أقلام وأراء

الأربعاء 25 أكتوبر 2023 9:51 صباحًا - بتوقيت القدس

عِزَّةٌ بَعْدَ غَزَّة

تسقط نقطة دم من غين غزَّة، فينقلب الحرف عيناً، وتصبح غَزَّةُ عِزَّةً ومجداً.

المجتمع الدولي يحزن لرؤية الأشلاء والدمار، ثم يشيح عن المشاهدة؛ لا تجنباً لمكابدة الأسى، ولكن ليدعم الآلة الإسرائيلية، وهو مغمض الأعين، تكفيراً عن «اضطهاد الأوروبيين لليهود». الدم الفلسطيني بلا ثمن، فهو ليس من الدماء الزرقاء النادرة، بل يوجد منه كثير، لكن المعضلة فيه أنه من روافد نهر الأردن، كلما فاض حبلت الأرض بالأنسال، واستطال الشجر، وأينعت البيارات، ففاحت منها الذكريات العطرة، أقوى من رائحة البارود والجريمة؛ هو الصراع العنيد بين نجمة داود و«نجوم الظُّهر» التي يريها أهل فلسطين لغاصبيها. هو نزاع متمادٍ بين الخصيب والجديب، بين الطين المغذي لبطون الحوامل، والأسطورة القاحلة التي تلجأ إليها الصهيونية لتستخرج منها مزيداً من الخرافات لتحارب بها الحقيقة.

كلما شعرت الدولة العبرية بتنامي المعضلة الديموغرافية، لجأت لاستقطاب الأجناس واعدة إياهم بالجنة، التي لا يجدونها، فينقلبون عبئاً على المجتمع، عاطلين غالباً عن العمل، ومغرقين في التطرف والعنصرية.

ظنت الحركة الصهيونية أن توطيد دولة إسرائيل يقوم على إخلاء الأرض بتهجير أهلها ورميهم في الشتات، لكن قلة بقيت، فآل عددها الآن إلى أكثر من مليوني فلسطيني توارثوا التمسك بهويتهم عبر الأجيال، أمواتاً وأحياءً، وأجِنَّةً في الأرحام، يضاف إليهم نحو 6 ملايين بين الضفة الغربية وقطاع غزة، مقابل 6 ملايين من اليهود في دولة إسرائيل، تعيش كثرة منهم بين الاحتياط والطوابير المختصة بقمع أصحاب الدار، وقطعان الذئاب الجوية التي تنهش لحوم المستشفيات عن بعد آمن. أما الغالبية الساحقة فتذهب كل بضعةِ أشهر إلى انتخابات برلمانية في بحثها البائس عن فترة طويلة لحكم مستقر.

خالوا أنهم حاصروا الضفة بالمستوطنات و«غزة» من الأربع الجهات، فاستسلموا إلى استرخاء استراتيجي، إذ بدا لهم أن القضية الفلسطينية تراجع الاهتمام بها إلى الصفوف الخلفية، فباغتهم المُحاصَرون بضرب حزام الحصار وهزيمة قواته الحارسة، وَسَوْقِ قادتها إلى الأسر سعياً لتحرير من قضوا معظم أعمارهم في السجون، وها هم الآن يمدون أيديهم من وراء القضبان ليشدوا على أيادي من خرجوا من غامض أمكنتهم ومكامنهم، وسجلوا في ساعات قليلة حكمة خالدة، وهي أن التراب أقوى من الأسطورة.

سيطول العدوان، وستطول المقاومة، لأن العقل العنصري لا يستوعب فكرة السلام وإعطاء الحقوق، وهو يتذرع بأنه صاحب الأرض كلها بحكم مرسوم تلمودي زعزعته سواعد مئات من الأبطال، تفوقوا على التكنولوجيا، وعيون المخابرات، ودخلوا إلى العُقْر، ليعقروا رؤوسَ الأفاعي «بِغَزَّةٍ» نفذت إلى أعمق الأعماق.

