أقلام وأراء

الخميس 15 يونيو 2023 10:01 صباحًا - بتوقيت القدس

نظرة تأملية حول التعليم التحرري

عندما نتحدث عن منظومة التّعليم فإننا ندرك تماماً أن هذا المفهوم يشكّل منظومة حيّة تعد من أهم مقوّمات الدّولة ، بل شرطاً أساسياً لنهوض المجتمعات وتطورها سياسياً واقتصادياً وثقافياً ونيل الحُريّات للأفراد والجماعات ، إذ ترتبط مؤشرات التّنمية البشرية واحترام حقوق الانسان وتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي لأي دولة بشكل كبير بمدى التقدم في المجال التعليمي.


وقد ارتبط مفهوم التّعليم التحرّري بالمفكّر البرازيلي باولو فريري (1921-1997) ، علماً بأن التعليم التحــرّري سبقه فكراً وممارسة بمئات وأحياناً آلاف السنين، فالتّعليم بدأ تحرّرياً عندما لم يكن مرتبطاً بالمؤسسة ولا بالأيدولوجيا أو بمصلحة قوى مهيمنة ، بل ارتبط بحاجة الإنسان إلى المعرفة. فالتّعليــم في تشكّلاته البدائية هو أصلاً تعليم تحرّري، دون الحاجة إلى تسميته بهذا الاسم ، لكن حين أدرك الإنسان أن التعليم في ظلّ الدولة الحديثة يستلب الإنسان ويقهره، أدرك الحاجة إلى التعليم المضاد وسمّاه التعليم التحرري.


فالمتمعّن بقراءة كتاب باولو فيريري الشّهير(تعليم المقهورين) والمتأمّل في ثناياه يُدرك مدى خبرته التي اكتسبها في مجال التّعليم والسّياسة والحياة ، وملاحظاته نتيجة معاناته في سنواته من ظروف نفسية وسياسية قاهرة جعلته يُلقي بظلاله مفاهيماً ومبادئ تشكّل قاعدة يستند عليها في نشر الوعي الثقافيّ والتعليميّ في المجتمعات المتنوّعة .


إذ إن الإخلال بالمنظومة التعليميّة سوف يكون حائلاً دون تحقيق الكامل للتحرّر ، ذلك لأن المقهورين إذا لم يشعروا بإنسانتيّهم ووعيهم الثّقــافـي وحسّهم الوطنيّ لن يستطيعوا التّعامل مع بعضهم البعض ، بل لن يكون هنالك انسجام موحد بينهم حول الفكرة الحقيقية لمعنى للتحرّر، لذا لا بدّ من أن يدافعوا عن تعليمهم وعن إنسانيتهم وإنسانية قاهريهم في نفس الوقت .


نعم ، فالسعي الحقيقي نحو التّعلم هو الذي يتجسّد في محاربة وتحطيم الأسباب التي تدمّر في بيتها ظواهر الجهل والعلم الزائف ، فهذا النوع من العلم غير الحقيقي سوف يغلّ أيادي الخائفين والمحطمين والمنبوذين المرتعشة ، في حين أن العلم الحقيقي هو الذي يجعل تلك الأيادي تمتد طويلاً ، لا من أجل التسوّل ، بل من أجل مزيداً من العمل الإنسانيّ الوطنيّ الموعود بتغيير الواقع المأساوي نحو التحرّر. ذلك أن فكرة التعليم التحرّري والنضال العلمي من أجل استعادة إنسانية المقهورين هو في واقعه امتلاك لناحية القوة والإرادة الحقيقية ، كذلك فإن التعليم أساسه الاحترام الذي يقف في كل الظروف نقيض اللاأخلاق والشّعور بالعنف والكراهية التي تعتمل بها قلوب القاهرين.


هذا ما ذكره فيراري حين أبدى تخوّفه من خلال مرحلة نضاله مع المقهورين بدلاً من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريّتهم فإنّهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين، وهذا المظهر هو انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلّوا يعيشون فيه، فقد حلم هؤلاء أن يصبحوا رجالاً أحراراً متعلمين ولكن صورة الرّجل بقيت في مخيّلتهم هي صورة القاهر، لذا من الخطأ أن تحشو عقول المقهورين باعتقادات زائفة في التعلّم نحو التحرّر، فطريق الصّواب للقيادة الحقيقية في التّعامل مع المقهورين هي طريقة الوعي والعمل والحوار واحترام نقد الطرف الآخر ورأيه والصّدق والثّقة.


