Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

أقلام وأراء

الإثنين 28 أكتوبر 2024 9:00 صباحًا - بتوقيت القدس

عبء الكبار على أكتاف الصغار: ماذا فعلت الحرب بأطفال غزة؟


بقلم: د. سماح جبر

 

في سياق العدوان المستمر على غزة، تتجلى ظاهرة نفسيةجديدة تتمثل بحرمان آلاف الأطفال من طفولتهم وتحمّل أدوار الكبار بعد فقدان آبائهم وأمهاتهم. لقد خلفت العدوان المستمر على غزة عشرات آلاف الأطفال الذين فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، وما يقارب مليون طفل نازح، مما فرض عليهم التخلي عن اللعب والدراسة ودفعهم إلى الانخراط في مسؤوليات تفوق أعمارهم. في هذه البيئة القاسية، يتحول هؤلاء الأطفال إلى "معيلين صغار" في محاولة يائسة لسد الفراغ الذي خلفه غياب الكبار. لكن ما تحمله هذه الأدوار من عبء نفسي هائل قد يترك جروحًا غائرة في نفوسهم تمتد طوال حياتهم.

 

مشاهد من الواقع المؤلم في غزة

 

في شوارع غزة، تظهر ملامح هذه المأساة اليومية بوضوح؛ فنرى طفلا لا يزيد عمره عن العشرة سنوات يعمل في نقل أكياس الطحيم التي تزن 25 كيلوغرام على كتفيه الصغيرين، ليكسب بالمقابل بضعة شواكل يقتات بها هو إخوته بعد استشهاد والده وفقدان والدته. ونرى آخر يبلغ من العمر اثني عشر عاما يحمل أخاه الرضيع على ظهره باستمرار ويتكفل بإرضاعه ورعايته بعد استشهاد والدته كما نرى طفلة في العاشرة من عمرها تمشي يوميًا لمسافات طويلة لجلب جالوناتالماء الثقيلة وأخرى تحمل أختها العاجزة عن المشي والتي تقربها بالعمر على كتفها بحثا عن مكان آمن. وطفل آخر يواسي أمه الأرملة والثكلى والجريحة والتي لا تستطيع الالتفات إليه، ليشد من أزرها ويهوّن عليها. هذه الأمثلة ليست حالات فردية؛ بل هي صور يومية تعكس واقعًا قاتمًا يعانيه مئات آلاف الأطفال في غزة، الذين حُرموا من طفولتهمواعتمادهم الطبيعي على والديهم تحت وطأة الإبادة التي لم تترك عائلة إلا ومسّتها بسوء وفقدان.

 

الأبعاد النفسية لتحمّل الأطفال أدوار والديهم

 

تؤدي الأدوار المفروضة على الأطفال في ظل الحرب إلى عواقب نفسية معقدة وصعبة التدارك؛ إذ أن الضغط الذي يتعرض له هؤلاء الأطفال هو نوع شديد ومستمر من الإجهاد النفسييتجاوز القدرة الجسدية والنفسية للطفل على التكيف. هذا النوع من الإجهاد يؤثر على نمو الدماغ بشكل سليم وعلى الارتباطات العاطفية السوية لديه. يفقد الأطفال الذين يعيشون في ظل هذا الضغط القدرة على التركيز والتعلم، ويُظهرون ميلاً إلى الانسحاب الاجتماعي، مما يُضعف تطورهم النفسي والمعرفي.

بالرغم من أن إعطاء الأطفال بعض المسؤوليات المتناسبة مع أعمارهم وقدراتهم قد تحسن من ثقته بنفسه وتساهم في تطوره، إلا أن أداء الأطفال لأدوار تفوق أعمارهم يحرمهم من فرصة بناء هويتهم النفسية والاجتماعية بشكل سليم. فبدلاً من استكشاف ذواتهم من خلال التعليم واللعب، يجدون أنفسهم عالقين في مسؤوليات معيشية غير ملائمة لقدراتهم. إذ يعاني هؤلاء الأطفال لاحقًا من صعوبة في تحديد ذواتهم بعيدًا عن أدوار المعيل والراعي التي فرضتها عليهم الحرب.