ليست سطوري نصّاً وجدانيّاً صادراً عن شخص أخذته النشوة فأهمل النظر إلى النتائج المدمرة. فأنا أعلم تماماً أن المجزرة المتمادية، تُخَلِّفُ على مدار الثواني أهوالاً يخجل منها العصر الحجري وأكلة لحوم البشر، وتحول العمران دماراً، والبيوت قفراً، والأطفال أشلاء؛ لكن ما تفعله إسرائيل فعلت مثله من قبل، وارتكبت «دير ياسين» و«قانا» و«صبرا وشاتيلا» وازدرت بـ«القيامة»، و«الأقصى» و«الحرم الإبراهيمي»، واستباحت جنين ونابلس والمقاطعة في رام الله، وأنزلت بغزة أطناناً من الهمجية، ولكنها كانت تستفيق في كل مرة على أطفال أنضجوا الحصى في قِدْر العزيمة، وَسَخَّروا الطير الأبابيل التي عبرت أجنحتها بالقوادم والخوافي، لتنقض بالريش على الكواسر في مشهد ليس ينسى.

وفي كل مرة كانوا يرفضون أخذ العِبر، ويوغلون في الإنكار والإصرار، حتى باتوا ملفوظين رغم ما فُتِحَ لهم من أبواب، ومنبوذين من المشاعر العربية التي تتدفق اليوم في الشوارع، وينطق بها المسؤولون العرب الذين أعلنوا جميعهم بلغة حاسمة رفض التهجير والتشريد، ولو أدى ذلك إلى إعادة الأمور إلى سيرتها الأولى.

نحن نبكي على شهدائنا، وتلتهب قلوبنا حزناً، لكن الفلسطينيين هم الذين يُقْصَفون، وهم الذين يموتون، وهم الذين سيحيون في دورات الأرض المتجددة، ويتخطونها قشرة بعد قشرة، وَرمْلة بعد رملة.
مات الآلاف... وبقي الملايين، فأين المفر؟
ضمت القبور شهداء بلا شواهد ولا أسماء، وبقي الفلسطينيون على أرضهم التاريخية بأسمائهم الرنّانة، يفلحون ويزرعون ويحصدون، ويتعلمون، ويتفوقون ويرسمون الخطط على أبرع مما فعل «هيرتزل» المدعوم بحكومة «بلفور»، وعلى أقوى من دفق السلاح الغربي الوارد لمؤازرة العدوان، فقد علمتهم الأرض أنها أم الخليقة، وأنها في جديد المدار، تعيد إلى طينها الاعتبار، وتشحذ فيه سلاح السليقة.
* وزير لبناني سابق
بالاتفاق مع "الشرق الاوسط"

دلالات

شارك برأيك

عِزَّةٌ بَعْدَ غَزَّة

المزيد في أقلام وأراء

ملامح ما بعد العدوان... سيناريوهات وتحديات

بقلم: ثروت زيد الكيلاني

نتانياهو يجهض الصفقة

حديث القدس

هل الحراك في الجامعات الأمريكية معاد للسامية؟

رمزي عودة

حجر الرحى في قبضة المقاومة الفلسطينية

عصري فياض

طوفان الجامعات الأمريكية وتشظي دور الجامعات العربية

فتحي أحمد

السردية الاسرائيلية ومظلوميتها المصطنعة

محمد رفيق ابو عليا

التضليل والمرونة في عمليات المواجهة

حمادة فراعنة

المسيحيون باقون رغم التحديات .. وكل عام والجميع بخير

ابراهيم دعيبس

الشيخ الشهيد يوسف سلامة إمام أولى القبلتين وثالث الحرمين

أحمد يوسف

نعم ( ولكن) !!!!

حديث القدس

أسرار الذكاء الاصطناعي: هل يمكن للآلات التي صنعها الإنسان أن تتجاوز معرفة صانعها؟

صدقي أبو ضهير

من بوابة رفح الى بوابة كولومبيا.. لا هنود حمر ولا زريبة غنم

حمدي فراج

تفاعلات المجتمع الإسرائيلي دون المستوى

حمادة فراعنة

أميركا إذ تقف عارية أمام المرآة

أسامة أبو ارشيد

إنكار النكبة

جيمس زغبي

مأساة غزة تفضح حرية الصحافة

حديث القدس

بمناسبة “عيد الفصح”: نماذج لعطاء قامات مسيحية فلسطينية

أسعد عبد الرحمن

شبح فيتنام يحوم فوق الجامعات الأميركية

دلال البزري

البدريّون في زماننا!

أسامة الأشقر

تحرك الجامعات والأسناد المدني لوقف لعدوان

حمزة البشتاوي

أسعار العملات

السّبت 04 مايو 2024 11:31 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.74

شراء 3.73

دينار / شيكل

بيع 5.3

شراء 5.27

يورو / شيكل

بيع 4.07

شراء 3.99

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%74

%21

%5

(مجموع المصوتين 213)

القدس حالة الطقس