Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

أقلام وأراء

الإثنين 20 يناير 2025 11:53 صباحًا - بتوقيت القدس

الشعوب لا تهزم.. معركة تنتهي وأخرى تبدأ


الحرب على غزة ليست مجرد مواجهة عسكرية أخرى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل؛ إنها تأكيد جديد لحقيقة تاريخية مفادها أن الشعوب التي تسعى للحرية لا تهزم، ولا تتوقف مهما بلغت التضحيات، أو كان القمع عنيفاً، ولا يمكن تناول أي حرب أو معركة دون جدل حول مفاهيم النصر والهزيمة، خاصة في سياق معقد كهذه الحرب، فلكل طرف رؤيته وتفسيره الخاص؛ فهناك من يراها نصراً يحمل إشارات للصمود والتحدي والمضي قدماً، وهناك من يرى في نتائجها من التضحيات الجسيمة والخسائر الثقيلة ما يجعل أي وصف خارج نطاق "الهزيمة" محط تساؤل.


ومع ذلك، يبقى من المهم تجاوز هذا النقاش إلى فهم أعمق لمفاهيم النصر والهزيمة كما سجلها التاريخ ورواده، فهذه الحرب، التي استمرت أربعمئة وسبعين يوماً، هي حلقة في سلسلة لا متناهية من نضال الشعوب ضد الاحتلال والاستعمار والهيمنة عبر التاريخ، وما أن تضع الحرب أوزارها، حتى تبدأ معارك جديدة، وفي حالتنا، معارك لا تقل أهمية؛ معارك متعددة الأبعاد، أولها الإغاثة والإعمار، وليس آخرها الرواية الفلسطينية.


فالهزيمة، كما يراها المفكرون، ليست مجرد خسارة عسكرية أو سياسية، بل حالة نفسية وفكرية أعمق، تتجلى بفقدان الإرادة أو التخلي عن الأمل، فالمهاتما غاندي يرى أن الهزيمة تبدأ من الداخل، حين تفقد الشعوب إيمانها بعدالة قضيتها، بينما يصورها غسان كنفاني بأنها التخلي عن الأمل، وليست السقوط المؤقت، أما فرانز فانون، فيرى أن الهزيمة تتشكل عندما تفقد الشعوب ثقتها بنفسها، مشيراً إلى أن الحرب ليست معركة واحدة، بل سلسلة من النضالات المستمرة.


الشعب الفلسطيني، رغم كل التضحيات والدمار، يثبت في كل مرة صموده وإيمانه بعدالة قضيته، ما يجعل الحديث عن هزيمته أمراً بعيداً عن الواقع، والتاريخ مليء بالأمثلة والشواهد على أن الشعوب تحت الاحتلال قد تقهر مؤقتاً، لكنها لا تهزم طالما بقيت متمسكة بحقوقها وأهدافها، من الجزائر إلى الهند، ومن جنوب إفريقيا إلى فيتنام، وغيرها من الشعوب التي انتصرت رغم القمع والتدمير، أما الشعب الفلسطيني نفسه، فهو يمثل نموذجاً حياً للصمود، عبر رحلة نضاله المستمرة من ثورة البراق، ولن يكون آخرها هذا الصمود الأسطوري في غزة.

فعلى مدار أكثر من سبعة عقود، لم تتمكن إسرائيل من كسر إرادة الفلسطيني، في غزة، كان صمود الفلسطينيين عامة، وسكان شمال القطاع خاصة، العامل الحاسم في إفشال خططه عامة و"خطة الجنرالات" خاصة، وإسقاط أهداف الحرب -المعلنة - على الأقل، ورغم الدمار الممنهج للبنى التحتية في غزة وارتفاع أعداد الشهداء من المدنيين، لم نر استسلاماً، هذه الإرادة هي التي حولت الألم إلى دافع للصمود، فإسرائيل حتى وإن امتلكت القوة العسكرية، لا تستطيع كسر إرادة الشعب الفلسطيني.


