منوعات

الأحد 13 أكتوبر 2024 1:10 مساءً - بتوقيت القدس

"المعضلة الاجتماعية".. عندما يتحكم خمسون مصمِّماً بمليارَي شخص في العالم!

رام الله -"القدس" دوت كوم

لا تكاد تمر دقائق على بداية فيلم جيف أورلوفسكي الوثائقي "المعضلة الاجتماعية" (The Social Dilemma)، إلا ويتملكك فزعٌ مما يشرَحُهُ "الـمُنْشَقّون ضميريّاً" من فيسبوك وتويتر وإنستغرام وجوجل وما شابهها من منصات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث، عن التلاعب في السلوك البشري من أجل الربح.

 

الوجه الآخر

وبشكلٍ غير تقليديّ، وبما يتوافق ورؤية الفيلم وهدفه الأساسي، بدأ المشاركون في "المعضلة الاجتماعية"، بتعريف أنفسهم عبر وظائفهم السابقة لا بأسمائهم.


الأول نائب الرئيس السابق للهندسة في "تويتر"؛ يشرح كيف أن الأدوات التي ساهموا في تطويرها لهذه المنصّات انتهى بها الأمر إلى أن "تصبح وحشاً لا يمكن ترويضه". أما الثاني فكان رئيس "بينتريست"، وقبلها كان مدير تحقيق الدخل في "فيسبوك" لخمس سنوات، فكشف أن "نموذج العمل لدى هذه الشركات يقوم على إبقاء الناس على مواقعها.. المهم هو كيف نضمن أكبر قدرٍ من أوقات المُستخدِمين، وكم من حيواتهم يمكننا أن نجعلهم يقدمونها لنا"!


الثالث عَمِلَ في منصة X (تويتر) عدة سنوات، وتحديداً في إدارة تطوير مَنَصَّتِهم، ثم أصبح رئيس قسم منتجات المستهلك، وعلَّقَ قائلاً: "من السهل اليوم أن ننسى حقيقة أن هذه الأدوات قد صَنَعَت في الحقيقة أشياء رائعةً في العالم، لقد جَمَعَتْ شَمْلَ أفراد عائلاتِ مفقودين، وأوجَدَتَ متبرّعين بالأعضاء، كانت هناك تغييراتٌ ذات مغزى ونظامية تحدث في جميع أنحاء العالم بسبب تلك المنصّات التي كانت إيجابيةً، أظن أننا كنا نجهل بسذاجة وجهة النظر الأخرى للموضوع". 


الرابع كان المخترع المشترك لـ "جوجل درايف" و"جي ميل تشات" وصفحات "فيسبوك" وزر "الإعجاب" في فيسبوك، وهو الذي شدّد "أومِنُ بشدّة أنه لم يَقْصِد أحدٌ حدوثَ مثل هذه العواقب"، قبل أن يُضيف "أنا قَلِقٌ للغاية، قَلِقٌ للغاية"، بينما ترك الخامس العمل في "جوجل" في حزيران (يونيو) 2017، بسبب "مخاوف أخلاقية"، وليس في "جوجل" فحسب، بل في المجال بِرمَّتِه.

  

ماهية المشكلة

وعند الإجابة عن سؤالٍ مفادُهُ "ما هي المشكلة؟!".. كان الوجوم سيّدَ الموقف لبعض الوقت، قبل أن يقول أحدهم: "هناك عدّة مشاكل وليس مشكلةً واحدةً.. من الصعب إعطاء فكرةٍ مختصرةٍ واحدة".


ولكونِهِ من الصعب تقديم فكرةٍ مختصرةٍ أحادية الجانب لشرح المشكلة أو المشاكل المتشابكة، كان يتخلل الفيلم مقابلات ومقاطع من أرشيف القنوات الإخبارية وأخرى تمثيلية لعائلةٍ تُعاني من عواقب إدمان وسائل التواصل الاجتماعي، حيث العشاء الصامت، وكلٌ منشغلٌ بإشعارات هاتفه الذكيّ.. الابنة المراهقة تعاني من مشاكل تتعلق بصورتها الشخصية، وشقيقها الذي يكبُرُها بقليلٍ تتملَّكُهُ حالةٌ ما من التطرف الأيديولوجي جرّاء "توصيات يوتيوب".


هذه المزاوجة ما بين الوثائقي وبعض المشاهد الروائية، ساهَمَتْ أو سَعَتْ لتوضيح فكرة الفيلم بشكلٍ أكثر سلاسة للمتلقي أمام شاشة تلفازه أو حاسوبه الثابت أو المتنقل أو حتى هاتفه النّقّال الذي لا تنفك الإشعارات تحُولُ بينه وبين متابعةٍ غير مشوّشةٍ للفيلم. هذه المزاوجة الذكية كان مردّها باعتقادي، لذكاء القائمين على الفيلم، والذين يُدْرِكون أن التفاعل عادةً ما يكون أكثر في حال تجسيد المَشاهِد من التعاطي مع مادةٍ بحثيةٍ صِرْفَة، وتنظيرٍ مهما بلغت أهميتُهُ وخطورتُهُ، لا سيّما في التعامل مع موضوعٍ متخصصٍ ومتشعبٍ ومثيرٍ للجدل كهذا، وهو ما ساهم بالفعل في جعل الفيلم أكثر قُرباً من متابعيه.

