فلسطين
الإثنين 09 ديسمبر 2024 9:28 صباحًا - بتوقيت القدس
الذكرى الـ37 لانتفاضة الحجارة ...تضحيات دقّت أبواب الحرية
رام الله - خاص بـ "القدس" دوت كوم - مهند ياسين
سلوى هديب: المرأة الفلسطينية كانت في صميم العملية التنظيمية اليومية وخاضت النضال منذ البدايات مسلحةً بروح الصمود والعطاء
عيسى قراقع: انتفاضة الحجارة تحولت لحدث عالمي والأسرى المحررون في صفقة التبادل عام 1985 أسهموا في تشكيل قيادتها الموحدة
هاني المصري: انتفاضة الحجارة حدث مفصلي تاريخي رسم ملامح الهوية الوطنية وكاد يفتح الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة
قدورة فارس: ظروف اندلاع انتفاضة الحجارة لا تزال حاضرة.. واستعادة المبادئ المؤسسة لها قد تشكّل قاعدة لبناء استراتيجية حديثة
زهيرة كمال: في ظل إغلاق المدارس والجامعات فتحت النساء بيوتهنّ وكذلك بعض مرافق المؤسسات الدولية لتكون صفوفاً دراسية بديلة
د. المتوكل طه: صقلت انتفاضة الحجارة هوية وطنية استندت لمقاومة ثقافية وسياسية في مواجهة احتلال يخنق كل أشكال الإبداع والتعبير
أجمع كُتاب ومسؤولون وأسرى وقيادات في انتفاضة الحجارة، التي تحل اليوم الذكرى السابعة والثلاثون لاندلاعها، في أحاديث لـ"ے" على أن انتفاضة الحجارة عام 1987 شكّلت محطة مفصلية وعميقة التأثير في الوجدان الوطني الفلسطيني، فقد توحّدت خلالها مختلف فئات المجتمع نساءً ورجالاً وأسرى ومثقفين، وبرز دور المرأة الفلسطينية بوضوح، لا سيما في القدس، حينما فتحت النساء بيوتهن كمقرات تعليمية بديلة، وأقمن لجاناً صحية واجتماعية للتصدي للإغلاق والقمع، كما أنتجت مدرسة السجون أجيالاً من الأسرى المحررين الذين أسهموا في صياغة وعي وطني وترسيخ التزام تنظيمي ساهم في بلورة قيادة موحّدة للانتفاضة. وشددوا، من خلال نماذج عدة، على أن الانتفاضة لم تكن حدثاً عابراً، بل مثّلت لحظة فارقة في تشكيل هوية ثقافية وجماعية صلبة، استندت إلى المقاومة الشعبية والشعور المشترك بالظلم والاحتلال.
ورأوا أنّ الدروس الأهم من الانتفاضة تكمن في الإيمان بوحدة الصف، والتمسك بالهدف الوطني المركزي، والاعتماد على العمل الشعبي السلمي كرافعة حاسمة في المعادلة، إضافة إلى دور المثقف والمبدع في دعم الحراك الشعبي، لافتين إلى أنّ هذه التجارب الجماعية والخبرات التنظيمية والبنى الثقافية، التي صقلتها انتفاضة الحجارة، تشكل اليوم نموذجاً يمكن استلهامه لتعزيز صمود الفلسطينيين واستنهاض الروح الكفاحية في مواجهة الاحتلال وسياساته، وتذكير العالم بأن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاهلها أو الالتفاف عليها.
المرأة الفلسطينية.. قلب الحراك الشعبي وتنظيمه
وفي حديثها لـ"ے"، رأت سلوى هديب، عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"، أن المرأة الفلسطينية، وخاصة المقدسية، خاضت منذ البدايات كافة أشكال النضال، مسلحة بروح الصمود والعطاء. وفي سياق انتفاضة الحجارة عام 1987، عززت هذه المرحلة دورها إلى مستويات غير مسبوقة، إذ شملت جهودها قطاعات التعليم والصحة والعمل الاجتماعي.
