أقلام وأراء

الأربعاء 26 يوليو 2023 10:00 صباحًا - بتوقيت القدس

التعليم الجيد سبيل التحرر والانعتاق من القهر

تقاس الحضارة والتقدم العلمي والرفاهية للشعوب بنظامها التعليمي التربوي، فالدور الأسمى للتعليم هو توفير الحياة والحرية والسلام وتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع، وخلق مواطنين مسؤولين يعودون بالنفع على المجتمع الذي ينتمون له، مدربين للدفاع عن الوطن وتأسيس الأمن والعدالة فيه، ولتمكينهم من العيش برغد والتطلع إلى حياة أفضل.


الا ان التعليم الجيد يتطلب حكماً رشيداً فهو ضروري للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة. متطلبا كفاءات معينة للتعلّم مدى الحياة، فالمهارات كالتفكير النقدي، وحل المشكلات، ومحو الأمية الرقمية تمثّل ضرورة عاجلة وكبيرة للداخلين إلى سوق العمل سواء محلية ام عالمية، لكن معظم الأنظمة العربية الحالية غير قادرة على تعليم الطلاب بشكل كافٍ في هذه المجالات الحياتية والحيوية.


يعكس التعليم السائد في دولنا العربية واقعًا متردّيًا، لا يحقق الذات او أدنى طموح، وانما أصبح قضية امن قومي، فاغلب مشاكل النظام التعليمي تعود الى عدم استقرار السياسات فيه، ففلسفة ورؤية الأنظمة الحاكمة (الدكتاتورية) محكومة بأيديولوجياتها، وبقوانين قمعية يتم فرضها على النظام التعليمي التربوي، فالتعليم يتحول إلى جزء من المنظومة الأمنية للنظام الحاكم، التي تهدف إلى تأمين أمن النظام بنظام ضابط وتنشئة المواطن الخاضع الخانع المقهور، فيتم تحويل المؤسسة التعليمية إلى مؤسسة قهرية، مسلوبة الحق و الحرية ما يتخذ صورة النظام السياسي نفسه، والمقصود بالقهر تلك المعايير والإجراءات، والقوانين التي تشكل الناس وتكيف طبيعتهم، ثم تضغط على عقولهم حتى يعتقدوا مثلا أن الفقر والظلم الاجتماعي حقيقتان طبيعيتان لا يمكن تجنبهما في الوجود الإنساني ولا يتم ذلك إلا حينما يكون النفوذ والسلطة لدى قلة من الناس، والوهم في عقول الجميع.


ولازدياد سطوة صاحب النفوذ ولضمان استمراريته وإحكام سيطرته على شعبه الضعيف، فان أول ما يسيطر عليه ويكون في قبضته هو تعليم مرسوم لا يشجع التفكير والتحليل، فضلا عن وجود فجوات بين النظرية والتطبيق في مجال السياسة التعليمية، فيعاني التعليم الكثير من الاضطرابات، فقد اعتمدت الأنظمة تعليما تقليديا تلقينيا أسلوبه تعطيل الطاقات الكامنة لدى المتعلم، حيث تضع المدارسُ خِططاً دراسيّةً بناء على منهاج مفروض تحتم على كلِّ طالب أن يَدرُس وفق نظام محدد مواد معينة لا يمكن العبث بها وليس للطالبِ رأيٌ أو مشاركة أو مجال للانتقاد أو التّأثيرِ على هذا النظام.


ان سياسةُ المدارسِ وتدريسُها توجد طالبا كارها للمدرسة ولموادها الدراسية وملتزما بالتزام مقيت وعليه استرجاع لما تم إيداعه وليس لما تم هضمه وتحليله، ويأتي بعد ذلك تقييم المعلم صاحب الاختصاص والذي بدوره يحدد استحقاق الطالب للنجاح أو للفشل، أو تصنيفه ذكيا أم ذا قدرات محدودة، وماذا سيكونُ تخصصه الجامعي وما هو العمل الذي سيعمل به فيما بعد والذي سيؤطر تصنيفه الاجتماعي ومستواه الفكري والعقلي تحت ظل هذا النظام.


