أقلام وأراء
الإثنين 15 يناير 2024 9:59 صباحًا - بتوقيت القدس
100 يوم من الحرب على غزة: التداعيات والمسارات والمآلات
دعونا في البداية، ونحن نتحدث عن مسار الحرب الجارية في غزة، نؤكد على قناعة أصبحت من المُسَلَّمات لدى معظم الاستراتيجيين العسكريين والسياسيين مفادها أن نتيجة معركة طوفان الأقصى حُسِمَت منذ يومها الأول أي في السابع من أكتوبر بهزيمة الاحتلال وتفوق وتقدم المقاومة من خلال انتقالها من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم.
فالنجاح الباهر الذي شهده الهجوم على غلاف غزة وما حققه من إنجازات تتلخص في اختراق مواقع عسكرية، والاستيلاء على بنك معلومات استخباراتية، وأسر لعشرات الجنود، أدى إلى تقويض ثلاث دعامات استراتيجية تأسس عليها الاحتلال الغاصب وتتمثل في:
-تقويض دعامة الأمن الوجودي المشجع على هجرة المزيد من اليهود وضمان بقائهم واستقرارهم.
-تقويض دعامة التفوق العسكري المحقق لكل شروط الهيمنة والردع في المنطقة.
-تقويض دعامة التفوق الاستخباراتي الذي كان يُقَدَّم للعالم على أنه جهاز يخترق كل الأنظمة ويستبق كل المخططات ويتحكم ويُحَدِّد معالم كل الأحداث التي تجري أو ممكنة الوقوع في المنطقة.
لقد تمكنت المقاومة من خلال معركة طوفان الأقصى أن تُظهِر الاحتلال على غير صورته النمطية وتكشف حقيقة ضعفه وتُسقِط جميع المقولات التي كان يُسَوَّقُها عن نفسه من قبيل الجيش الذي لا يقهر، والاستخبارات التي لا تخفى عليها من العالم خافية.
إن السابع من أكتوبر وما حمله من تداعيات استراتيجية، كان لحظة فارقة في تاريخ المقاومة، وكان منعطفا جديدا في مسار القضية الفلسطينية حيث أخرجها من دائرة التهميش إقليميا ودوليا وجعلها قضية كل العالم، كما أفشل كل المخططات التي كانت تحاك ضد الشعب الفلسطيني بعد الإعلان عن صفقة القرن، وانطلاق مسلسل التطبيع، وبدء الإعداد لشرق أوسط جديد تلعب فيه “إسرائيل“ دور القائد الإقليمي في المنطقة، وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتصفية القضية الفلسطينية إما عن طريق المساومة أو عن طريق القضاء على المقاومة.
فكانت معركة طوفان الأقصى عملية استباقية وحرب استراتيجية ساهمت من جهة في تعطيل كل مخططات التصفية التي باركتها الأنظمة العربية المطبعة، وساهمت من جهة أخرى في إعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة المنتظم الدولي.
هكذا وبعد مرور 100 يوم عن الحرب على غزة، وبعد ارتقاء ما يقارب 24 ألف شهيد، وما يناهز 10 ألاف مفقود، وما يزيد عن 55 ألف جريح، وتدمير آلاف المباني العمرانية، ونزوح مئات الآلاف من شمال غزة نحو جنوبها، واستهداف كل المرافق المدنية بما فيها المستشفيات والمدارس والجامعات والكنائس والمساجد ومؤسسات الأونروا ومنع قوافل المساعدات، لم يحقق جيش الاحتلال أيا من أهدافه التي أعلن عنها عبر وسائل الإعلام والمتمثلة في:
– تحرير الرهائن- القضاء على حماس- إقامة سلطة إدارية منزوعة السلاح في غزة.
أما الهدف الميداني غير المعلن عنه والذي كان ولا زال يصبو إليه الجيش من خلال آلة تدميره الهمجية فهو تخيير أهل غزة بين الموت على أرضهم أو الهجرة إلى سيناء.
فأمام هذا العجز العسكري الغربي، وأمام الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية في غزة على كل جبهات القتال، وأمام فشل العملية البرية وتكبد العدو خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، لم يجد الجيش “الأكثر أخلاقية” كما يحلو له تسمية نفسه، بُدّاً من استهداف الأطفال والنساء ورفع الكلفة البشرية للدفع بالحاضنة الشعبية للمقاومة إلى الانقلاب عليها وإرغامها على ترك أنفاقها ووضع سلاحها حفاظا على الأرواح والممتلكات وضمانا لحياة كيفما كانت هذه الحياة، وهو الأمر الذي لم يتَأتَّ لجيش الحَفَّاظَاتِ، ما جعله متورطا في حرب استنزاف لا قِبَلَ له بها، ليبقى أمامه حل وحيد يمتلك قراره، هو الانسحاب من غزة وهو يجر أذيال هزيمته التاريخية.
