أقلام وأراء
الخميس 13 يونيو 2024 9:06 صباحًا - بتوقيت القدس
التعليم الجامعي بين المهارات والشهادات وسوق العمل
تلخيص
إن كتابة مقالة عن موضوع شائك تشبه الركض في ماراثون وتتطلب جهداً ووقتاً وانضباطاً وتركيزاً. شاركت في الأيام والأسابيع الأخيرة في نقاش عن التعليم الجامعي وسوق العمل، وقرأت مقالات متعددة عن الموضوع نفسه، وفي هذه المقالة سأطرح بعض الأفكار حول موضوع الجامعات، وسوق العمل والشهادات، والمهارات لأنه أصبح جديا ومقلقا وبحاجة إلى نقاش على أعلى المستويات. وهذه دعوة للاشتباك الفكري ودفع أصحاب الرأي والقرار والمسؤولين والمثقفين لإعادة النظر في التخصصات المكررة في الجامعات، وتقديم تخصصات تخاطب العصر، وتلبي حاجة الفرد و المجتمع. وإذا لم تقم الجامعات بطرح تخصصات تخاطب المستقبل فإنها تزرع بذور فنائها. وأقول: لكي تبني الطالب، عليك أن تبني نفسك أولاً، فليس كل من يحمل شهادة مثقفاً، وليس كل باحث مثقفاً، حتى لو كانت أبحاثه بالعشرات، فالمثقف هو الذي يشتبك مع قضايا المجتمع المختلفة.
لا أحد يُنكر أن التعليم الأكاديمي هو الطريق لبناء المجتمع وطريق المستقبل، ويعّد متطلباً أساسياً في للحصول على وظيفة، ولا يمكن لأحد أن يمارس المهنة كالمحاسبة والمحاماة والتعليم دون الحصول على شهادة في ذلك التخصص، ولا يمكن الاستغناء عن الشهادة، ولا ينظر في السيرة الذاتية لمقدم الطلب إذا لم تكن لديه شهادة. إن التركيز هنا على الشهادة، وتجاهل المهارات والأخلاقيات المطلوبة لكل مهنة مع أن الشهادة الجامعية هي عبارة عن ورقة تقول إن الطالب حصل على شهادة في موضوع كذا من جامعة كذا بعد إنهاء عدد ساعات مطلوبة لذلك التخصص، ما خلق فجوة بين الخريجين واحتياجات سوق العمل وأصبح هنالك بطالة لحملة الشهادات بكافة التخصصات، وببساطة نقول أن الشهادة هي الطريق الوحيد للحصول على وظيفة ما، حتى الآن.
وبالرغم من التطور الكبير في مجال التعليم الجامعي، والنقلة النوعية في البرامج والتخصصات، فإنه حان الوقت لإعادة النظر في كل مكونات العملية التعليمية، والتخصصات والبرامج والمدخلات والمخرجات وتحديد الاحتياجات المطلوبة للفرد والمجتمع.
الاعتماد على الشهادة الجامعية في التوظيف أصبح يواجه الكثير من الأسئلة، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال التقليل من قيمة الشهادة، ولكن لا بد من مواءمة التخصصات والشهادة مع المهارات وسوق العمل، فمثلا عندما سئل الطلاب في المدارس لماذا تكرهون المدرسة؟ قالوا: إنها بدون فائدة، فحملة الشهادات بدون عمل وفي الشوارع. وهنا لا بد من التذكير أن الثقافة المجتمعية تلعب دورا كبيرا في ذلك لأنه ينظر إلى التعليم المهني على أنه أقل أهمية من التعليم الأكاديمي. يقول الإمام محمد عبده: إن فكراً يكون مقيداً بالعادات، مستعبداً بالتقاليد، هو فكر لا شأن له ولا حياة، أما ابن الجوزي فيقول: إن في التقاليد إبطالاً لمنفعة العقل لأن العقل إنما خلق للتأمل والتدبر.
وهنا يجب الإشارة إلى أن قانون الخدمة المدنية الفلسطيني يشترط الحصول على شهادة للترقية في الوظيفة، وبدون شهادة يبقى الموظف الذي لا يحمل شهادة جامعية بدون ترقية حتى نهاية خدمته. فقط يمكن أن يصبح مؤهلا للترقية إذا حصل على أي شهادة جامعية حتى لو لم تكن هذه الشهادة لها علاقة بوظيفته الحالية. وأقول هنا: شهادات بلا مهارات كشيكات بلا أرصدة، وما أجمل ما قاله معلم سنغافوري: "كان علي أن لا أتعلم فكرة أن التدريس يتعلق بمحتوى مادتي أو الكتاب، كان علي أن أتعلم أن التدريس يتعلق بتفكير الطلاب ومهاراتهم"، وهنا أقول: إن الكتاب الذي لا يناقَش مع الطلاب يفقد قيمته.