كذلك لا بدّ للمقهورين أنفسهم والذين قبلوا فيها تحمّل مسؤولية النّضال من أجل استعادة إنسانيتهم وكرامتهم أن يتسحوا بالإنسانية ، وأن يتسلّحوا بالعلم وأن يدافعوا عنه ، ذلك لأن نضالهم لا ينتهي فقط عند تحرير أنفسهم من غائلة الجوع ، ولا يكون بالشّعارات والأنظمة أو الاستغلال ، فهذه كلّها من أدوات السّيطرة غير الأخلاقية ، ولا يمكن أن تصبح بين عشيّة وضُحاها من أدوات النّضال واستعادة كرامة الإنسان ، فالوسيلة الوحيدة لتحقيق تعليم محرّراً هي التّعليم ذو الصبغة الانسانية القائمة على مبادئ الاخلاق وحرية التعبير والذي تقيم فيه القيادة نوعاً من الحوار الدائم مع المقهورين ، فمن خلال الحوار لا يمكن أن تكون طريقة التعليم وسيلة يسيطر بها الأساتذة (القيــادة) على التلاميذ (المقهورين) لأن هذه الطريقة تعبر عن ضمير المتعلمين أنفسهم.


وهنا وفي السياق ذاته يمكن أن نشير إلى النهج الذي وضعه فريري حول التعليم ، فقد وضع أساساً مهماً في عملية النظام التعليمي والذي يرتكز على الأخلاق والاحترام أولاً قبل أي شيء فالتعليم الذي يقوم على التّواضع والثّقـــة سيُكرّس العلاقة الأفقية بين المعلّمين ، وكذلك المتعلمين ، ذلك لأن الثقـــة في كل الظروف هي وليدة الصّدق الذي يُبديه المعلّم، فالمعلّم الإنسانيّ الصّادق يصل بالمتعلّمين إلى المستوى الذي يتّفــق مع أهداف تلاميذه الذين يرغبون في شغل أنفسهم بالتفكير النّقدي الذي يحقّق إنسانيتــــهم، فهذا المعلّم الذي يثـــق ثقـــة عظيمة بالرّجال وقدراتـــهم في الإبداع لن يقوم بدور المتسلّط ، بل سيقوم بدور المشارك مع تلاميذه .


وعلى وجه العموم فإن المسألة المهمة في التعليم الذي يستهدف الحرّية هو أن يشعر الرجال (التلاميـــذ) فيه كأساتذتهم ، أي يسمعون صوت أنفسهم وصوت زملائهم في مسائل تختص بالعالم الذين يعيشون فيه ، فهذا النّوع من التّعليم ينطلق من قناعة فحــواها أن المبدأ التّعليمي لا يكون تعليمـــاً ما لم يتخذ من التّحرّر أساســـاً له ، فهو يقدّم أسلــوب تعليم المقهورين بالطريقة التي يسهم فيها المقهورين أنفسهم بصورة إيجابية في العملية التعليمية.


والنّاظر لواقع الحياة المُعاصر يرى أن التّعليم العربيّ يعيش في أزمة قد تكون إحــدى الأسباب المُهمّة لكلّ الأزمــــات الأخرى السّياسيـــة والاقتصاديــــة والاجتماعيــــة.


ولأن لكل مجتمع في عصرنا الحالي ثقافتـه الخاصـة به، التي تنظم حركتـه، وُتحدد قيمه ومعتقداته وعلاقاته، وولاء وانتماء أفراده، فمن المعروف أن أهم ما يُكوِّن ثقافة المجتمع الجوانب الاجتماعية المتمثلة في القيم، والمعتقدات، والعادات، ونمط العيش، وممارسات الحياة الاجتماعية، فالمجتمع الأكبر الذي يعيشون فيه وتقاليده وأعرافه، سواء كانت هذه العادات والتقاليد أمراضاً اجتماعية، أم قيماً وتقاليد إيجابية؛ فالمجتمع الذي يتمسك أفراده بمصالحهم الضيقة؛ فإن ذلك يؤثِّر في سلوكهم وأخلاقهم والذي سينعكس تماماً على نمط العملية التعليمية.

