رُبما لم يحالفكم الحظ من قبل بالتعرف على الستينيّ محمد أسعد الأغبر (أبو رامي)، من مدينة نابلس، الذي اهتدى لحِرفة صناعة فراشي القش والنايلون منذ سبعينيات القرن المنصرم، وهو من ذوي الإعاقة البصرية، يكافح لأجل حياة كريمة له ولأسرته، ويضرُب أروع الأمثلة في الصمود بعد أن اقتضت حكمة الله بأن يفقد بصره نتيجة ضعف شديد في شبكية العين لازمه منذ ولادته، إلا أنه أبى الاستسلام وصمّم على المُضي في مسيرته الحافلة بالإنجازات.

ويصنع الحِرفيّ والعضو الفعّال في جمعية رعاية الكفيف (أبو رامي) بيديه تشكيلات مميزة من الفراشي التي تستخدم لتنظيف الطرقات والأرضيات أو للطلاء وذات أحجام مختلفة، في المَشغل التابع للجمعية، باذلاً قُصارى جهده لإنجازها بإتقانٍ ودقة متناهية ومبتعداً عن التراخي؛ ليبقى عمله المنافس الوحيد لهذه المنتوجات المصنعّة حديثاً عبر الآلات والمستوردة من الدول الأخرى.

ويقول أبو رامي لـ"القدس" دوت كوم: "أهم ما يميز صناعتي أنني أُلون البلاستيك الذي أستخدمه في الفراشي، وذلك بوضع لونين مختلفين مقابل بعضهما، ثم أبدأ بدمجهما حتى تصبح الفرشاة ملونة وجميلة، وكل ما أُنتجه في هذه الحِرفة مختلف ومميز لأنني أتقنه جيداً، إلا أنني بطيءٌ بعض الشيء في العمل، فيمكنني إنجاز ثلاث أو أربع فراشي، ثم أتقاضى مبلغاً رمزياً على كل القطع التي أنتجها خلال النهار".

ويضيف أنه تعلّم هذه الحِرفة رويداً رويداً، بداية من الفراشي الصغيرة ثم فراشي الطلاء، وفراشي الأحذية أيضاً، والكراسي المصنوعة من خشب الخيزران، مبيناً أنه كان قد التحق بـ"المدرسة العلائية للمكفوفين" منذ صغره، كما كان يصنع السِلال من الخرز أو القش حيث وُضعت منتوجاته في العديد من المعارِض إلا أن ضعف بصره قد خَذله ولم يستمر في ذلك كثيراً.

ويلفت أبو رامي إلى أنه لا يواجه صعوبات في العمل، بل يقدم مساعدته لباقي زملائه في الجمعية، لكنه يعاني من صعوبة في التنقل من مكانٍ لآخر، لذلك ترافقه ابنته الكُبرى في كل تحركاته لتصبح هي بصره الذي فقده، وتسانده تاركة دراستها منذ المرحلة المدرسية لتبقى معه.

كما يأمل أبو رامي وزملائه الأعضاء في جمعية رعاية الكفيف من التجار والمواطنين بأن يدعموا صناعاتهم اليدوية، وان يتوجهوا لزيارة مَشغلهم المتواضع في السوق، والذي يتفوق على المنتوجات الجاهزة من ناحية الجودة وفترة الإستعمال.

ويوضح أمين سر الجمعية، المهندس حسان الزَقّة، أن تأسيسها منذ عام 1955 يهدف إلى لمّ شمل المكفوفين في مقر خاص لهم، وإشراكهم بالمجتمع المحيط بهم ليصبحوا فعّالين ولا يكونوا عالةً على الآخرين، ويعيشون باستقلالية وكرامة، حتى أصبحت هذه الفئة تعمل في مجال الحِرف اليدوية مثل صنع الفراشي والمكانس من القش والخشب أو النايلون، والتي تستعمل في مجالات التنظيف المختلفة إما الشوارع، أو المحال التجارية والمصانع أو للطلاء وغيرها.

ويردف قائلاً: "لا يوجد للجمعية مصادر دخل ثابتة أو مشاريع خاصة سوى هذا المَشغل، حيث نتعاقد مع بلدية نابلس ونبيعهم هذه المكانس والفراشي بأسعارٍ رمزية، كما أن الجمعية قائمة على التبرعات من أهل الخير ولجنة الزكاة، لدعم المكفوفين إما بموادٍ تموينية وطرودٍ غذائية، أو مساعدات مالية حسب حاجة كل عضوٍ منهم".

