أقلام وأراء
الأحد 10 ديسمبر 2023 9:50 صباحًا - بتوقيت القدس
اغتيال المدينة والإنسان والحضارة
تتفق الشرائع الدينية والدنيوية على أن حياة البشر أعلى قيمة وأولى بالرعاية والاهتمام من الحجر والمنشآت العمرانية بما فيها الأماكن الاكثر قداسة، ولنا في الحديث الشريف "لأَن تُهدم الكعبة حجرًا حجرًا، أهون عند الله من أن يراق دم امرئٍ مسلم" خير دليل على ذلك. ولكن وبمقدار ما تنفطر قلوبنا وقلوب العالم الحر، على ما يُقترف في غزة من فظائع واستهداف متعمد للأطفال والنساء، بمقدار ما يتعاظم قهرنا وألمنا على ما ترتكبه آلة الحرب الإسرائيلية من جرائم إبادة وتدمير ضد معالم الحياة في قطاع غزة ولا سيما في مدينة غزة، المدينة الضاربة في أعماق التاريخ والحضارة الإنسانية، والتي شكلت على امتداد أكثر من أربعة آلاف عام مركز اتصال رئيس بين مختلف حضارات الشرق والغرب. يكفي أن نذكر أن غزة هي المدينة التي كان يقصدها هاشم بن عبد مناف الجد الثاني للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ضمن "رحلة الشتاء والصيف" التي كان "السيد هاشم" كما يسميه الغزيون أول من رسخ تقاليدها، فحملت اسمه تكريما له ولها، وما زال مسجد السيد هاشم شاهدا على هذه المكانة الفريدة لغزة التي ولد فيها الإمام الشافعي أحد الأئمة الأربعة.
ما الذي تهدف إليه إسرائيل من قصف المسجد العمري الكبير، الذي يعود تاريخه إلى ما قبل الإسلام والمسيحية، وكان معبدا لإله الفلسطينيين القديم "داجان" ثم تحول إلى كاتدرائية، وبعدها إلى مسجد وأعاد الصليبيون تحويله إلى كنيسة باسم يوحنا المعمدان، ليعيده الأيوبيون وبعدهم المماليك إلى مسجد. ويرد ذكر هذا المسجد التاريخي وفضله في كتب الرحالة، وقد صمد مبناه ومكانته في كل عهود الممالك القديمة والحكم المصري لبلاد الشام والفرس والروم والبيزنطيين والعرب المسلمين والصليبيين والمماليك والعثمانيين وصولا إلى الانتداب البريطاني والإدارة المصرية، لتأتي الفاشية الإسرائيلية وتقرر تدمير المسجد بعد تسعة اسابيع من الحرب التي طالت كل معالم الحضارة فشملت المستشفيات والجامعات والمدارس والكنائس والبلدية ومركز رشاد الشوا، وخزانات المياه ومحطات توليد الطاقة والصرف الصحي.
وصف بنيامين نتنياهو في خطابه الحربي الأول غزة ب"مدينة الشر" متوعدا بتحويلها إلى ركام وخرائب، مستلهما الأساطير التوراتية التي تتحدث عن قيام يوشع بن نون بتدمير المدن التي يمر بها جيشه فيقتل سكانها ويحرقها ويخربها. وذلك لم يحصل حتى في النكبة الفلسطينية الكبرى لم تلجأ العصابات الصهيونية، وبعدها الدولة الإسرائيلية، إلى تدمير المعابد وبعض البنايات العامة في المدن والبلدات التي اقتلع منها سكانها. فما زالت الكنائس والمساجد في يافا وصفد وطبريا والقدس الغربية والمجدل واسدود وعشرات القرى المدمرة تشهد على هوية من سكنوا هذه البلاد وعمروها قبل الغزو الصهيوني.
لا ترتبط جرائم تدمير معالم الحياة الإنسانية والحضارية فقط بشهوة الانتقام، واستعادة بعض الهيبة وقوة الردع التي تحطمت في السابع من أكتوبر، كان يمكن لمقتل وإصابة نحو 3% من إجمالي أعداد السكان في قطاع غزة (20 ألف شهيد و45 ألف جريح) أن يحقق بعض هذه الأهداف الانتقامية التي تليق بعصابة وليس بدولة قانون. ولا أحد في هذا العالم يصدق أن أعمال التدمير يمكن لها أن تساهم في القضاء على حماس أو استعادة الأسرى كما يكرر المسؤولون الإسرائيليون يوميا، ويردد من ورائهم الناطقون باسم البيت الأبيض والخارجية الأميركية دون تدقيق أو تمحيص.