وأورد المفكر البرازيلي باولو فبريري في كتابه "تعليم المقهورين" أن التعليم في ظل هذه الأنظمة يستهدف تطويع الطلبة كي يتأقلموا مع عالم يكونون فيه مجبرين على الانصياع لقراراته دون تفكير او نقاش وقد اسماه التعليم البنكي (Banking Education) الذي يقوم فيه المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات التي يريدها النظام في أدمغة المتعلمين، والطالب هو فقط متلق للمعلومة وغير منتج لها. ويقاس نجاح هذه العلميّة بكفاءة المعلم في الملء وكفاءة الطلّاب في الامتلاء.


فينمي هذا النوع من التعليم عند المتعلمين يسمى “ثقافة الصمت” (Culture of Silence) الثقافة السلبية التي يفرضها عليهم القاهرون بتحكمهم في وعي المجتمع، والتي تخلق وعيًا سلبيًّا يجعلهم يعطون صورًا سلبية عن ذواتهم، وتجعلهم يشعرون بعجزهم وبعدم قدرتهم على إدارة شئونهم بأنفسهم، وبأنهم دائما في حاجة إلى مسؤوليهم. أنظمة صارمّة تربي على الخنوع، فالحاكم (القاهر) لا يرى في هذه الجماعات سوى أنهم أقليات وجماعات هشة ضعيفة لا قيمة لها، وان قضية تعليم الأشخاص (المقهورين) تضعف من نظرة القاهر لنفسه. لذا تتحقق اهدافهم بجعل عملية التعليم عملية بنكية، ‏مما يعزز ويزيد من استغلالهم وتسلطهم على الفئات المقهورة. فهو بحاجة لاستسلامه وتغييب ارادته في تغيير الواقع المرير الذي يعيش فيه. وهذا يضمن اخراج قوالب مكررة من البشر تساهم في التكييف مع الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره مهما احتوى من أوضاع قاهرة. ويتضح هذا في رؤية فريري للتعليم حيث اعتبر التعليم عملية سياسية.


ان نظام التعليم في هذه الحالة في موضع التهديد، هو الأحاديّ الاتّجاه، حتّى ولو كان رائع الجودة، يربي ويعين طلبة متلقّين، نجاحهم او فشلهم مبني على قدرتهم على التكييف ضمن منظومة المعايير الموضوعة رغم اختلافاتهم الفكريّة، ومن هنا نرى ان التعليم لا يمكن أن يكون أبدًا عملية محايدة، فقرار تعليم الشعب هو قرار سياسي، وله قصد سياسي، إذا كان بأسلوب التلقين فهو يرسخ القمع والقهر، أو أداة لتغيير الوضع القائم وخلق حالة أكثر ديمقراطية وشمولية تمكنان من العيش بطمأنينة وازدهار إذا كان بالأسلوب الحواري.


التعليم سبيل التحرر:
لذلك ثمّة حاجة ملحّة لإصلاح التعليم ليجعل من التعليم أداة تغيير ومدخلا للثورة وان يكون سبيلا لتحرر من خلال خلق الوعي النقدي (Critical Consciousness)؛ وبث الثقة في نفوس المتعلمين وتعليمهم الأمل، وهذا يتم من خلال وجود المعلم (المربي) الثوري الذي لديه القدرة على طرح مشاكل وقضايا مشاركا طلبته ويتمكن من دمجهم بالمعرفة الحقيقية والمهارية فيصبح الطلبة (الذين لم يعودوا مستمعين خانعين) باحثين مشاركين انتقاديين في حوار مع المعلم ويقوم باستثارة الوعي مستخدما الأساليب التي تنمي التفكير خارج الصندوق، لثقته بطلابه وقدرتهم على التغيير والإبداع.


 ومشاركتهم في تبادل المعلومات والاستفادة من خبرات بعضهم بعضاً مستخدما الأسلوب الحواري القائم على حل المشكلات ويقوم بالمناقشة والحوار بعيداً عن الحفظ والتلقين والأساليب التقليدية، هذه مرحلة نضال من أجل حصول المتعلم على مبتغاه. ومهمة المعلم لإبراز القضايا الحياتية التي تجعلهم يشعرون بواقعهم وبالظلم الممارس ضدهم.


 وتشجيعهم على اكتساب المعرفة بشكل ذاتي. وبتحويلهم لفاعلين في العملية التعليمية وبهذه الطريقة يتم تغلب على السلطوية والنزعة الفكرية.