ويستكمل المدير التنفيذي للجمعية، المهندس مصعب النابلسي، الحديث مبيّناً أن هذه المنتوجات من الفراشي ومكانس الطرقات التي يصنعها المكفوفون للحصول على لقمة عيشهم، يمكن أن يُغلق مَشغلها في حال توقفت البلدية عن شرائها؛ لأنه قلّ الطلب عليها نتيجة انتشار الفراشي البلاستيكية في الأسواق لذلك صار ينتج كميات محدودة منها وأغلبها تُباع للبلدية، كما لا يوجد مؤسسات ومحال تجارية تدعم هذه الحِرفة اليدوية.

ويتأمل من الجهات المختصة مساعدة الجمعية بمشروع آخر لدعم المكفوفين إلى جانب هذا الاستثمار البسيط، حيث تم طرح فكرة إنشاء مخبز ليكون مصدر دخل العاملين منهم، وإنفاق أرباحه على غيرهم من الأعضاء المحتاجين.

ويسترسل النابلسي في حديثه عن نشاطات الجمعية ومبادراتها التي تساعد في تنمية مواهب الأعضاء المكفوفين وتطوير مهاراتهم وتعزيز ثقتهم بنفسهم حتى يتمكنوا من المشاركة الفعّالة في المجتمع المحلي ورعايهم من الناحية التعليمية والثقافية، وعليه تُقدم لهم العديد من الدورات والتدريبات كالإسعاف الأولي، والحفاظ على الصحة العامة بالتعاون مع الدفاع المدني، وتعليم اللغات، وتحاول دائماً توفير فرص عمل في مؤسسات المجتمع لكل من يرغب منهم.

وأضاف أنهم مستعدون لتعليم أي شخص كفيف هذه الحِرفة اليدوية، وتعليمهم لغة بريل أيضاً، حيث يوجد لديهم مصاحف مكتوبة بهذه اللغة ويعطونها لمن يرغب بالحصول عليها، بالإضافة إلى تدريبهم على ممارسة الأنشطة الرياضية المختلفة مثل كرة الجرس والجري، ومن أجل مساعدتهم في معرفة أنواع الأدوية تم تقديم اقتراح لشركات الأدوية بحيث يتم وضع قارئ ضوئي (باركود) على عبوات الدواء، وبمجرد تسليط عدسة الكاميرا عليه يتمكن الكفيف من معرفة استخدام الأدوية المختلفة، وغيرها من المبادرات في المطاعم والمرافق العامة.

كما قال الزَقّة أن الجمعية تُرحب بكل من يرغب الإنضمام لها، من سن 18 فما فوق، لكن يجب احضار تقرير من وزارة الصحة الفلسطينية يتعلق بنسبة العجز لديه بحيث تكون من 80% فأكثر، ومن يثبت أنه أقل من ذلك لا يمكنه الانضمام، مضيفاً أن الجمعية تضم (150 عضواً) منهم (135 عضواً) يعانون من إعاقة بصرية أو إعاقة حركية وبصرية معاً، وما تبقى من الأعضاء مبصرون وتطوعوا للعمل فيها إلى جانب وظائفهم الأخرى، حيث يشكّلون (15 عضواً)؛ وذلك لمساعدة المكفوفين وتسيير أعمالهم.

ومن الجدير ذكره أن الأغبر يمثلُ واحداً من بين أعضاء الجمعية الذين لم تثنيهم إعاقتهم البصرية عن مواصلة حياتهم اليومية مثل أي شخص آخر في المجتمع، فمنهم من أكملوا دراستهم الجامعية وحصلوا على الشهادات العُليا، ومنهم من حفظوا القرآن الكريم كاملاً، في حين ان اخرين يمتلكون مواهب فنية مذهلة كالعزف على الآلات الموسيقية والغناء، ومنهم من توظفوا في العديد من المؤسسات، وغيرها من المهارات التي اكتسبوها وتمكنوا من تطويرها، بالإضافة إلى وجود عدد من الحالات الإنسانية التي تعمل الجمعية على متابعتها باستمرار.