وقد أوضحت هديب أن النساء كنّ في صميم العملية التنظيمية اليومية، قائلة: "فتحنا بيوتنا ومقرات عدة مؤسسات دولية كمقرات بديلة للصفوف الدراسية بعد إغلاق المدارس والجامعات، وبهذه الطريقة، ضمنا ألا يفقد الأطفال حقّهم في التعليم، فكان همنا الأساسي الحفاظ على قدرة الطفل على القراءة والكتابة في ظل الإغلاق والقمع".
لم يقتصر هذا الدور على التعليم، بل امتدّ إلى الجانب الصحي، إذ أشارت هديب إلى أن النساء نظمن لجان خدمات طبية وإسعافات أولية، وشاركن في تأسيس لجان شعبية لحماية الأحياء من هجمات المستوطنين واقتحامات الجنود. وأضافت: "المرأة كانت توزع البيانات، وتدعم الشباب المطاردين، وتوفر كل ما يلزم من أدوية وغذاء للعائلات المحتاجة، وتسهم في تأمين مأوى لمن هدمت منازلهم".
أما على صعيد الوحدة الوطنية، فأكدت هديب أنّ الانتفاضة جمعت فصائل منظمة التحرير في عمل وطني مشترك، ما خلق حالة من التكامل بين مكونات الحركة الوطنية. ولفتت إلى أن المرأة لعبت دوراً محورياً في هذا السياق، إذ أوضحت أن "الانتفاضة جمعتنا تحت راية وطنية واحدة، وكنا، نحن النساء، مسؤولات عن طباعة البيانات وتنظيم البرامج، وأخذنا دور القيادة المؤقتة عند اعتقال القادة البارزين، ما ساهم في استمرار الحراك وترسيخ نهج المقاومة الشعبية".
مع ذلك، تقرّ هديب بأن المرأة الفلسطينية لم تحصل لاحقاً على نصيبها المستحق من التمثيل السياسي وصنع القرار بعد قدوم السلطة الوطنية وما تبعه من تطورات سياسية. وأضافت: "المرأة لم تُمنح الدور الذي كانت تستحقه بناءً على تضحياتها خلال الانتفاضة. لقد طالبنا بحصة تضمن مشاركتها في الأطر التنظيمية والحزبية، وحددنا نسبة 30% على الأقل، لكن التطبيق ظل محدوداً".
وترى هديب أن التجربة الجزائرية شكّلت درساً قاسياً، إذ أُعيدت النساء هناك إلى المطبخ بعد الاستقلال، وهو ما سعت المرأة الفلسطينية لتفاديه. وبالرغم من التحديات، لم تستسلم النساء وظللن يناضلن لانتزاع مكانتهن. كما أكدت هديب أهمية الاستمرار في العمل حتى يترسخ مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات وفق ما نصت عليه القوانين والوثائق الوطنية.
في الختام، شددت هديب على ضرورة توحيد الصفوف والحفاظ على السلم الأهلي والموقف الوطني الموحد، والعمل على تحرير فلسطين من نير الاحتلال. وختمت حديثها بتفاؤل حذر: "مهما طال الزمن، الاحتلال إلى زوال، ونأمل أن نشهد فلسطين حرة، ديمقراطية، ومتساوية في الحقوق والواجبات للجميع".
الأسرى.. مدرسة قيادية شكّلت الوعي الوطني
على امتداد تجربة انتفاضة الحجارة عام 1987، برز الدور المحوري الذي لعبه الأسرى الفلسطينيون، خاصة أولئك الذين تحرروا في صفقة التبادل عام 1985، في صياغة الوعي الوطني والتخطيط الاستراتيجي. فمن ناحية، يرى عيسى قراقع، رئيس المكتبة الوطنية، أنّ هؤلاء الأسرى المحررين، بما اكتسبوه من تجربة تنظيمية عميقة في سجون الاحتلال، أسهموا في تشكيل القيادة الموحدة للانتفاضة، الأمر الذي وفرّ للمجتمع الفلسطيني منظومة فكرية وتنظيمية متماسكة.
وأكّد قراقع: "كانت المدرسة التنظيمية داخل السجون رافعة أساسية لتثقيف آلاف الأسرى، وبعودتهم إلى المجتمع نقلوا تجربة وعي وطني وثقافي ساعدت على تأجيج الانتفاضة".
