه رغبته النوم في كتابٍ، "صامِتًا مثل حرف مهمل"؟
وهل اللا-فعل، النوم أو اليأس، وسيلة للالتفاف على عملية المحو الممكنة للتاريخ، تلك العملية التي يمكن أن يمارسها الجسد بإخفائه ما كُتب على صفحاته وتغطيته كما يقترح الشاعر - وعلى الأقل، أم أنه إعلان عن اليأس من قدرة الجسد على إنتاج المعرفة: "آن للصوفي أن يتكوَّن مثل كرة اللحم، في إزار الوحيد، ويستعيذ بعض ضلالاته"؟ وبالتالي، هل يمكن أن يُعدَّ الرجوع إلى التاريخ والعودة للنوم بين صفحاته نوعًا من الاستسلام مع الاعتذار العلني عن الثقل الذي يسببه ذلك، وعما يمكن أن يخفيه الجسد من أسطر: "الصفحة التي ستضم جسدي، ستكون ثقيلة، ربما حجبت سطورًا"؟
وهل يمكن أن يصل اليأس إلى عدم اعتبار التاريخ بالضرورة راية لصراعات عمليات الإنتاج والإخفاء بين طبقات في المعنى والمحو، أو طرس قديم يتم كشطه لكتابة أشياء جديدة عليه، بل النظر إليه على أنه تعاقُبات لا دور لنا فيها إلا النوم والاجترار: "قد يبدو عسيرًا أن تنفق وقتك كله في المضغ، ذلك ما يُدعى الاجترار يا صاحبي، لكنك لم تنتبه إليه... عندما كنت تجتر الناس والأماكن والسنوات"؟
يزداد ثقل الأسئلة من خلال تلاعب الشاعر بالزمن والحركة في اشتغاله على ثيماته. إذ أنه وبينما تَظهر ثقته بأن للزمن كلمته الأخيرة، الزمن الذي ليس نحن، ولا نتحكم به: الساعة "وحيدة" و"لا تنوي البقاء في معصم الوحيد"، تتأتى الغواية في البطء الشديد في حركته بين التاريخ كمنتج سلطوي يدار بشكل ما من قوى أعلى، ثم إهماله (إهمال مساءلته) بذريعة عدم إخلاله بالمعنى، وبين الجسد كبنية أدنى، وليس من رغبة الشاعر بالتعامل مع قوة ثقل الجسد على التاريخ والماضي والتي تتأتى من مزاحمتهما له على الحيز الذي قاما باستلابه منه، ومن الصراع التاريخي على المعرفة التي يمكنه أن ينتجها، وتداولية السلطة.
عادة ما تؤدي هذه المراوحة بين الحديث عن سلطتين تتشكلان وتتشاكلان لصناعة المعنى بالمحصلة، إلى صراع، لكن الشاعر لا يقارب هذا الطرح على إطلاقه، بل يقفز عن سيرورة التصادمات إلى إعلانه الانحياز إلى حقيقة بسيطة مفادها أن الجسد في تحولاته المتواصلة ما بين الإخفاء والإنتاج يتحول إلى "مخطوط قديم"، أي إلى تاريخ، ورغم أن هذا بحد ذاته انتصار، إلا الشاعر يعود إلى الوراء معلنا أن هذا التاريخ ليس سوى يوم مكرر: "ستعثر على من يعيِّرك باليوم المكرر"، و"الساعات "تعلن بأسى، كل يوم، عن حلول الساعة العاشرة"، تلك التي تعني أن النهاية لم تصل وربما لن...
هناك تناقض ما! هذا الاستسلام الصادم، اليأس، يأتي متناقضًا مع فكرة تصنيف الشاعر للمتلقّين: وكما أن للتاريخ جمهوره "قارئ عجوز"، فإن للشاعر جمهوره أيضًا: "دودة جائعة"، "الذباب"، و"البكتيريا الهوائية"، ودم الشاعر الذي سيجف ويتحول إلى "مخطوط" أصفر، ثمين، ونادر. هذا التناقض في الطرح بين الصناعة كحركة نشطة والنوم كلا- فعل يتحول إلى سؤال عن التاريخ لا كسيرة للأجساد سواء الجسد الجمعي أو الذات المفردة وطرق تكونها وتأثيرها، بل لاستعراض عمليات الفرض والتلقي السلبية. بهذا الانتصار الاستعراضي الذي يحفُّ الروح ويشذبها ببطء وأناةٍ من خلال ما لا تمارسه الأجساد ومعرفتها، بل من خلال الاستسلام، تثار أسئلة كثيرة عن عدم قتالنا حتى لو حفاة: "لم أصلح كسرًا في النافذة" وحيث كان "الشرخ، بحجم يدي الضئيلة، يدي الخاوية"، وحيث السكين الوحيد الذي تمتلكه في عرض البحر هو فرصتك الوحيدة لا للنجاة، بل لتعلن أنك تملك ما يجعلك تغرق".