ومقابل هذه التضحيات الجسيمة، لا بد من النظر إلى المعادلة من طرفها الآخر، فرغم تفوقها العسكري والتكنولوجي، تكبدت إسرائيل خسائر كبيرة أيضاً، ودفعت أثماناً لم تعتد عليها، بعضها فقط ما هو معلن، وهذه الخسائر تتجاوز الجانب المادي لتصل إلى جوانب سياسية وأمنية واستراتيجية، فما قبل السابع من أكتوبر مختلف تماماً عما بعده، ففضلاً عن الخسائر البشرية والمادية التي طالت الجيش الإسرائيلي، وتكاليف تشغيل منظومات الدفاع الجوي، واستدعاء الآلاف من الاحتياط، والتكاليف المباشرة للحرب وخسائر البنى التحتية والخسائر الاقتصادية الكبيرة جراء إجلاء السكان وإغلاق المنشآت الحيوية الاقتصادية، فقد طالت الحرب نظرية الأمن الإسرائيلية، وكشفت عن ثغرات تكنولوجية ومادية وبشرية، وأظهرت فوضى وفساداً في منظومة الأمن، وأظهرت الانقسامات السياسية بين الحكومة والمعارضة، بل وعمقتها بسبب إدارة الحرب وتداعياتها، كما أوقفت قطار التطبيع، وجعلت مستقبله أكثر تعقيداً، بل وحصرته – إن تم – بالساسة دون الشعوب.


وفوق ذلك كله، وثقت هذه الحرب الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة للقانون الدولي والدولي الإنساني، وأثارت غضباً عالمياً قوض الرواية الإسرائيلية التي كانت تهيمن على الإعلام العالي، وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في ذلك، ما أودى بجهود أكثر من سبعة عقود لبناء رواية، قدمت إسرائيل كـ"واحة الديمقراطية" الوحيدة في محيط من الفوضى والفساد في الشرق الأوسط، كما أبرزت أصواتاً في الغرب، خاصة بين الشباب والجماعات الحقوقية، ورأينا وسمعنا انتقادات علنية، ومطالبات بمحاسبة إسرائيل، وتزايدت الضغوط على الحكومات الغربية لتغيير سياساتها التقليدية تجاهها، وقد برز ذلك على إثر التغطية الإعلامية الواسعة لجرائم الحرب في غزة، كما تزايدت الدعوات لمقاطعتها ومقاطعة داعميها، دولاً وشركات عابرة للحدود، بل وفرضت عقوبات عليها بسبب جرائم الحرب المرتكبة في غزة، واتسعت رقعة التظاهرات الشعبية والتعاطف مع الفلسطينيين عربياً وإسلامياً، وحتى في قلب عواصم الغرب، فتقدمها الشباب وطلاب الجامعات، كما اتسعت حملات المقاطعة، وأظهرت أن القضية الفلسطينية لا تزال قضية مركزية، بل وأعادتها إلى صدارة المشهد الدولي.


استراتيجياً، أظهرت الحرب تطوراً في قدرات المقاومة الفلسطينية العسكرية، ونقلة نوعية في استراتيجياتها وتكتيكاتها، وكشفت عن دعم شعبي جارف، ما يشكل تهديداً متزايداً للأمن الإسرائيلي مستقبلاً، وهذا يفتح الباب أمام حالة مستدامة من الاستنزاف على كافة المستويات، وخاصة الأمنية والاقتصادية.

 

من جانب آخر، لا يختلف اثنان على أن هذه الحرب شهدت أعلى مستوى من جرائم الحرب الموثقة، بما في ذلك استهداف المستشفيات والمدارس والجامعات والطواقم الطبية والإنسانية والصحفية، فضلاً عن استهداف النساء والأطفال والبنى التحتية الأساسية من مساكن ومؤسسات وشبكات المياه والكهرباء والاتصالات، حتى الشجر والحجر لم يسلم، وتكميم الأفواه محلياً وعالمياً، وهذه الجرائم شكلت انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، وشهدت الحرب سقوطاً أخلاقياً مدوياً للنظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، فشاهدنا دولاً نادت لعقود بحقوق الإنسان والقانون الدولي، وعملت على عولمة القيم، دعمت الحرب مادياً وعسكرياً، أو بصمتها عن ما كان يحدث، كما رأينا من دعم الحرب بالخفاء، ورأينا من حاول تعطيل آليات العدالة الدولية، ما كشف ازدواجية المعايير والانتقائية في تطبيقها، ورأينا كيف أن الآليات الدولية المسؤولة عن حماية السلم الدولي مقيدة، وعاجزة عن القيام بدورها، وكان الفيتو الأمريكي حاضراً حيثما كانت هناك إدانة لإسرائيل. هذا كله قوّض أي مصداقية للنظام الدولي، وشجع إسرائيل على ارتكاب المزيد من الجرائم، دون خوف من المساءلة أو المحاسبة.