ولا ننسى دور النّظام التعليمي في المجتمع وفي تكوين القيم الأخلاقية وتنمية فكرة التّعلم التحرّري لدى الأفراد، وهذا ما انتبه إليه مبكرّاً باولو فريري الذي دعا إلى اعتماد نهج التعليم الحواري ومشاركة المتعلم في العملية التعليمية بدلاً من التعليم البنكيّ أو اللّاحواري، الذي يتعامل مع المتعلّم كوحدة صمّاء وسلبية وفاقدة الفاعلية ، إذ ركّز فريري على أهمية تحقق الفاعلية بممارسة المتعلمين التجربة النّضالية والتحرّرية بدلاً من تعلّمها فحسب ، وهو ما يؤدي إلى شقّ الطّريق أمام تحرير الطلبة لذواتهم، ويهيئهم لتغيير الواقع والمشاركة في إعادة تشكيله، بما يحقق بدوره عملية التّحرير الجماعي لأفراد المجتمع.


على أي حال لا بدّ من القول بأنّنا اليوم بحاجة إلى إعداد الجيل الذي يتعلم كيف يتعلم، وإلى الجيل الذي يبحث ويحلّل ويقارن ويستنتج ، وإلى الجيل الذي ينتقد ويعدّل ويقترح ويضيف، إلى السّيل المتدفق من المعرفة، وإلى الجيل الذي يكون له تفكيره المستقل، دون اعوجاج أو تطرّف، إلى الجيل القادر على إدارة الأزمات سياسية كانت أو اقتصادية، إلى الجيل القادر على الإبداع، والتفكير، والابتكار، والتطوير، وإلى الجيل الذي يهتم بالجانب الرّوحي، والفكري، والمهني، ويشارك في البناء والإصلاح، في مختلف المستويات، المجتمعيّة والوطنيّة والعالميّة، وعلى مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولعل الرسالة الأقوى التي ينبغي التذكير بها هنا هي ضرورة تكاتف جميع مؤسسات الدولة لمواجهة التحديات التي تواجه العملية التعليمية والتربوية ، وتبنّي فلسفة تعليمية واضحة تتكامل فيها مختلف آليات العمل فــــي جميع المستويات التعليمية ، بحيث تجسّد الدّولة خلال هذه الفلسفة منظوراً تعليميّاً مُتحرّراً نابعــاً من ثقافتها وقيمها وعاداتها، ويساهم في تطوير العملية التعليمية ويحقق أهدافنا المرجوة نحو تعليم تحرّريّ أفضل .

دلالات

شارك برأيك

نظرة تأملية حول التعليم التحرري

المزيد في أقلام وأراء

نتانياهو وفيتو صفقة التبادل

حديث القدس

هل ما زالت ألمانيا تكره الحروب؟

وليد نصار

مكاسب استراتيجية للفلسطينيين

حمادة فراعنة

دورنا في مواجهة المعادلات الجديدة في ظل عجز أمريكا وأزمة إسرائيل

مروان أميل طوباسي

حماس وطوفان الأقصى.. والإكراهات الجيوسياسية

ماجد إبراهيم

رفح ثغر الشعب و حبل الصرة مع الأمة

حمدي فراج

رفح بين الصفقة والحرب

حديث القدس

رحيل الطبيب والوجيه الفاضل د. جواد رشدي سنقرط

معتصم الاشهب

الاسرى الفلسطينيون في مواجهة “مخططات هندسة القهر” الإسرائيلية

اسعد عبد الرحمن

هل سيجتاح نتنياهو رفح؟

المحامي أحمد العبيدي

الدولة العميقة في أمريكا تقرر مواصلة الحروب

راسم عبيدات

رفح في مرمى العاصفة

حديث القدس

الدعم الأميركي والعقوبات على «نيتساح يهودا»

إميل أمين

مسارات الحرب في مرحلتها الثالثة

معين الطاهر

وحدة الضفتين أنموذج للفكر الوحدوي الهاشمي

كريستين حنا نصر

لماذا يقف الأردن مع فلسطين

حمادة فراعنة

"عقوبات" أمريكية مع 26 مليار دعم.. تبرئة للمجرمين وتمويه الشراكة بالإبادة

وسام رفيدي

"التخطيط للمستقبل مع قائد السعدي : استراتيجيات التغلب على الأزمات المالية للشركات الناشئة"

قائد السعدي

عالم صامت امام عدوان إسرائيل على كل معالم الحياة البشرية ..!!

حديث القدس

كأن هذه الامة استمرأت الهزائم و لم تعد تحب الانتصار

حمدي فراج

أسعار العملات

السّبت 27 أبريل 2024 8:23 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.81

شراء 3.79

يورو / شيكل

بيع 4.07

شراء 4.05

دينار / شيكل

بيع 5.41

شراء 5.39

رغم قرار مجلس الأمن.. هل تجتاح إسرائيل رفح؟

%73

%22

%5

(مجموع المصوتين 166)

القدس حالة الطقس