وظهرت مؤخراً مخاوف جديدة تتعلق بفقدان الوظيفة، حيث أظهر تقرير البنك الدولي أن ظهور الذكاء الاصطناعي سيؤثر على 40% من الوظائف حول العالم. وفي تقرير لمنتدى الاقتصاد العالمي 2020-2025، سيفقد العالم 85 مليون وظيفة، خصوصا الوظائف التقليدية. وفي ظل هذا الواقع الجديد لا بد من مواجهة التحديات المستقبلية عن طريق تزويد الخريج بمهارات المستقبل، وإعادة تأهيل المعلمين أثناء الخدمة تأهيلا شاملا و تجويد التعليم ليكون قادرا على تحقيق مخرجات عالية الجودة.
من غير المقبول أن تستمر الجامعات بتخريج آلاف الطلاب سنويا، دون مراعاة حاجات المستقبل، ولا بد من حكمة وجرأة في اتخاذ قرارات قد تكون مؤلمة، وتبنّي رؤية تربوية جديدة لأن المبرر الوحيد لوجود أية مؤسسة أو شخص في قيادة مؤسسة هو الرؤية الواضحة قبل فوات الأوان، وقبل أن تضيق الجامعات بما رحبت لأن أصحاب الرؤيا هم القادرون على تشكيل الفرد والمؤسسة ومواكبة المستجدات. وعندما يشار إلى مؤسسة ما بأنها متخلفة فإن هذا يرجع إلى عدم وجود رؤية واضحة من القائمين عليها.
في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرون اجتاحت البلدان العربية موجة لإنشاء جامعات تكنولوجية، ولكنها وللأسف تطرح تخصصات مكررة تطرحها الجامعات التقليدية. الجامعة التي نريد هي جامعة تخاطب المستقبل في برامجها، جامعة لديها رؤية واضحة، تغربل الأفكار، وتزود المتعلم بمهارات المستقبل، جامعة تشجع ثقافة الحوار والإصغاء وتقبل الآخر و الإقناع، وتركز على خضخضة الأفكار، وتغرس التعاون، وتزرع الأمل، مخرجاتها قادرة على التنافس، وتقوم على التنوع والانفتاح والمرونة، وتوفر فرصا لطلبتها لممارسة ما تعلموه. وأقول: لن يستوعب الطلاب 1000 ساعة من المحاضرات ما لم يعيشوه بأنفسهم.
نريد جامعة تعيد بناء الفرد وتشكيله، وتركز على التعليم والتعلم بدل التركيز على الامتحانات، وتركز على تخريج مواطن جيد وليس طالب جيد فقط، تزرع فكرة الفرد للجميع والجميع للفرد، وتركز على العدل و تمقت الظلم، وتزرع المحبة للعلم، وتجذب الطلاب إليها، وتحول الأفكار الإبداعية إلى مشاريع.
وأقول: إن التكنولوجيا تسمح لنا بفعل أشياء كثيرة لا تصدق، وإن التكنولوجيا اليوم صنعها طلاب الأمس وتكنولوجيا الغد سيصنعها طلاب اليوم. يقول فرانسيس بيكون: إن أهم مخرجات التعليم والتعلم إنتاج متعلم منتج شامل باحث عن المعرفة بشكل مستمر من أجل إنتاج أفكار صحيحة يمكن البناء عليها أو استهلاكها بالطريقة السليمة ولديه بنية معرفية ذهنية يستطيع توظيفها في مواقف حياته المختلفة. أما طه حسين فيقول: إن التعليم يجب أن يكون صالحا مصلحا وخصبا ومنتجا وهو ليس كذلك في كثير من الأحيان.
وقد يسأل سائل: ما هي المهارات المطلوبة؟ أقول: هنالك مهارات شخصية مثل إدارة الذات، ووجود رؤية شخصية واضحة، ومراقبة الأداء الشخصي، والتعبير عن الأفكار، وتحمل المسؤولية، والثقة في الأفكار، وهنالك مهارات سوق العمل مثل الاتصال والتواصل، والعمل ضمن فريق لحل المشكلات والمبادرة والتخطيط والإدارة الذاتية والتعلم المستمر ومهارات تكنولوجية ومهارة التحدث والكتابة بلغة أجنبية والاستماع والفهم والتكلم بشكل واضح وتبادل المعلومات والتكيف مع الأوضاع والمواقف.
إن التحسين المستمر أفضل من الكمال المؤجل، فالتغيير والتطوير والتحسين في الأداء والإنجاز لا تأتي إلا من خلال مراجعة جريئة واتخاذ قرارات حكيمة وشجاعة في معالجة الأداء في كافة المجالات.