وفي خضم 100 يوم من الحرب على غزة وصمود مقاومتها، استفاق ضمير العالم واستعادت الشعوب وعيها وصحت من غفوة الكذبة الاحتلال في معظم عواصم العالم، وانكشفت حقيقة “إسرائيل الضحية“، وعبَّرت المسيرات والوقفات التضامنية مع فلسطين والمقاطعات للبضائع والمحلات والشركات الداعمة للإحتلال عن مطالبة كل أحرار العالم بإنهاء الاحتلال وتحرير فلسطين .
لم يتوقف الدعم العالمي لفلسطين عند الحراكات الشعبية بل تعداه ليشمل دعما دوليا رسميا من خلال رفع دولة جنوب إفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد الاحتلال متهمة إياه بنية الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل.
وهذه الخطوة غير المسبوقة التي دعمتها عدة دول لا تقل أهمية عن معركة طوفان الأقصى التي قوضت كما أشرنا عدة دعامات استراتيجية، فكذلك تعد هذه المحاكمة لحظة فارقة في تاريخ الاحتلال كونه يَمثُل لأول مرة كدولة أمام محكمة دولية، ويُرغَم على وضعه في حالة دفاع تماما كما كان حاله إبان معركة 7 أكتوبر، وتوجه له تُهَمُ جرائم حرب بعدما كان يُعَربِد طيلة 75 سنة على قرارات المنتظم الدولي ومؤسساته.
صحيح أن أحكام محكمة العدل الدولية لن تكون ملزمة كما هو الشأن في حرب روسيا على أوكرانيا، لكنها ستُخرِج الاحتلال من دور ضحية الهولوكوست الذي قُدِّمَ للعالم كتبرير لاحتلاله أرض فلسطين، إلى مجرم هولوكوست يتوجب عليه ترك الأرض لأصحابها.
ومن ثم فإن محكمة العدل الدولية إن هي قضت شكلا واستعجالا خلال الأيام القابلة، بوجود نية الإبادة الجماعية لدى جيش الاحتلال، فإن هذا الحكم سيكون بمثابة منعطف آخر في تاريخ القضية الفلسطينية، وسيكون له الأثر البليغ في تغيير المناخ السياسي الدولي تجاه ما يسمى “دولة إسرائيل”، وسيفقد هذا الدولة رابع دعامة لتأسيسه ألا وهي التعاطف الشعبي الغربي مع حق اليهود الصهاينة في وطن آمن ومستقر، والذي كان وليد تأنيب الضمير الأخلاقي جراء “محرقة الحرب العالمية الثانية”.
فشتان بين جنوب إفريقيا التي ذاق شعبها وساستها وقادتها وبال الميز والقهر العنصري من لدن نظام الأبرتهايد المجرم، والاحتلال الإسرائيلي الذي يَدَّعي أن قادته وساسته وشعبه المؤسِّس كانوا أو كان أباءهم من الناجين من المحرقة.
ووجه الفارق هنا، أن الذين عاشوا حقا الميز العنصري وتذوقوا مرارته وخبروا تداعياته، هبوا إلى نصرة شعب لا تربطهم به سوى الإنسانية والمعاناة المشتركة، فوضعوا مبادئهم وقيمهم الأخلاقية فوق كل المصالح الاقتصادية.
أما الاحتلال الذي يدعي تعرضه للمحرقة، ويدعي تعرضه للإبادة الجماعية من قِبَل النازية والفاشية الغربية الأوروبية، فهو يمارسها في حق شعب بريء لا علاقة له بها.
فما الفرق بين أن تُحرَقَ داخل فرن غازي أو أن تَحرِق غيرك بالقنابل العنقودية والفوسفورية، النتيجة واحدة هي الإبادة.
في مقابل كل هذا الحراك العالمي تصطف الدول الغربية إلى جانب الاحتلال، وتعطيه الحق في تصفية المقاومة، وتسمي ذلك دفاعا عن النفس، مع تزويده بالمال والسلاح والخبرة والمعلومات، وتأمين ظهره وحمايته من مغبة توسع دائرة وجبهات الحرب، ناهيك عن شل كل قرارات مجلس الأمن الداعية إلى وقف الحرب أو إدانة “إسرائيل“ عبر استخدام ورقة الفيتو. أما آلتها الدبلوماسية فكما تابعنا لم تتوقف عن جولاتها المكوكية بين عواصم المنطقة والإقليم لحملها على تقبل الوضع والسكوت عن فظاعاته، وإرغامها على المشاركة في حل الوضع الراهن، والمساهمة في مرحلة ما بعد الحرب.