على صعيد آخر، شدد قراقع على أنّ انتفاضة الحجارة تحولت إلى حدث عالمي، إذ دخلت تفاصيلها كل بيتٍ على الساحة الدولية، ما مكّن من تدويل القضية الفلسطينية وحماية الهوية الوطنية المستقلة، موضحًا أنّ التعاطف الدولي، فضلاً عن الحضور الإعلامي اللافت، ساهم في إبراز قضية المعتقلين كقضية دولية وإنسانية.
وأضاف: "بدأ العالم يتعرف على واقع الأسرى، وعقدت المؤتمرات، وجرى تفهم أكبر لمعاناتهم في ظل انتهاك الاحتلال للقانون الدولي".
علاوة على ذلك، يرى قراقع أنّ الانتفاضة الأولى، بتشكيلها كيانية فلسطينية موحدة، أعادت الاعتبار لبرنامج وطني جامع، فقد كسرت المعادلات التي حاول الاحتلال فرضها، وحوّلت السجون إلى فضاءات تربوية مقاومة، أنتجت قيادات فاعلة أسهمت في استمرارية الحراك الجماهيري، بالرغم من التحديات والقمع المتواصل. بهذا المنطق، يؤكد قراقع أنّ تجربة السجون انبثقت عنها قيم ديمقراطية وثورية، عززت الانضباط والالتزام ضمن الأطر الوطنية.
وفي ظل التحولات السياسية والميدانية الراهنة، يلفت قراقع الانتباه إلى أنّ الظروف الحالية، بكل ما تشهده من مآسٍ وتصاعد للجرائم الإسرائيلية، قد تهيئ لانطلاق انتفاضة جديدة أكثر حدّة، خاصة في أعقاب المجازر المتواصلة ومحاولات الإبادة الممنهجة، مشيراً إلى "أنّنا في حاجة ماسّة لاستلهام دروس الانتفاضة الأولى، والتي تركزت على الوحدة، والتنظيم، والإيمان بعدالة القضية"، قائلاً: "كما تفجرت الانتفاضة الأولى رداً على محاولات الهيمنة، فإن الانتفاضة القادمة قد تكون أشد غضباً، ولن ننسى أو نغفر أبداً."
نموذج حيّ لقوة الإرادة الجماعية
وبينما يقرّ قراقع بأنّ تسلّح الشعب بوحدة وطنية وقيادة موحدة هو الشرط الأساس لإحياء روح الانتفاضة الأولى، فإنه لا يغفل ضرورة استعادة الصف الفلسطيني لمواجهة المخططات الاستيطانية وسياسات الضم.
من خلال هذا التذكير بالحاجة إلى وحدة الكلمة، يرسّخ قراقع قناعة مفادها أنّ الانتفاضة الأولى لم تكن مجرد حدث تاريخي، بل هي نموذج حيّ لقوة الإرادة الجماعية التي رسمت مسار النضال وأصبحت مرجعاً يستلهم منه الجيل الحاضر والمقبل مبادئ الصمود والإصرار على الحقوق المشروعة.
هدف وطني ناظم.. مفتاح الوحدة والتأثير
وفي سياق حديثه عن انتفاضة الحجارة، وصف هاني المصري، مدير عام المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، في حديثه لـ"ے" تلك الحقبة بأنها "حدث مفصلي تاريخي" رسم ملامح الهوية الوطنية الفلسطينية، حيث اعتبر أن الانتفاضة عام 1987 كادت أن تفتح الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة لولا جملة عوامل خارجية، أهمها غزو العراق للكويت، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وارتباك القيادة الفلسطينية واستعجالها في جني ثمار الانتفاضة.
ومن خلال هذا الحدث التاريخي، يوضح المصري كيف بدا للعالم أن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاوزها أو تهميشها، وقال: "الانتفاضة كانت رسالة قوية جداً للعالم كله، بمن في ذلك الإسرائيليون، بأن الفلسطينيين متمسكون برؤيتهم وحقوقهم مهما طال الزمن".