ثمة أهداف استراتيجية غير معلنة ولكن يمكن رؤيتها وقراءتها من أفعال الطائرات والقاذفات والدبابات والبحرية، وليس من تصريحات المسؤولين الإسرائيليين. فإسرائيل تحدد أهدافا تكتيكية واستراتيجية مع بدء الحرب، ولكنها تعيد صياغتها وتكييفها في ضوء الأداء الميداني وردود الفعل الإقليمية والدولية، إلى جانب الحالة الداخلية الإسرائيلية. صحيح أن ثمة أهدافا جزئية تحققت مثل تكبيد الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا يفوق مقدار الخسارة التي لحقت بإسرائيل في السابع من أوكتوبر عشرات المرات، وبالتالي خلق قناعات راسخة لدى الجيل الفلسطيني الحالي والأجيال اللاحقة، كما لدى الأطراف العربية والإقليمية كافة، باستحالة التصدي لإسرائيل، أو أن اي محاولة للتعرض لإسرائيل ستتعود بنتائج وخيمة وكارثية على صاحبها. لكن الأبعد من ذلك هو المحاولات الإسرائيلية للتخلص من غزة، إقليما مزعجا يقف كالشوكة في خاصرة إسرائيل، وسكانا يزيد عددهم عن المليونين ويجسدون بشكل حيّ آثار النكبة الفلسطينية الكبرى، وما زالوا يتمسكون بحق العودة، غزة التي حلم اسحق رابين ذات يوم بأن يصحو وقد ابتلعها البحر، لتخرج بسكانها ولاجئيها ومقاومتها وتاريحها الذي حافظ على الهوية الوطنية الفلسطينية من الشطب والاندثار، من معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
لم تُخفِ إسرائيل عزمها على تهجير الفلسطينيين عبر نكبة ثانية، وإخلاء قطاع غزة من السكان حفاظا على حياتهم وبشكل مؤقت كما ادعى بعض المسؤولين السياسيين والعسكريين، ولكن أمام الرفض المصري والأردني والعربي والدولي، أعادت إسرائيل صياغة خططها لتستهدف التهجير الداخلي من شمال القطاع لجنوبه أولا، ثم من خانيونس ورفح إلى منطقة المواصي لتحشر أكثر من مليوني فلسطيني في منطقة تفتقد لكل مقومات الحياة، وتخلق بذلك كارثة إنسانية وتضغط على العالم كله وخاصة على مصر أخلاقيا وإنسانيا.
تدمير معالم الحياة في مدينة غزة، هو جزء من مخطط التهجير، ومحاولة مكشوفة لمنع السكان من العودة وقد راينا ذلك خلال الهدنة من خلال استهداف من يحاولون العودة من الشمال للجنوب، ثم تواصل الإجرام بالقصف المكثف والمجازر المتحركة في أحياء جباليا والشجاعية والزيتون، وصولا إلى مشاهد إذلال الرجال لدفعهم إلى الهجرة جنوبا، ومحاولات إغراق الأنفاق بمياه البحر للقضاء على اي فرصة لاستئناف الحياة.
اغتيال المدن والحضارة والتاريخ، وتدمير المعالم الحضارية والإنسانية، والقضاء على كل مقومات الحياة إلى جانب القصف والمجازر هي الشروط المادية للتهجير، صحيح أن حياة الإنسان تبقى هي الأغلى، لكن القضاء على مقومات حياته ودلائل علاقته بالأرض تستهدف هذا الإنسان الفلسطيني أولا واخيرا.
دلالات
فلسطيني قبل 12 شهر
لعنة الله على من يدعون الحضارة والانسانية وهم يقتلون زيدمرون ولعنة الله على يؤيدهم ومن سكت إلا لعنة الله على الظالمين
المزيد في أقلام وأراء
سيادة العراق ولبنان في خندق واحد
كريستين حنا نصر
إسرائيل ترفع وتيرة قتل الفلسطينيين
حديث القدس
توفير الحماية العاجلة والفورية لأطفال فلسطين
سري القدوة
حقائق حول انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وصولاً لمذكرات الاعتقال
د. دلال صائب عريقات
سموتريتش
بهاء رحال
مبادرة حمساوية
حمادة فراعنة
Google تدعم الباحثين بالذكاء الاصطناعي: إضافة جديدة تغيّر قواعد اللعبة
بقلم :صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي
التعاون بين شركة أقلمة والجامعات الفلسطينية: الجامعة العربية الأمريكية نموذجاً
بقلم: د فائق عويس.. المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أقلمة
أهمية البيانات العربية في الذكاء الاصطناعي
بقلم: عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي
ويسألونك...؟
ابراهيم ملحم
الحرب على غزة تدخل عامها الثاني وسط توسّع العمليات العسكرية الإسرائيلية في الجبهة الشمالية
منير الغول
ترامب المُقامر بِحُلته السياسية
آمنة مضر النواتي
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الأكثر تعليقاً
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
اللواء محمد الدعاجنة قائداً للحرس الرئاسي
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
زعيمة حركة استيطانية تدخل غزة بدون علم الجيش لإعادة الاستيطان
"الجنائية" تتحرك أخيراً ضد الجُناة.. قِيَم العدالة في "ميزان العدالة"
واشنطن ترفض قرار المحكمة الجنائية الدولية بإلقاء القبض على نتنياهو وغالانت
نيويورك تايمز تكشف تفاصيل اتفاق وشيك بين إسرائيل ولبنان
الأكثر قراءة
نتنياهو و"الليكود" يتربصان بغالانت لفصله من الحزب وإجباره على التقاعد
لائحة اتهام إسرائيلية ضد 3 فلسطينيين بزعم التخطيط لاغتيال بن غفير ونجله
ماذا يترتب على إصدار "الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
نتنياهو يقمع معارضيه.. "إمبراطورية اليمين" تتحكم بمستقبل إسرائيل
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أسعار العملات
السّبت 23 نوفمبر 2024 10:34 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.7
شراء 3.69
دينار / شيكل
بيع 5.24
شراء 5.22
يورو / شيكل
بيع 3.85
شراء 3.83
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%53
%47
(مجموع المصوتين 95)
شارك برأيك
اغتيال المدينة والإنسان والحضارة