 

من الجوانب النفسية الأخرى لهذه المعاناة هو كبت العواطف والشعور المزمن بالذنب، حيث يضطر الأطفال إلى كبت مشاعرهم حتى لا يُظهروا الضعف أمام إخوانهم، مما يزيد إحساسهم بالمسؤولية و ويثقل العبء النفسي عليهم. يشعر هؤلاء الأطفال بالذنب كلما عجزوا عن تلبية احتياجات أسرهم، وقد يؤدي هذا الشعور إلى اضطرابات القلق والاكتئاب في المستقبل.

 

كذلك، يتعرض الأطفال لما يُعرف بـ"تطبيع المعاناة"، حيث يصبح العنف والمعاناة جزءًا طبيعيًا من حياتهم اليومية؛ فيجعلهذا التطبيع الأطفال غير قادرين على التعرف على الحياة الطفولية الطبيعية، مما يفاقم من معاناتهم النفسية ويزيد من تعرضهم لمخاطر غير متناسبة مع أعمارهم. على سبيل المثال سمعنا طفلا يقول (الأطفال لا يكبرون في غزة) إجابة على سؤال: ماذا ستفعل عندما تكبر.

 

علاوة على ذلك، فإن الأطفال الذين يقومون بدور الرعاة داخل أسرهم يعانون صعوبات في بناء علاقات صحية في المستقبل. إذ ترتبط لديهم مفاهيم الحب والرعاية بتحمل الأعباء الثقيلة، مما يجعلهم إما يُفرطون في العطاء، أو يتجنبون الانخراط في علاقات عاطفية خشية الوقوع في فخ المسؤولية من جديد.

 

صعوبات التدخل النفسي تحت القصف

 

في ظل هذا الواقع المؤلم، يصبح التدخل النفسي ضرورة ملحة، ولكن تنفيذه في بيئة تتعرض للقصف والحصار أمر بالغ الصعوبة. لا يمكن تقديم الدعم النفسي بشكل فعال تحت القصف المستمر، إذ يُحرم الأطفال من بيئة آمنة تتيح لهم استيعاب الصدمات والتعافي منها. كما أن انقطاع الكهرباءوالانترنت والدمار الهائل الذي يلحق بالبنية التحتية يُعطل فرصة تقديم المساعدة بشكل فعال من خارج القطاع.

 

وحتى عندما تتاح الفرصة لتقديم جلسات علاج نفسي، يجد المعالجون صعوبة في تحقيق تقدم مستدام بسبب استمرار حالة الخوف والجوع والنزوح وعدم الاستقرار. إذ لا يمكن للطفل أن يتعافى من صدمة فقدان والديه بينما يظل مهددًا بالموت أو التهجير في أي لحظة. ورغم أهمية برامج العلاج النفسي، فإنها تحتاج إلى التكامل مع جهود مجتمعية ودولية توفر الحماية للأطفال وتُعيد لهم شعور الأمان الذي فقدوه.

 

سبل التدخل والدعم النفسي والاجتماعي

 

لتخفيف معاناة هؤلاء الأطفال، يجب تقديم دعم شامل يعيد لهم دورهم الطبيعي وتوازنهم النفسي والاجتماعي. إلى جانب العلاج النفسي، يتطلب تخفيف العبء عن الأطفال تقديم مساعدات مالية مباشرة للأسر المتضررة وتشجيع أفراد المجتمع على تكفّل هؤلاء الأطفال بالرعاية، لمنع الأطفال من الاضطرار إلى العمل في سن مبكرة. كما يجب إشراك المجتمع المحلي في تقديم الرعاية والوصاية على هؤلاء الأطفال. يمكن تدريب أفراد المجتمع على تقديم الدعم النفسي للأطفال بالإضافة إلى إنشاء مراكز مجتمعية تُوفر للأطفال أنشطة رياضية وفنية تساعدهم على التعبير عن أنفسهم. كما ينبغي توفير بيئات تعليمية آمنة تُعيد دمج الأطفال في المدارس وتُعوّض الفاقد التعليمي الناجم عن الحرب. ويجب أن تتكامل هذه الجهود مع حملات دولية تضغط لإنهاء الإبادة وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة.