إنه اليأس. وفي اليأس، حتى اللغة لا تتسع: "اللغة أكثر ضآلة من الكائنات التي تريد أن تسبح في ملكوتها"، وحتى الحب يصبح هامشيًا: "نادِرًا ما أفكر بالكتابة عنك"، وعندما نحاول العودة إليه، الحب أو الأمل على اعتبار أنني "وإن كنت محاطًا، بكل ما يحجب عني الضوء، إلا أنني شرفة كذلك"، تنغلق الدائرة. فنحن لا نستطيع سوى إفراغ الماضي في جيوب من نحب: "الحروب التي تملأ جيوبي، المدن التي انطفأت في جواز السفر، وطريقتي في تقبيل المصاحف، عندما نمت في المساجد". الحب في هذا الخراب، يصبح متحفًا لأحفور كبير اسمه الماضي، والاتحاد وهمٌ بأجنحة عريضة. وبهذا، بالماضي وحده، يمكن أن نقتل الشتاء ونحن بلا أسلحة وأن نصل بكل خرابنا "إلى الرصيف المقابل"، فلا "وسيلة تمنع الخبز، من أن يغدو يابسًا".
هل تشي هذه الانهيارات والتناقضات والإحباطات بأنها طريقتنا في قول الأشياء ما يجعلها تبدو مختلفة، فيما هي في الحقيقة شيء واحد: "قلت لحبيبتي تعالي... نما حولها الكثير من العشب الغاضب، كان عليَّ أن أقول لها، أنا قادم، لينمو حولها العشب ذاته، ويغض بصره". وكيف تكفُّ الأسئلة عن الجَرْح ما دمنا نتحول إلى تاريخ ضمن سيرورة جمعية، ونتجول في الماضي تائهين بلا ثقل سوى الوزن الذي لا نرى سواه والخوف والاعتذارات، رغم أننا نمتلك كل الذي لم يأتِ بعد، كل هذا الذي ضد الخواء؛ الزمن.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
جائزة الشارقة في المالية العامة: أهدافها وقِيمها، وتجربة فلسطين بالفوز بالمركز الأول
بقلم: أ. هاني أبو سنفة.
المجد يركع لكم…
حديث القدس
العودة إلى الشمال
بهاء رحال
رسالة مفتوحة للرئيس والقيادات الفلسطينية
جمال زقوت
مسيرة شارع الرشيد للعودة
حمادة فراعنة
إدارة ترمب في الشرق الأوسط ، وعود زائفة ورؤية عقائدية فاشية ودينية مشوهة
مروان إميل طوباسي
ترمب والتهجير والقادم الأسوأ!
محمد جودة
معادلة: أمام هزيمة مركبة معقدة تنخر العظم والعظمة
حمدي فراج
تشميلة بني غزة
جهاد حرب
أزمة دستورية في إسرائيل
إسماعيل مسلماني
إنه الفلسطيني يا غبي!
ابراهيم ملحم
رسالة إلى ترمب .. لن يرحل الشعب
حديث القدس
تأملات حداثية في معجزتي الإسراء والمعراج
مسعود ريان
يتعاملون مع مسألة التهجير كأنها عمل خيري
د. أحمد رفيق عوض
الأردن للأردنيين وفلسطين للفلسطينيين
حمادة فراعنة
الضفة الغربية بين "السور الواقي" و"السور الحديدي"
أحمد عيسى
عندما "تُحرَّم" الأرض على أهلها ؟
عطية الجبارين
الصفقة اليوسفية بعد أن حصحص الحق
وليد الهودلي
بين اتفاقين... إغراء المقارنة وغوايتها
عريب الرنتاوي
وللحرية باب
بهاء رحال
الأكثر تعليقاً
دروس "الطوفان" وارتداداته (4) ..سوريا... "فرحة" اللحظة و"قلق" السياق
بين يدَي الذكرى العطرة
الاحتلال يمنع عائلة أبو حميد من السفر عبر معبر الكرامة للقاء أبنائها المبعدين إلى مصر
أزمة غزة والمصير المجهول بين التحديات الداخلية والمخطط الاستعماري لإسرائيل
نتنياهو: حماس هم النازيون الجدد ونحن ملتزمون بهزيمتهم نهائيا
مسيرة للاحتلال تقصف مخيم بلاطة خلال تشييع جثمان الشهيد حشاش
إعلام إسرائيلي: نتنياهو يغادر السبت إلى واشنطن
الأكثر قراءة
مغازلة أبو مرزوق لواشنطن استراتيجية أم تكتيك؟
الأشقاء نصر ومحمد وشريف أبو حميد يتنسمون الحرية وتم إبعادهم خارج فلسطين
وزارة الداخلية بغزة توضح بشأن عودة النازحين إلى الشمال غداً
وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يوافقون على تفعيل مهمة المراقبة في معبر رفح
قائمة الأسرى الذين ستُفرج عنهم "إسرائيل" اليوم ضمن صفقة التبادل
إعلام مصري: الأسرى الفلسطينيون الـ70 المبعدون يتجهون إلى القاهرة
"أنا بخير في غزة".. سرايا القدس تبث مقطعًا مسجلًا للمحتجزة أربيل يهود
أسعار العملات
الثّلاثاء 28 يناير 2025 12:16 مساءً
دولار / شيكل
بيع 3.61
شراء 3.6
دينار / شيكل
بيع 5.09
شراء 5.08
يورو / شيكل
بيع 3.77
شراء 3.76
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%55
%45
(مجموع المصوتين 513)
شارك برأيك
"الأيديولوجيا تسقط من جيبي": قراءة في ديوان "في البيت وما حوله" لعبود الجابري