وعبر استعراض العبر المستقاة من تلك التجربة، يلفت المصري إلى أهمية تحديد هدف وطني واضح وقابل للتحقق، على غرار ما فعله الفلسطينيون حينما أجمعوا على الاستقلال الوطني كهدف ناظم. هذا الاتفاق، الذي ترافق مع وحدة وطنية ووجود قيادة موحّدة، أفسح المجال أمام مختلف الفئات والتيارات والأجيال للانخراط في الحراك الشعبي.
كما أشار المصري إلى أن النضال السلمي والمقاومة الشعبية، بالرغم من بساطتهما الظاهرية، أثبتا فعالية لا تقل عن العمل المسلح، قائلاً : "المقاومة الشعبية بأشكالها المختلفة تتيح لكل إنسان فلسطيني المشاركة، الأمر الذي يعزز الالتفاف الشعبي ويمنح النضال أفقاً أوسع".
كذلك، لا يغفل المصري البعد الإقليمي والدولي، فالقضية الفلسطينية ذات طابع إنساني وعربي وإسلامي، ما يجعلها ذات قدرة على التأثير المتبادل مع المنطقة والعالم، مشيراً إلى ضرورة عدم إغفال هذا المعطى قائلاً: "الأبعاد الإقليمية والدولية مهمة جداً، لا يمكن القفز عنها أو إسقاطها من الحسبان".
في الوقت نفسه، يُذكّر المصري بدور الإعلام والبحث الفكري في تهيئة أجواء الانتفاضة، إذ ساهم الإعلام الشعبي في تعرية ممارسات الاحتلال والتوعية بالانتهاكات، ما ساعد في استنهاض المجتمع وتعزيز التضامن الدولي. ومع التقدّم التكنولوجي، أصبح هناك اليوم أدوات أكثر قوة، كوسائل التواصل الاجتماعي، التي مكّنت الفلسطينيين من "تحقيق تفوّق" على الخطاب الصهيوني الرسمي، وتشجيع نشوء حركات تضامن في أوروبا والولايات المتحدة وداخل الجامعات التي تبنّت الرواية الفلسطينية بدرجات متصاعدة، حيث يؤكد المصري: "ليس مجرد تعاطف إنساني، بل إدانة حقيقية للصهيونية وسياسات إسرائيل".
وانطلاقاً من هذا الإرث، يدعو المصري إلى إعادة استنهاض روح الوحدة والتنظيم، وعدم الاستخفاف بقوة الرسالة الفلسطينية، مشدداً على أن البناء على تجربة الانتفاضة الأولى يستلزم قيادة وطنية موحّدة، أهدافاً واضحة، وقدرة على مخاطبة العالم بلغة حقوقية وإنسانية، ما يمهّد الطريق نحو استشراف مسارات سياسية أكثر عدالة وفاعلية.
وحدة الصف والمشاركة الشعبية.. دروس من الماضي للمستقبل
وفي حديثه، اعتبر رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين قدورة فارس أنّ الظروف التي أدّت إلى اندلاع انتفاضة الحجارة قبل 37 عاماً لا تزال حاضرة اليوم بقوة أشد، بل وربما أكثر خطورة مما كانت عليه آنذاك. مشيراً إلى أنّ "مبدأ وجود إسرائيل يبرّر كل عملية نضالية يقوم بها الشعب الفلسطيني"، مؤكداً أنّ مشاريع الضم والاستيطان والاعتداءات المتواصلة على الأرض والمقدسات ما زالت تغذي دوافع المقاومة الشعبية".
في سياق تحليله لطبيعة المشاركة الجماهيرية زمن الانتفاضة، يرى فارس أنها جاءت نتاجاً لوعي شعبي ناضج، تراكم على مدار سنوات، هذا الوعي هو ما جعل "كل فئات المجتمع بكل طبقاته، بكل طوائفه، بكل فئاته العمرية" تنخرط في معركة التحرر، فتحوّل "كل مواطن إلى جندي"، فارتسمت آنذاك صورة إجماع وطني فريد، تمخضت عنه قوة شعبية قادرة على تحدي الاحتلال.
