د. خضير المرشدي
رئيس المعهد العالمي للتجديد العربي - العراق
في أرضٍ تُدعى فلسطين، تتساقط من السماء قذائفَ وتنهار بيوت كأوراق الخريف المحترقة، يقف شعبٌ وحيداً تحت ظلال الموت، غزة، تلك الجريحة التي تُنازع في بحرٍ من الركام، لم تعد مجرد مدينة، بل أصبحت لوحةً تراجيديةً تُرسم بالدماء، وتُكتب فصولها بأنين الأطفال ودموع الأمهات.. الحرب الإسرائيلية التي اندلعت في أكتوبر 2023، وتجددت في مارس 2025 بعد انهيار هدنةٍ واهية، ليست مجرد تصفية حسابات عسكرية، بل هي فصلٌ من ملحمةٍ حزينة، تتردد فيها أصداء الخيانة والخذلان، وتُعزف ألحانها على أوتار القلوب المكسورة.
تصوَّر مدينةً تُحتضر، بيوتها تتهاوى كأحلامٍ هشة، وأطفالها يموتون تحت القنابل دون أن توجد لهم يدٌ عربيةٌ تنتشلهم.. ياللعار الأبدي .. في غزة، حيث تجاوز عدد الشهداء 62,000، والجرحى ينزفون في شوارعَ تحولت إلى قبورٍ مفتوحة، يركض الناس بلا ملجأ، ويصرخون بلا مجيب، المستشفيات أضحت أطلالاً، والجوع يفتك بما تبقى من أرواحٍ أرهقها الحصار، ومن بقي من أهل الدار لا يعرف كيف يدفن موتاه .. لكن الألم الأعمق ليس في القذائف وحدها، بل في السكين التي تُطعن بها ظهورهم من إخوتهم العرب، الذين تخلوا عنهم كما تُترك جثةٌ في الصحراء للرياح والغربان. فهل هي فلسفة الخذلان ؟ في أن الإنسان مسؤولٌ عن اختياراته، لكن ماذا عن أمةٍ اختارت الصمت وهي ترى أشقاءها يُذبحون؟ العالم العربي، الذي كان يوماً صوتاً مدوياً لفلسطين، بات اليوم كجوقةٍ صامتةٍ في مسرحيةٍ تراجيدية، تُشاهد الدماء تتدفق دون أن تحرك ساكناً، الدول التي كانت ترفع شعارات الوحدة، آثرت مصالحها الضيقة، تاركةً غزة تواجه مصيرها وحيدةً كطفلٍ يُرمى في البئر.. هذا التخلي ليس مجرد تقاعسٍ سياسي، بل هو انهيارٌ أخلاقيٌ ووجودي، يُعيدنا إلى سؤال ازلي هل ماتت الإنسانية في قلوبنا؟ الجواب يتردد في صمت القمم العربية، وفي بياناتها الفارغة التي لا تُطعم جائعاً ولا تُوقف قنبلة... بعدما ذُبح يوسف في بئر الخيانة
فالعراق، يوسفَ هذه الأمة، ذلك الأخ الجميل الذي حمل همَّ فلسطين كما يحمل الأب ابنه المريض، في أيام مجده، كان صوتاً يصدح بالنصرة، يهيئ المقاتلين والدعم السخي ويُلهب الحماس في القلوب. لكن، كما في قصة يوسف النبي، جاء يومٌ ألقاه فيه إخوته في البئر، بئر الحروب والفوضى والاحتلال والإعدام والاجتثاث. أُضعف العراق، تُرك ينزف من جراحه، ثم جاءت الضربة القاتلة، التطبيع العربي مع إسرائيل، والصمت على دمار غزة، كأنما أُعدم يوسف مرتين – مرةً باحتلاله وإعدامه واجتثاثه وتفتيته، ومرةً بخيانة إخوته. اليوم، يرقد العراق كجثةٍ ممزقةٍ في مسرح الخذلان، ينظر إلى غزة بعينين دامعتين، عاجزًا عن مد يدٍ كان يمدّها في الماضي. نرى العراق بطلاً تراجيدياً سقط تحت وطأة المؤامرات والخذلان العربي.. صوته الذي كان يُغني لفلسطين قد خفت، وأصبح نشيداً حزيناً يتردد في أزقة بغداد المدمرة، بينما تُذبح غزة على مرأى من الأمة التي كان يوماً صوتها الأقوى.