فجوهر الإصلاح التعليميّ الذي نريده، يتجلى في وجود التعليم التحرري الذي يوجد الانسنة ويزيل الغشاوة عن اعين المتعلمين (المقهورين) لرؤية الواقع على حقيقته فتقع عليهم مهمة النضال من أجل تحرير أنفسهم من التبعية والتلقي، فيبدأ بتحرير نفسه بنفسه وعندما يحررون أنفسهم يستطيعون تحرير غيرهم. فهي ثورة في مجال التعليم والنضال من اجل التقدم الوطني والحرية والمشاركة في التطور فلا بد من الكفاح من اجل القضاء على الفساد بالتعليم فتتمكن المجتمعات من الحصول على حقوقها.


فلا يعود المعلم مجرد الشخص الذي يعلم، بل شخص يتعلم أيضا لحواره مع الطلبة، الذين يقومون بدورهم في التعليم في الوقت الذي يتعلمون فيه. فيصبحون مسؤولين عن عملية ينمون ويكبرون فيها. ويعزز ثقة كل منهما في نفسه بسبب قدرته على أداء دوره بشكل إبداعي، وهذا سيقوده لعملية حرّة يجد فيها نفسه قبل أن يجد المعرفة، ويخرج بها إلى الواقع القهريّ ليحرّره، وهو ما يطالب به فريري منذ وضع نظريته عن التعليم.


خلاصة القول الأداة الوحيدة في عملية التحرر هي ان التربية أداة التغيير والإصلاح لها باستخدام الحوار يستلزم الحب كما يستلزم التواضع، والثقة بين المعلمين والمتعلمين بما يتناول قدرتهم الابداعية والنقدية، فهو أمل مشترك في معرفة العالم والحقائق وادراكها. فالتعليم عملية تغيير وتحرير اجتماعي وطريق للحرية، والتي تبدأ حين سؤال المعلم نفسه عن القضية التي سيجعلها موضوعًا للحوار مع طلابه لتصبح المادة موضوع المعالجة والحوار مشتركة في صياغتها وبنائها بين المعلم والمتعلم. الوعي والنظرة الناقدة مفتاحا الطرق إلى التعليم، وفهم العالم، وتغييره.

دلالات

شارك برأيك

التعليم الجيد سبيل التحرر والانعتاق من القهر

المزيد في أقلام وأراء

نعم ( ولكن) !!!!

حديث القدس

أسرار الذكاء الاصطناعي: هل يمكن للآلات التي صنعها الإنسان أن تتجاوز معرفة صانعها؟

صدقي أبو ضهير

من بوابة رفح الى بوابة كولومبيا.. لا هنود حمر ولا زريبة غنم

حمدي فراج

تفاعلات المجتمع الإسرائيلي دون المستوى

حمادة فراعنة

أميركا إذ تقف عارية أمام المرآة

أسامة أبو ارشيد

إنكار النكبة

جيمس زغبي

مأساة غزة تفضح حرية الصحافة

حديث القدس

بمناسبة “عيد الفصح”: نماذج لعطاء قامات مسيحية فلسطينية

أسعد عبد الرحمن

شبح فيتنام يحوم فوق الجامعات الأميركية

دلال البزري

البدريّون في زماننا!

أسامة الأشقر

تحرك الجامعات والأسناد المدني لوقف لعدوان

حمزة البشتاوي

‏ آثار ما بعد صدمة فقدان المكان الاّمن – هدم بيتك أو مصادرته

غسان عبد الله

حوار عربي أوروبي في عمّان

جواد العناني

حرب نفسية عنوانها : تهديد اسرائيلي وضغط أميركي

حديث القدس

الأمم المتحدة والإعتراف بفلسطين دولة

ناجي شراب

خطاب ديني يواري سوأة المغتصِب

سماح خليفة

نتياهو قرر إفشال الهدنة وصفقة التبادل

بهاء رحال

تعرية التحالف الاستعماري

حمادة فراعنة

عزلتهم تزداد وهزيمتهم مؤكدة

وسام رفيدي

عاش الاول من أيار ..عيد العمال الأحرار

حديث القدس

أسعار العملات

السّبت 04 مايو 2024 11:31 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.74

شراء 3.73

دينار / شيكل

بيع 5.3

شراء 5.27

يورو / شيكل

بيع 4.07

شراء 3.99

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%75

%20

%5

(مجموع المصوتين 209)

القدس حالة الطقس