وأخيراً، أشعر بالفرح والسرور وأنا أتابع طلابا وطالبات يخططون للمستقبل ويعيشون حياة كلها تجارب وتحديات وفي كل يوم لديهم شيء جديد ومعاصر ومبادر، يحبون العمل والإنجاز المبادرة ويحلمون بترك أثر في حياتهم. وفي المقابل أشعر بالشفقة والأسف على بعض الطلاب الذين يكررون أيامهم سواء في العمل أو البيت بروتين وكأن الحياة بالنسبة لهم لا حراك فيها. الوقت ليس متأخرا، انهض الآن، غامر، ابحث، تعلم، ابدأ تجربة جديدة. العالم الآن مفتوح لأصحاب العقول النيرة. وبالرغم من ما تم الإشارة إليه فلا بد من التذكير بمخاطر التعليم المتأثر بالسوق، فالتعليم منذ عصر التنوير هو أحد الفرص القليلة التي تمكن الإنسان من محاربة الجهل والتخلف وخلق عالم أفضل وأن التعليم لا يمكن حصره في خدمة القطاع الخاص وتلبية حاجات مجتمع الأعمال. هل هذا يعني أنه إذا لم يكن هناك طلب في السوق لماذا على الطالب أن يدرس ويبحث في الآداب وعلم الاجتماع وعلم النفس والتربية و الفنون والتاريخ؟؟ وكيف يمكن أن تقنع الأجيال القادمة بأهمية التعليم وأن التعليم هو مفتاح النجاح ما دام هنالك عشرات آلاف الخريجين بدون وظائف (بطالة شهادات)؟ متى ستتوقف النظرة والممارسات التعليمية إلى التعليم كمدخلات لفظية ومخرجات لفظية.
إن التحسين المستمر أفضل من الكمال المؤجل، فالتغيير والتطوير والتحسين في الأداء والإنجاز لا تأتي إلا من خلال مراجعة جريئة واتخاذ قرارات حكيمة وشجاعة في معالجة الأداء في كافة المجالات.
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
منع الدواء والطعام في غزة.. سلاح إسرائيلي قاتل
حديث القدس
رسالة فلسطين في عيد الميلاد
فادي أبو بكر
معركة المواجهة وشروط الانتصار
حمادة فراعنة
احفظوا للمخيم هيبته وعزته وللدم الفلسطيني حرمته
راسم عبيدات
مئوية بيرزيت.. فوق التلة ثمة متسع رحب لتجليات الجدارة علماً وعملاً!
د. طلال شهوان ، رئيس جامعة بيرزيت
لجنة الإسناد.. بدها إسناد!
ابراهيم ملحم
من التغريد إلى التأثير .. كيف تصنع المقاطعة الرقمية مقاومة شعبية فعالة
مريم شومان
الحسم العسكري لغة تبرير إسرائيلية لمواصلة قتل الفلسطينيين
حديث القدس
سعيد جودة طبيب جراحة العظام في مشفى كمال عدوان شهيداً
وليد الهودلي
بوضوح.. الميلاد في زمن الإبادة الجماعية
بهاء رحال
ولادة الشهيد الأول
حمادة فراعنة
(الْمَجْدُ لِلّهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلامُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ)
حديث القدس
اعتقال المسيح على حاجز الكونتينر
عيسى قراقع
ما الذي يحدث في جنين، ولماذا الآن، وما العمل؟
هاني المصري
ما يجري في جنين يندى له الجبين
جمال زقوت
شرق أوسط نتنياهو لن يكون
حمادة فراعنة
في ربع الساعة الأخير للإدارة الموشكة على الرحيل!
حديث القدس
العام الثلاثون.. حلم جميل وواقع أليم
الأب إبراهيم فلتس نائب حارس الأراضي المقدسة
بلورة استراتيجيات للتعامل مع الشخصيّة المزاجية – القنبلة الموقوتة
د. غسان عبدالله
من الطوفان إلى ردع العدوان.. ماذا ينتظر منطقتنا العربية؟ الحلقة الثانية
زياد ابحيص
الأكثر تعليقاً
ما الذي يحدث في جنين، ولماذا الآن، وما العمل؟
اعتقال المسيح على حاجز الكونتينر
دويكات: أجندات خارجية لشطب المخيمات الشاهد الحي على نكبة شعبنا
نابلس: تشيع جثمان شهيد الواجب الوطني الرقيب أول مهران قادوس
من التغريد إلى التأثير .. كيف تصنع المقاطعة الرقمية مقاومة شعبية فعالة
مقتل عنصر من الأجهزة الأمنية في الأحداث المستمرة بجنين
مقتل أحد عناصر الأجهزة الأمنية خلال الأحداث المتواصلة في جنين
الأكثر قراءة
ما الذي يحدث في جنين، ولماذا الآن، وما العمل؟
مقتل أحد عناصر الأجهزة الأمنية خلال الأحداث المتواصلة في جنين
العام الثلاثون.. حلم جميل وواقع أليم
تحديات كبيرة وانغلاق في الأفق السياسي.. 2025 في عيون كُتّاب ومحللين
اعتقال المسيح على حاجز الكونتينر
الكرملين يكشف حقيقة طلب زوجة بشار الأسد الطلاق
يسوع المسيح مُقمّطاً بالكوفية في الفاتيكان.. المعاني والدلالات كما يراها قادة ومطارنة
أسعار العملات
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 9:36 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.65
شراء 3.64
دينار / شيكل
بيع 5.15
شراء 5.13
يورو / شيكل
بيع 3.8
شراء 3.77
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%57
%43
(مجموع المصوتين 306)
شارك برأيك
التعليم الجامعي بين المهارات والشهادات وسوق العمل