أما على مستوى الدروس المستقاة، فيعيد فارس التأكيد على أولوية الوحدة الوطنية، ويشدد على أنه "لا يمكن أن تتم حركة شعبية واسعة ومؤثرة دون وحدة شاملة". هكذا، يجب الابتعاد عن الاصطفافات الضيقة، والتركيز على ما يجمع أبناء الوطن الواحد بدلاً من الانغماس فيما يفرقهم. ويضيف أنّ النضال الشعبي السلمي، بكل أشكاله، ليس خياراً ثانوياً، بل "أرقى درجات النضال"، إذ يتيح لكل فلسطيني مساحة للمشاركة في الصمود والمقاومة، بعيداً عن القيود التي قد تفرضها بعض أشكال الكفاح المسلح.
وفي ما يتعلق بالظروف الراهنة، يؤمن فارس بأنّ استعادة المبادئ المؤسسة لانتفاضة الحجارة يمكن أن تشكّل قاعدة صلبة لبناء استراتيجية فلسطينية حديثة، لافتاً إلى أنّ "الأغلبية تستطيع أن تكون جزءاً من حركة شعبية". يدعو هنا إلى تبنّي منهجيات مقاومة خلاقة وإفساح المجال أمام الأجيال الجديدة لتأتي بأفكار مبتكرة، مُعلناً ثقته بأنّ "لدينا أجيال جديدة ستفاجئنا بأشكال نضالية أخرى جديدة".
في الخلاصة، يؤكد فارس أنّ التحدي ليس في استحضار روح الانتفاضة وحسب، بل في ترجمة هذه الروح اليوم إلى فعل سياسي ومجتمعي قادر على مواجهة الاحتلال، وترسيخ منهجية وطنية موحّدة، تمنح الشعب فرصة حقيقية لممارسة حقه في الحرية والاستقلال.
نساء الانتفاضة الأولى.. من منازل المقاومة إلى هوية وطنية لا تُقهر
على امتداد انتفاضة الحجارة، رأت زهيرة كمال، أمين عام حزب فدا، كيف جسّدت تلك المرحلة لحظةً فارقة تمحورت حول وضوح الرؤية وعمق الوعي بوجود احتلال مباشر يجب مقاومته. ووفقاً لما أوضحته، فإنّ "الجمهور الفلسطيني كان متعاضداً، ومنخرطاً في نضال وطني ضد احتلال حاضر في كل مكان"، بحيث انعكس ذلك على طبيعة العمل اليومي ووسائل المقاومة المتاحة.
في ظل الإغلاقات الإسرائيلية للمدارس والجامعات، برزت المرأة الفلسطينية بوصفها عنصر دعم أساسي، إذ أشارت كمال إلى أنّ النساء "فتحْنَ بيوتهنّ وبعض مرافق المؤسسات الدولية لتعمل بمثابة صفوف دراسية بديلة"، الأمر الذي حافظ على حق الأطفال بالتعلم، وساهم في استمرار الحياة رغم الحصار.
كما تحدّثت عن وجود لجان صحية ولجان زراعية ولجان لتأمين الاحتياجات الأساسية، وهي كلها مساحات أتاحت للمرأة أن تشارك مشاركة واسعة وفعّالة، وقالت: "كانت المرأة حاضرة في كل عمل، من توفير الرعاية الصحية والغذاء، إلى المشاركة في النشاطات التعليمية البديلة، ما أتاح لها فرصة لعب دور محوري في صمود المجتمع".
لم تكن المشاركة مقتصرة على فئة أو شريحة بعينها، بل امتدت إلى كل قطاعات المجتمع، ما عمّق وحدة الصف الفلسطيني. وتبرز كمال هذه الفكرة بقولها إنّ "الانتفاضة أنتجت مجتمعاً متماسكاً، يمارس شكلاً من أشكال المقاومة المتكاملة، حيث الرجل والمرأة والطفل يعملون معاً، وكل فرد منهم قادر على إيجاد سبيـل للإسهام في المقاومة الشعبية".