وفي ظل الخذلان العربي، يبرز خداعٌ آخر يُضاعف المأساة.. الدور الإيراني المغلف بالوعود الكاذبة.. إيران، التي رفعت راية (دعم المقاومة) لم تكن يوماً مقاوِمة سوى أنها لاعب في مسرحٍ سياسيٍ بارد، تستخدم دماء الفلسطينيين كورقةٍ لتعزيز نفوذها مثلما استخدمت اللبنانيين والسوريين والعراقيين واليمنيين. لقد تورطت حماس، بقوة السلاح والتمويل الإيراني، في معركةٍ كانت (تعلم أو لا تعلم، لا أدري) أنها ستدفع ثمنها غالياً، لكن الوعود الإيرانية (بـالنصر العظيم) تبخرت كدخانٍ في سماء غزة المحترقة. لا جيوشَ إيرانية جاءت للنجدة، ولا صواريخ طهران غيرت مجرى الحرب. كل ما قدمته إيران كان كلماتٍ جوفاء كاذبة وخططاً أوقعت حماس في فخٍّ أعمق، تاركةً شعب غزة يواجه الموت وحده.
هذا الكذب ليس مجرد خيانةٍ سياسية، بل هو طعنة في قلب شعبٍ آمن بأصدقاء زائفين. إيران، كالمسرحي الماكر، أشعلت النار ثم وقفت بعيدًا تُشاهد الحريق يلتهم الأرواح ويهدم البلدان ويزرع الإحباط في النفوس، بينما تُردد شعاراتها الفارغة كنشيدٍ ساخرٍ فوق الجثث.
وراء هذا الاجرام الإسرائيلي، وخذلان العرب، وكذب إيران، تكمن رغبةٌ واحدة: محو الوجود الفلسطيني، القصف المتواصل، تدمير المستشفيات والمدارس، والحصار الذي يُجوع الأطفال، كلها أدواتٌ لكسر إرادة شعبٍ يرفض النسيان ويرفض أن يُمحى من ذاكرة التاريخ، فكل قنبلةٍ تُلقى تُولد مزيداً من الصمود، وكل طفلٍ يموت يُصبح رمزًا لمقاومةٍ لا تموت.. إسرائيل تُدرك ذلك، لكنها تستمر في جنونها، كأنها تبحث عن انتصارٍ وأمن وسلام لن تجده أبداً.
وكلنا يتساءل بصمت ما مصير هذه التراجيديا؟ هل ستُمحى غزة من الوجود، أم ستبقى شاهدةً على عار العالم؟ في المدى القريب، يبدو الدمار مستمراً، فقد أعلنت إسرائيل تصعيد هجماتها بهدف إفراغ غزة قتلاً وتهجيراً تنفيذاً (لوعد ترمب)، بينما يتفرج العرب وتتلاعب إيران من بعيد. لكن التاريخ يُعلمنا أن الشعوب لا تُهزم بالسلاح وحده. قد تُدمر المدن، لكن الروح الفلسطينية ستبقى تنبض، كزهرةٍ تخرج من بين الرماد.. إن لم يستيقظ الضمير العالمي، هي حربٌ أبدية، دائرةٌ من الدم والخذلان. لكن (الأمل الوحيد والبعيد وغير المرئي للأسف) يكمن في هبةٍ شعبية عربيةٍ حقيقية، تُنهي الصمت وتُعيد للعراق دوره كيوسف النصير، وتكشف كذب إيران، وتُجبر إسرائيل على وقف القتل. بدون ذلك، ستبقى غزة تنزف، وسيظل الأمة تحمل وزر خيانتها إلى الأبد.
في غزة، حيث يُذبح الأبرياء دون رحمة، يتردد صوتٌ حزين: أمٌ تبكي طفلها، أبٌ يودع ابنه، وشعبٌ يصرخ لإخوةٍ تخلوا عنه. فلسطين ليست قضيةً سياسية يا عرب، بل هي مرآةٌ لضميرٍ مات، ونشيدٌ حزينٌ لأمةٍ فقدت هويتها.. فهل ستُنهى هذه القصة بخلاصٍ لشعب بريء أم بدفنٍ أبديٍ تحت الركام؟
..............
وراء هذا الإجرام الإسرائيلي، وخذلان العرب، وكذب إيران، تكمن رغبةٌ واحدة: محو الوجود الفلسطيني، القصف المتواصل، تدمير المستشفيات والمدارس، والحصار الذي يُجوع الأطفال، كلها أدواتٌ لكسر إرادة شعبٍ يرفض النسيان ويرفض أن يُمحى من ذاكرة التاريخ.
شارك برأيك
على مسرح الخذلان.. ذُبح يوسف وأُغرقت غزة بدماء الشهداء