 

رأسمالية المراقبة

يشرح "المنشَقّون" آليات التلاعب بسلوكك/سلوكنا، من خلال "الذكاء الاصطناعي التنبُّئي"، وجذب انتباهك بالتمرير اللانهائي وإرسال الإشعارات لإبقائك لأطول فترةٍ ممكنةٍ على هذه المنصّات، وجمع بياناتك وبيعها لمن يدفع أكثر، وهي طرقٌ تجعل من البضائع والمُعلِنين هم العملاء، فالأمر ليس مجرد مصالح تجارية، بل إن الأمر يصل إلى حدّ نَشْر الفوضى وزعزعة استقرار المجتمعات في جميع أنحاء العالم.


وهنا يُشير الفيلم أيضاً إلى الانتشار المتزايد للتضليل، وارتفاع منسوب التطرف في الشرق الأوسط، أو لدى العنصريين البِيض في الولايات المتحدة، علاوةً على دَور هذه المنصات والمواقع والشركات والشبكات في تعزيز الاستقطاب السياسي، وحتى الأنظمة الاستبدادية، كما في ميانمار، والفلبين، أو في حالة "داعش" بالعراق وسوريا، على سبيل المثال لا الحصر، ودون إغفالٍ للانتخابات الأمريكية، والزمن الكُوروني. فحسبَ هؤلاء "المنشقين"، تم تصميم هذه المنصات لخلق التبعية والإدمان في خدمة "رأسمالية المراقبة" (Surveillance Capitalism).


وعن "رأسمالية المراقبة"، قالت البروفيسورة شوشانا زوبوف، الأستاذة الفخرية في جامعة هارفارد، ومؤلفة كتاب "عصر رأسمالية المراقبة": حلم كلّ عملٍ أن يحظى بضمان النجاح، وهنا يأتي دور الإعلانات عبر منصّات ومواقع التواصل الإجتماعي والبحث في الترويج الزائف لفكرة اليقين.. أو بمعنى أدق "بَيع اليقين" (certainty)، ومن أجل النجاح في هذه المهمة يجب أن تحظى الشركات المُروِّجَة وصاحبة "المنتج" بتوقعاتٍ كبيرةٍ، والتوقعات الكبيرة تبدأ بحتميةٍ واحدةٍ، وهي "الكثير من البيانات".


وأضافت زوبوف: "هذا نوعٌ جديدٌ من السوق؛ سوق لم تكن موجودة من قبل، وهي سوقٌ تتاجر بشكلٍ حصريٍّ في العقود الآجلة للبشر. نعم بات لدينا الآن أسواقٌ تتاجر في العقود الآجلة للبشر بصورةٍ كبيرةٍ، جَنَتْ تلك الأسواق "تريليونات" الدولارات، ما جعل من شركات الإنترنت أغنى الشركات في تاريخ البشرية".


تريستان هاريس، عالم أخلاقيات التصميم السابق في جوجل والمؤسس المشارك لمركز التكنولوجيا الإنسانية، قال عن "رأسمالية المراقبة": "تستفيد هذه الرأسمالية من التَّتَبُّع اللانهائي لكل مكانٍ يذهب إليه الجميع من قِبَل شركات التكنولوجيا الكبيرة، التي يتمثل نموذجُ عملها في التأكد من نجاح الدعاية قدر الإمكان".


وفي الاتجاه ذاته يقول جيف سيبرت، رجل الأعمال التنفيذي السابق في مجال التكنولوجيا، والخبير التقني: "أريد أن يعرف الناس أن كل شيءٍ يفعلونه على الإنترنت، يُراقَب ويتم تعقُّبُهُ ويُقاس.. كل إجراءٍ تتخذونه يُراقب ويُسَجّل بدِقّة. الصورة التي تقفون وتنظرون إليها بالضبط ومدة رؤيتكم إياها، وغير ذلك الكثير".

 

نحت التركيبة الاجتماعية

وينقلنا "تشامات بالياباتيا" نائب الرئيس السابق للنمو في "فيسبوك"، إلى فكرةٍ فائقة الأهمية والحساسية، وذات بُعْدٍ سيكولوجيٍّ، بِقَوْلِهِ: "نُنَظِّم حياتنا حول هذا الإحساس بالكمال، حيث نُكَافأ بتلك الرموز التعبيرية على المدى القصير، مثل رمز "القلب" أو "القبول"، ونخلط ذلك بالقيمة وبالحقيقة. وبدلاً من اعتبارها حقّاً -وكما هي- رموزاً زائفةً وشعبيةً هشّةً، فهي قصيرة المدى، لكنها مع الوقت تصبح معياراً للتفوق أو التميز، ودونها يشعر الفرد -اعتَرِفوا بذلك- بالخواء والفراغ.