وعلى الرغم من التحولات السياسية اللاحقة واتفاق أوسلو وما ترتب عليه من تعقيدات، ظلت الانتفاضة الأولى حاضرة في الذاكرة الجماعية كمحطة مميزة. فقد اعتبرت كمال أنّ صمود المجتمع الفلسطيني في تلك الحقبة شكّل أساساً لإرث نضالي لا يمكن تجاهله، لأنه كان "نضالاً شعبياً شاملاً"، سمح برسم ملامح هوية وطنية متجذرة في فكرة التحرر ومقاومة المحتل، فضلاً عن كونه قدّم نموذجاً عملياً لاستنهاض طاقات النساء والرجال معاً في وجه سياسات القمع والإغلاق.
هكذا، تطل الانتفاضة الأولى في حديث زهيرة كمال بوصفها لحظة استثنائية: لحظة اتكأت على وعي وطني صلب، وإرادة شعبية موحّدة، ودور أساسي للمرأة الفلسطينية التي ساندت الحراك الشعبي من داخل بيوتها وفي مؤسسات بديلة، فخلقت في النهاية صورة لمجتمع يقظ، متماسك، وعصيّ على الانكسار.
الثقافة في زمن الاحتلال.. سلاح يواجه القمع
ومن منظور الكاتب والشاعر د. المتوكل طه، مثّلت انتفاضة الحجارة لحظة مفصلية فجّرت معاني كامنة في الوجدان الفلسطيني، وصقلت هوية وطنية استندت إلى مقاومة شاملة، ثقافية وسياسية، في مواجهة احتلال يخنق كل أشكال الإبداع والتعبير. فمنذ بدايات الاحتلال، عاش المبدع هامشاً ضيقاً ومعتمداً، إذ كانت الكتابة بالنسبة إليه -كما يؤكد طه- "عملاً يمنع الجنون"، كونها شكّلت متنفساً في واقعٍ تخنقه قلة المنابر الصحافية، وغياب المؤسسات، وتراجع الاهتمام الشعبي بالثقافة، تحت ضغط تحويل المجتمع الفلسطيني إلى مجتمع عمالي هش.
وعليه، اضطُر الكتّاب إلى تبنّي لغة مباشرة وصريحة، دون زخرفات أو تجميل، لأنهم كانوا واقعين تحت رقابة مدروسة من المحتل. ويشير طه إلى أنّ "الاحتلال كان بالمرصاد، متيقظاً لكل ما يحرّض وينير ويكشف قبحه"، إذ لاحق المثقفين والأكاديميين والصحفيين. وفي ظل أجواء قاحلة ومدجّجة بالقمع، برزت كوكبة من المبدعين الذين شقوا طريقهم بين ركام الاضطهاد، فكتبوا نصوصاً "أشبه بالمنشور السرّي" ليقولوا كل شيء بسرعة ووضوح، ويرفعوا راية التحدي، على رغم انعدام المكافآت والتشجيع.
بعد ذلك، ومع اندلاع الانتفاضة نهاية عام 1987، شهدت الثقافة تحوّلاً عميقاً. فالثقافة، بمفهوم طه، ليست مجرد نصوص، بل منظومة قيم ومعايير لمجابهة الطارئ والغريب. وقد التقى الفلسطينيون في انتفاضتهم بثقافتهم التي تمنحهم "أنماط القوة" الكامنة في الشهادة والتضحية والالتزام والانتماء، فارتسمت بذلك هوية ثقافية عميقة الجذور. ويرى طه أنّ الفلسطينيين، في هذه المعادلة، "مجبرون على المعرفة كأحد أشكال المقاومة"، وعلى الإفادة من قدرات ثقافتهم التي تتيح صموداً راسخاً وتحدياً واعياً.
خلال تلك المرحلة، ظهرت مواجهة حقيقية بين عالمين ثقافيين: من جهة، الثقافة العربية الإسلامية المنفتحة، ومن جهة أخرى، ثقافة المحتل ذات الرؤية الأحادية. هكذا، انصهرت الهوية الثقافية الفلسطينية ضمن إطار مقاومة احتلال لا يعترف بالآخر إلا استغلالاً. ومن هنا نبعت هوية فلسطينية صلبة، تُوجّهها روح الانتفاضة وقيمها، وتعتمد على الثقافة للتصدي لأحلام التذويب والاقتلاع.