عوداً على بدء، وبرغم ذلك كله، وبرغم تباين وجهات النظر هذه، فإن الشعوب تنتصر حين تتوحد، وتنتصر حين تضع خلافاتها جانباً، فغزة اليوم تواجه تحديات هائلة، تتمثل في الإغاثة وإعادة بناء ما دمرته إسرائيل، التي سعت جاهدة وبكل ما أوتيت من قوة، لجعل غزة بيئة غير قابلة للحياة، إلا أن الفلسطينيين أثبتوا على نحو متكرر قدرتهم على النهوض من تحت الركام، المعركة لم تنته بوقف إطلاق النار؛ إذ أن الإغاثة وإعادة الإعمار ومعركة الرواية والسردية الفلسطينية، هي معارك أخرى واستحقاقات يجب أن تدار بحكمة ووحدة، لضمان أن تتحول هذه التضحيات الجسيمة إلى بداية حقيقية لتحقيق حلم الحرية والاستقلال.


علاوة على ذلك، هناك معركة أخرى لا تقل أهمية، وهي محاسبة إسرائيل وقادة الحرب على جرائمهم، سواء عبر محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، أو حتى من خلال المحاكم الوطنية حول العالم.


ومع ذلك، فإن هذه الأهداف لن تتحقق دون موقف فلسطيني موحد، يعيد ترتيب البيت الداخلي على أسس من الشراكة الوطنية، فحجم التضحيات الكبيرة التي قدمها الشعب الفلسطيني يجب أن يترجم إلى مشروع جامع يمثل الفلسطينيين كافة فيما اتفقوا عليه، ووجوب تجديد شرعية المؤسسات الجامعة بالآليات المتعارف عليها، فلقد كشفت الأشهر والسنوات الماضية عن هشاشة دور المؤسسات الجامعة ومكوناتها، وعجزها عن القيام بدور فاعل في القضايا المصيرية، وفي الأوقات الحرجة، ومع ذلك، فإن دروس هذه الحرب تحمل الأمل في أن الإرادة الشعبية قادرة على تجاوز الخلافات، وتحويل هذه المحنة إلى منحة، تعزز صمود الشعب الفلسطيني، وتبقي على قضيته حية في ضمير العالم.

دلالات

شارك برأيك

الشعوب لا تهزم.. معركة تنتهي وأخرى تبدأ

المزيد في أقلام وأراء

١٩-١-٢٠٢٥ يومٌ للتاريخ

حديث القدس

كرامة الفرح الفلسطيني

حمادة فراعنة

حقائق لا نختلف عليها في هذه الحرب

أحمد رفيق عوض

اتفاق الدوحة... ماذا بعد ؟

فوزي علي السمهوري

الحل بالسياسة وليس بالحروب والحلول العسكرية والأمنية

راسم عبيدات

معوِّقات مرحلة الانتقال السياسي السلس في سوريا بقيادة أحمد الشرع

كريستين حنا نصر

الاستعداد لاستقبال الأسرى المحررين: الرعاية النفسية واجب وطني وإنساني

بقلم: د. سماح جبر، استشارية الطب النفسي

وداعاً كارتر أهلاً ترامب

د. دلال صائب عريقات

مقياس النصر والهزيمة في المعارك غير المتكافئة.. طوفان الأقصى نموذجاً

محمد النوباني

بعد الهدنة.. يجب محاسبة مجرمي الإبادة

مجدي الشوملي

الإنجاز الحمساوي

حمادة فراعنة

لحظة ما بعد العدوان

عزام عبد الكريم رشدي الشوا

رأفت صالحة يجسد رسالة الهيئة وروح غزة التي لا تنكسر

د. عمار الدويك

الأمل الأخير للأسرى الأمنيين من فلسطينيي 48

إبراهيم عبدالله صرصور

دروس "الطوفان" وارتداداته(3) انكشاف "الدولة" العربية

د. اياد البرغوثي

ليس بعد الليل إلا فجر مجدٍ يتسامى!

ابراهيم ملحم

"الوظائف الأسرع نموًا بحلول 2030: مستقبل المجالات الأكثر طلبًا"

بقلم : صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي

كيف نحمي أطفالنا من إدمان الذكاء الاصطناعي؟

بقلم: عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي

التحدي الأكبر خلال الهدنة: استعادة مكانة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية سياسية، ومنع الاحتلال من العودة لتنفيذ مخططاته في الابادة والتهجير

وليد العوض

رحلة الجسر تُكلِّف عائلة مقدسيّة ألف دولار

داود كُتّاب

أسعار العملات

الأحد 19 يناير 2025 8:46 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.59

شراء 3.58

دينار / شيكل

بيع 5.09

شراء 5.08

يورو / شيكل

بيع 3.71

شراء 3.7

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%56

%44

(مجموع المصوتين 457)