يرحل الراحلون وتظل أقوالهم وأفعالهم تشهد على استمرار حياتهم بعد وفاتهم، بما تركوه من علم ينفع وذكر يرفع.
برحيل البابا فرنسيس، تفقد البشرية قامة إنسانية وإيمانية وقيمية رفيعة. لم يخش في القول والفعل لومة لائم، وهو يوجه انتقادات لاذعة للمجرمين على ما ارتكبوا في غزة من جرائم وحرب إبادة مستعرة، معظم ضحاياها من الأطفال.
في العام 2014 زار الحبر الأعظم مدينة السلام، وقال وفعل ما أزعج الاحتلال، الذي حاول عبثاً تغيير درب الآلام الذي سلكه قداسته بجوار الجدار.
استذكاراً واحتراماً وتقديراً للمواقف النبيلة للراحل الكبير، أعيد نشر ما كتبته حينها، عن تلك الزيارة التي كانت بمثابة معركة خاضها قداسته، بما يمتلك من صبر ويقين وإيمان، لم يصل إلى مستواه الكثير من قادة العالمين العربي والإسلامي.
البابا إذ يقود تظاهرة ضد الجدار بصمت جليل!
وقف واستوقف، وبكى واستبكى في لحظة صمت مدوّية، سجلتها عدسات المصوّرين، الذين جاؤوا من أربعة أرجاء الأرض؛ لتغطية واحدة من أكثر الزيارات أهمية، يقوم بها قداسة الحبر الأعظم لمهد الرسالات، وأرض النبوّات، وملتقى الحضارات، وهو يقود تظاهرة بصمت جليل، ويؤم المؤمنين -مسيحيين ومسلمين- عند الجدار الذي كتبت على حوائطه العذابات، ونزفت عند عتباته الدماء، ورسمت بحجارته واسمنته المسلح بغطرسة القوة العمياء، الحدود الطارئة، وفرضت على جنباته الحقائق الزائفة، ودفنت تحت أساساته قيم الحق والحرية، وأقيمت على أنقاضها أعمدة خرسانية من البغضاء والعنصرية.
كان ترجُل قداسته المفاجئ، والخارج عن النص، من سيارته، باتجاه الجدار، بمثابة تظاهرة قادها الحبر الأعظم، باسم كل المؤمنين والأحرار في العالم، ضد كل ما يمثله الجدار من اعتداء على الحريات، وسلب للحقوق، وسطوٍ على الأراضي، واقتلاع للأشجار وإزهاق للأرواح ، في رسالة وصلت إلى كل من يهمه الأمر، وهي رسالة، وإن كان قد عبر عنها قداسته بكلمات لامست هموم الفلسطينيين وعذاباتهم، وبعثت الأمل في بلوغ غاياتهم وأهدافهم؛ إلا أن تظاهرته ضد الجدار جاءت تعبيراً عملياً عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، في نضاله لنيل حريته وإقامة دولته.
كاد صمته يصير لغة، وكادت يده الحانية الطيبة تصير معولاً يهز أركان الجدار، وكادت صلاته وتسابيحه ودعواته الطيبات الصاعدة إلى السماوات تصير بلسماً يداوي جروح السائرين في طريق الآلام، المرابطين في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس؛ من مسيحيين ومسلمين لا يضرهم ما أصابهم من لأواء.
ولعلّ من تابع وسائل الإعلام الإسرائيلية التي كانت تبث زيارة البابا على الهواء مباشرة، لاحظ أنها أشاحت بوجهها عن اللحظة التي خرج بها البابا عن النص، مترجلاً تجاه الجدار، وعادت لتبث لقطات مسجّلة من الزيارة طيلة الدقائق الخمس التي تظاهر فيها قداسته عند الجدار.
دقائق معدودة قبل وصول موكب البابا، كانت كافية لأطفال مخيم عايدة للاجئين، بعد لحظات من انتهاء الجنود من تبييض الجدار من الشعارات، ليخطوا عليه من جديد عبارات الحرية، حتى وصله البابا قبل أن يجف مداد الكتابة عليه!
بقي أن أقول إن صمت البابا وصلاته عند الجدار كان مفاجئاً، وصاعقاً ومدوياً، وكان معركة برية، وتظاهرة بالذخيرة الإيمانية الحية، فعلاً على الأرض، لا قولاً مرسلاً في الهواء الطلق، فعلٌ لم يسبقه إليه من الزعماء وقادة العالم أحد.. نعم إن صوته وصمته وصلاته عند الجدار كانت ذروة الإيمان.
شارك برأيك
رحيل فارس!