 

إن ما يظهره أطفال غزة من "قوة" في تحمل الأعباء ليس دائمامدعاة للفخر، بل قد يكون صرخة استغاثة تعكس عمق المعاناة التي يعيشونها. يحتاج هؤلاء الأطفال إلى دعم حقيقي يعيد لهم طفولتهم المسلوبة، ويوفر لهم الفرصة للنمو الطبيعي في بيئة آمنة تُحترم فيها حقوقهم الأساسية. إن استعادة طفولتهم ليست ترفًا، بل هي ضرورة ملحّة لضمان مستقبل سوي للمجتمع الفلسطيني.

 

د. سماح جبر – طبيبة نفسية ومستشارة في الصحة النفسية، ناشطة في قضايا حقوق الإنسان، ورئيسة وحدة الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية.

دلالات

شارك برأيك

عبء الكبار على أكتاف الصغار: ماذا فعلت الحرب بأطفال غزة؟

طولكرم - فلسطين 🇵🇸

أجياد محمود شرقية قبل 5 شهر

من الصعب شرح أو وصف عن ماذا جرى للأطفال،إذ أنهم لم يعودوا صغاراً كما نقول ،فلم تظهر ملامح الطفولة عليهم،إن الألم الذي يشعرو به من الصعب وصفه ،الألم الحقيقي عندما تراهم يبتسمون فهم

المزيد في أقلام وأراء

هل آن أوان الانصياع للإرادة الشعبية؟

بقلم: جمال زقوت

قمتا الاهتمام

حمادة فراعنة

المال بين التوظيف للتحرير والاستثمار في المأساة

أمين الحاج

ترامب ونتنياهو في مواجهة الإنسانية

بهاء رحال

هل ستنجح مخرجات قمة القاهرة الثلاثية لوقف الحرب في غزة؟

كريستين حنا نصر

الفلسطينيون أمام مفترق طرق

علي الجرباوي

لا للبلطجة والهيمنة الاقتصادية

بقلم السفير تسنغ جيشين مدير مكتب جمهورية الصين الشعبية لدى دولة فلسطين

كيفية تحقيق السلام الإسرائيلي الفلسطيني

د. غيرشن باسكن

حرب المستوطنين في الضفة

بهاء رحال

مجزرة سيارات الإسعاف:عندما يدفن الجنود الجثث في مقبرة جماعية فهذه ليست فوضى بل سياسة

اقتحام بن غفير للمسجد الأقصى

سري القدوة

هل ستغير "حرب غزة" وجه السياسة الفلسطينية؟

أمين الحاج

الاستيطان.. أداة إبادة سياسية في الضفة

د. دلال صائب عريقات

الشرق الأوسط الذي نحن نريد

عطية الجبارين

فاضل الربيعي وتفكيك السردية التوراتية

نبهان خريشه

اتفاق قسد و دمشق ضمانة لسيادة سوريا جديدة موحدة

كريستين حنا نصر

“حين يستيقظ الذكاء: يوم في حياة موظف يقوده الذكاء الاصطناعي”

تريند جيبلي وكنز المعلومات الصورية

إعادة ضبط ساعتك الحيوية بعد رمضان: دليلك لاستعادة التوازن الصحي

بقلم: د. سماح جبر

الرواية القناع.. توازي السرد في "ذاكرة في الحجر" لـ كوثر الزين

أسعار العملات

الأربعاء 09 أبريل 2025 12:30 مساءً

دولار / شيكل

بيع 3.79

شراء 3.78

دينار / شيكل

بيع 5.35

شراء 5.33

يورو / شيكل

بيع 4.18

شراء 4.17

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%55

%45

(مجموع المصوتين 1012)