ويرى طه أنّ المثقف في حقبة الانتفاضة لم يكن حيادياً، إذ لم يملك "ترف الاختيار ساعة المواجهة الفارقة". إنّ مناصرة الشعب كانت بديهية، والمثقف المتقاعس أو المبرّر للاحتلال يفقد صفة الإبداع الحقيقية. فالإبداع، في زمن الانتفاضة، كان مرادفاً للحرية والاصطفاف مع الناس، وظل المثقف "يحفر في لبّ النار، ليحرّك عقاربها"، مختبراً شجاعته الفكرية والإنسانية إلى أبعد حد.
أما داخل زنازين الاعتقال، فقد تحوّل الشعر إلى "سلاح" يواجه به القمع، وإلى فضاء حر يجاوز القضبان ويصنع عالماً آخر. هكذا، اكتسب الأدب أهمية قصوى، وصار "ضرورياً" لموازاة الحجر والموقف السياسي، يلهب الروح الجماعية، ويمنح الأمل والاستمرارية.
واليوم، مع مرور عقود على الانتفاضة، يدعو طه إلى استلهام درسها الأهم: تحويل روحها إلى فعل دائم، وممارستها كأساس للهوية الوطنية، وترسيخ قيمها في صلب الدستور الفلسطيني المستقبلي. يجب أن لا تُختزل الانتفاضة في إنجاز سياسي عابر، بل أن تبقى -كما يقول طه- "فعلاً دائماً، وهاجساً لا ينبتّ"، وأن تتوزع رياحها في كل مناحي الحياة الفلسطينية، كي لا يتحول الإنجاز المرحلي إلى وهم، وكي ينتقل الفعل الثوري من زمنٍ محدد إلى فعلٍ مستمر يواجه التحديات ويصوغ مجتمعاً أكثر حيوية ووضوحاً في أهدافه.
دلالات
فلسطيني قبل 3 أيام
لا يكسر الحجر الا حجر اكبر منه والنار لا يسكنها الا النار والحرية ثمن والله غالب على امره
الأكثر تعليقاً
في الذكرى الـ37 للانتفاضة الأولى.. "فتح": لن يتنازل شعبنا عن حقوقه الوطنيّة
الفريق الرجوب لـ"القدس": عودة الروح للانتفاضة الشعبية تُحرج العدو وتُضعف حجّته
جيش الاحتلال يعلن مقتل 7 جنود وضباط في غزة ولبنان خلال 24 ساعة
السيسي يبحث بالنرويج حرب غزة وتعزيز التعاون
هيئة الأسرى: الأسرى القصر في مجيدو فريسة لحقد السجانين
حلّل يا دويري!
أونروا: مليون نازح في قطاع غزة معرضون للموت نتيجة برد الشتاء
الأكثر قراءة
الفريق الرجوب لـ"القدس": عودة الروح للانتفاضة الشعبية تُحرج العدو وتُضعف حجّته
إلغاء نتنياهو اتفاقية الهدنة.. انفتاح الشهية في لحظة ضعف الدولة الوطنية
الذكرى الـ37 لانتفاضة الحجارة ...تضحيات دقّت أبواب الحرية
روسيا: الأسد غادر سوريا وهذا ما أوصى به
إعلان سموتريتش.. الضم قبل السيادة
التداعي المتسارع للقوات السورية.. محللون يجيبون عن سؤال: ما الذي يجري؟
سوريا.. حقيقة اعتقال الدقاق الذي أطعم أسوده "لحم المعتقلين"
أسعار العملات
الأربعاء 11 ديسمبر 2024 9:42 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.59
شراء 3.58
دينار / شيكل
بيع 5.06
شراء 5.05
يورو / شيكل
بيع 3.79
شراء 3.78
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%55
%45
(مجموع المصوتين 213)
شارك برأيك
الذكرى الـ37 لانتفاضة الحجارة ...تضحيات دقّت أبواب الحرية