وبناء على كل ما سبق يتبين أننا إزاء تحولات استراتيجية ستُحَدِّدُ معالمَها نتيجة معركة طوفان الأقصى، ونتيجة محكمة العدل الدولية، وأيضا يقظة الضمير العالمي وما سيكون له من تأثير في اختيار الرؤساء والحكومات خاصة في الدول المسماة ديمقراطية، بحيث أن الشعوب الغربية قد أصبحت واعية بخطورة الأحزاب والحكومات الموالية للاحتلال وما يترتب عن ذلك من خرق للقيم الإنسانية وهدر لأموال الشعوب في دعم للاحتلال على حساب المصالح الوطنية.
أما شعوبنا العربية فقد أسقطت آخر ما تبقى من آمال ضئيلة في الحكام العرب وحكوماتهم، وتيقنت بما لا يدعو شك أن هذه الأنظمة هي مجرد مقاطعات ذيلية للنفوذ الامريكي الداعم لإسرائيل، وأدوات طيِّعة في يدها تستعملها لإسكات الشعوب من جهة، وتصفية أم القضايا فلسطين من جهة أخرى.
إن ما يدفعنا إلى التفاؤل المفرط حول مستقبل فلسطين رغم كل الدمار الذي تعيشه والمخططات التي تحاك ضدها، والتخاذل الذي تتجرعه، هو وضوح الطريق نحو التحرير، ووضوح العقبات الواجب اقتحامها، ووضوح الآليات الواجب استخدامها، ووضوح مسؤولية الشعوب تجاه هذه القضية الأمانة، واقتناع كل أحرار العالم أن الاحتلال ومن يدعمه اللبرالية العالمية أضحت خطرا كبيرا على الإنسانية في كل مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية…، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا.
*باحث في الفلسفة السياسة والأخلاق
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
ترامب المُقامر بِحُلته السياسية
آمنة مضر النواتي
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الميدان يرد بندية على ورقة المبعوث الأمريكي الملغّمة
وسام رفيدي
تماسك أبناء المجتمع المقدسي ليس خيارًا بل ضرورة وجودية
معروف الرفاعي
المطاردون
حمادة فراعنة
فيروز أيقونَة الغِناء الشَّرقي.. وسيّدة الانتظار
سامية وديع عطا
السلم الأهلي في القدس: ركيزة لحماية المجتمع المقدسي ومواجهة الاحتلال
الصحفي عمر رجوب
إسرائيل تُفاقم الكارثة الإنسانية في غزة
حديث القدس
شتاء غزة.. وحل الحرب وطين الأيام
بهاء رحال
المقاومة موجودة
حمادة فراعنة
وحشية الاحتلال بين الصمت الدولي والدعم الأمريكي
سري القدوة
هوكشتاين جاء بنسخة لبنانية عن إتفاق أوسلو!
محمد النوباني
ماذا وراء خطاب نتنياهو البائس؟
حديث القدس
الأكثر تعليقاً
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
أبو الغيط: الوضع في فلسطين غير مقبول ومدان ولا يجب السماح باستمراره
الأردن: حكم بسجن عماد العدوان 10 سنوات بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة"
ضابط إسرائيلي يهرب من قبرص بسبب غزة
مصطفى: الصحفيون الفلسطينيون لعبوا دورا محوريا في فضح جرائم الاحتلال
سموتريتش يضع البنية التحتية المنطقة (ج) في مهبّ أطماع المستوطنين
الاحتلال الإسرائيلي يتوغل في القنيطرة السورية ويعتقل راعيا
الأكثر قراءة
ماذا يترتب على إصدار "الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
نتنياهو يقمع معارضيه.. "إمبراطورية اليمين" تتحكم بمستقبل إسرائيل
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
بعد مرسوم بوتين.. هل يقف العالم على الحافة النووية؟
زقوت في حوار شامل مع "القدس".. خطة حكومية لوضع دعائم بناء دولة مستقلة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أسعار العملات
الأربعاء 20 نوفمبر 2024 9:43 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.74
شراء 3.73
دينار / شيكل
بيع 5.28
شراء 5.26
يورو / شيكل
بيع 3.96
شراء 3.95
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%53
%47
(مجموع المصوتين 81)
شارك برأيك
100 يوم من الحرب على غزة: التداعيات والمسارات والمآلات