 

اهتمامٌ نقديّ

ويكشف الفيلم، ويُعرَض حالياً على منصة "نتفليكس" (Netflix) الرقمية، الجهة المنتجة، وعبر هؤلاء المُنْشَقّين، ضرر إدمان وسائل التواصل الاجتماعي على تنوّعها وزيف تلك الادّعاءات بأن الإدمان وانتهاك الخصوصية هي ميزاتٌ، وليست أخطاءً كبرى ومأساوية.


ومنذ إطلاق الفيلم قبل أسابيع قليلة، يحظى بمتابعةٍ نقديَّةٍ كبيرةٍ عبر أبرز الصحف والمواقع الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، حيث خرجت العديد من المراجعات عنه بأقلام كبار النُّقّاد والإعلاميين، فحسب "لوس أنجليس تايمز" فإن فيلم "المعضلة الاجتماعية" قد يكون "أهم فيلمٍ وثائقيٍّ تراهُ هذا العام".

ويقتحم هذا الفيلم الاستثنائي عوالم أقل ما يمكن وصْفُها به أنّها "سرّيَّة" و"مرعبة"، وهذا ما عبَّرَ عنه صراحةً "هاريس"، بِقَوْلِهِ: "لم يحدث من قبل في التاريخ أن اتَّخَذَ خمسون مصمِّماً بِيضَ البشرة، من كاليفورنيا، قراراتٍ من شأنها أن تؤثر على ملياريّ شخص".


 وفصَّلَ: "سيحظى مليارا شخصٍ بأفكارٍ ما كانوا ليُفَكِّروا فيها لأن مُصَمِّماً لدى "جوجل" قال، هكذا تعمل الإشعارات على الشاشة التي تفتحونها في الصباح، ونتحمل مسؤوليةً أخلاقيةً بصفتنا "جوجل" لحل هذه المشكلة".


ووفقاً لجارون لانير، الأب المؤسس لعالم كمبيوتر الواقع الافتراضي، لا يمكن أن تكون مخاطر الإصلاح أكبر، بقولِهِ: "إذا تراجعنا عن الوضع الراهن، فلنَقُل عشرين عاماً أخرى، ربما ندمّر حضارتنا من خلال الجهل المتعمد، كأن نفشل في مواجهة التحدي المتمثل في تغيُّر المناخ، أو أن نضرب ديمقراطيات العالم في مقتلٍ حتى تقع في نوعٍ من الخلل الاستبداديّ، أو حتى نُدَمِّر الاقتصاد العالمي.. ربما لا ننجو. أنا أرى الأمر حقّاً باعتباره مسألة وجودية".

 

متشائلون!

وعلى الرغم من انتقاداتهم الشديدة، فإن الأشخاص الذين تَمَّتْ مقابلتهم في الفيلم ليسوا كلهم متشائمين، يقترح الكثيرون منهم البحث عما أسْمَوه "تغييرات صحيحة"، يمكننا إنقاذ وسائل التواصل الاجتماعي، لكن حقيبة الحلول الشخصية والسياسية التي يُقَدِّمُونها في الفيلم تخلط بين هدفين مختلفين: التكنولوجيا التي تسبب السلوكيات المدمِّرَة، وثقافة الرأسمالية غير المنضبطة التي تُنْتِجُها.


جديرٌ بالإشارة أن الفيلم يحتوي على بعض الاقتراحات المثيرة للاهتمام، بما في ذلك فرض ضرائب على "أصول البيانات" لشركات التواصل الاجتماعي، والتأكُّد من الاستمرار في الاطّلاع على الاعتمادات لبعض القواعد الواضحة والبسيطة التي يمكن للآباء تَبَنّيها. 


ويبقى الدرس الأكثر أهميةً من "المعضلة الاجتماعية" هو أننا يجب أن نتساءل عن كل ما نقرَأهُ على الإنترنت، خاصةً إذا ما تمَّ تقديمُهُ لنا بطريقةٍ تعْكِسُ فهماً مفصّلاً لميولنا وتفضيلاتنا، وأنه يجب علينا أن نُقاوم "نموذج جذب الانتباه" الذي يجعل وسائل التواصل الاجتماعي تبدو ودّيَّةً، أو أن نحذفها، إن تمكّنا، حسب نصيحة أحد "المنشَقّين الأخلاقيين" من حيواتنا، وقبلها من هواتفنا بطبيعة الحال.

دلالات

شارك برأيك

"المعضلة الاجتماعية".. عندما يتحكم خمسون مصمِّماً بمليارَي شخص في العالم!

المزيد في منوعات

أسعار العملات

السّبت 19 أكتوبر 2024 8:27 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.72

شراء 3.7

دينار / شيكل

بيع 5.24

شراء 5.22

يورو / شيكل

بيع 4.04

شراء 4.0

هل تستطيع إدارة بايدن الضغط على نتنياهو لوقف حرب غزة؟

%18

%82

(مجموع المصوتين 444)