Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo
Logo

أقلام وأراء

الخميس 03 أغسطس 2023 10:00 صباحًا - بتوقيت القدس

ملحمة الحياة والموت في سجون الاحتلال

أن تكتب عن جثث متحركة ومحطمة وتعيش في وسطهم أربع سنوات وأكثر، تراقب موتهم البطيء وحياتهم المهدورة، أن تسمع أوجاعهم وصرخاتهم وأحلامهم المكسورة، أن ترى الموت وتلمسه وتحاول أن تصده بيديك وبقلبك وبدعائك، تارة تهزمه وتارة يهزمك، أن لا تجد نافذة تطل عليك، فوقك تراب وتحتك تراب، الصمت سيدك الوحيد في هذه المقبرة التي تسمى عيادة مستشفى الرملة، كل هذا وأكثر عاشه الأسير الفلسطيني راتب حريبات ابن دورا الخليل والمحكوم 22 عاماً، كيف استطاع ذلك؟ وأي قوة إنسانية أعطته القدرة أن يكون هناك؟ أسيراً وطبيباً ومرشداً وشاهداً ومعالجاً ومقاتلاً ويجمع كل هذه الصفات في مسيرة الصراع المستمر بين الموت والحياة.

في ذلك المسلخ، جيتو عيادة الرملة المكان الذي يتجمع فيه الأسرى المرضى من ذوي الحالات الخطيرة والصعبة، كتب الأسير راتب حريبات تجربته الأسطورية التي تشبه المعجزة في إصداره الجديد بعنوان لماذا لا أرى الأبيض؟ وكيف يرى الأبيض وكل شيء مغلق ومعتم، الأطباء والممرضون لا يلبسون الأبيض ككل أطباء العالم، حتى الأجهزة الطبية والأدوات لونها أسود.

كل شيء قاتم في ذلك المسلخ الذي خرج منه عشرات الأسرى شهداء ومقتولين داخل أكياس سوداء، لا أبيض في قلوب الممرضين والأطباء الذين يمارسون دور السجان، لباسهم عسكري، لغتهم حربية، أدواتهم وأدويتهم إما أن تكون مسكنات ومخدرات للجسد المنهك أو لإجراء التجارب الطبية، إنهم حراس جهنم، هم أنفسهم الذين يقيدون الأسير المريض، وهم أنفسهم الذين يغلقون عليه الأبواب، وهم أنفسهم الذين يشاركون محاكم الاحتلال برفض الإفراجات المبكرة عن الأسرى المرضى لأسباب صحية، وهم أنفسهم الذين يشاركون في تعذيب الأسرى نفسياً وجسدياً من خلال الاستهتار بتقديم العلاجات اللازمة لهم، هم أنفسهم الذين ينتهكون علناً كل المواثيق الطبية والأخلاقية والقانونية ويأخذون أوامرهم من جهاز المخابرات الإسرائيلي.

لم ير راتب حريبات الأبيض في سلوك ومعاملة هؤلاء الأطباء الذين يصمتون عن الجرائم الطبية المنظمة، شركاء في ارتكابها، شركاء في العديد من الأخطاء الطبية المقصودة، شركاء بالسماح بنقل الأسرى المرضى في ما يسمى سيارة البوسطة الحديدية المغلقة وما تسببه من معاناة جسدية ونفسية للأسير المريض، شركاء في رفض الإفراج عن الأسرى المرضى وحتى عن جثثهم المحجوزة في الثلاثجات الباردة، وقد احتمل راتب حريبات هذا الوضع وهو يرى الموت يمشي بلا أقدام كما يقول، يرى السرطان ينهش أجساد زملائه شيئاً فشيئاً، يسمع وصاياهم وهلوساتهم وارتعاشات أجسادهم ليل نهار، ساهراً فوق رؤوسهم، يعطيهم الأمل ، يبكي معهم، يضحك معهم، يسرد لهم الحكايات، يأخذهم إلى عالم الأمنيات، يخرجهم نفسياً من شقوق الجدران إلى عالم الفضاء الواسع، يسرد القصص للأطفال المرضى، للجرحى والمصابين، يعطيهم الأدوية، يمسح دماءهم ويعالجهم، وكان عليه أن يكون الأسير والطبيب والمعالج نفسياً في آن واحد، وهو يقول لم أر أحداً يأتي إلى هذا المسلخ، لا لجان أممية ولا لجان تحقيق ولا حتى مؤسسات صحية عالمية، ففي عيادة الرملة العلاجات التي تقدم هي في نطاق التجريب السريري، الحد الأدنى المطلوب من الطبابة والدواء التي تحافظ على الهيكل فارغاً، فتسلب الجسد عافيته وتدمر النفس والروح.

الأسير راتب حريبات في وسط المعاقين والمشلولين والمبتورة أطرافهم، ولم تعد أمنية الأسير المعاق والمصاب منصور موقدة هي الإفراج ونيل الحرية، أمنيته أن يستطيع الذهاب إلى الحمام لقضاء حاجته، ويسمع راتب حديث تلك الهياكل العظمية بأنها تتمنى بعد الموت أن لا تحتجز في الثلاجات ومقابر الأرقام، إلى هذا الحد وصلت كل الأماني التي تقلصت بتقلص وتلاشي الجسد وغياب العدالة الإنسانية.

الأسير راتب شاهد بأم عينيه كيف بترت أجساد الأسرى قطعة قطعة وانتشرت الدماء وتعلو الصرخات كما حصل مع الأسير ناهض الأقرع مبتور القدمين، ومع الأسير الطفل جلال شراونة، وشاهد كيف جرت عملية نزع البراغي الحديدية من أقدام الأسير الجريح ممدوح عمرو دون تخديره وإعطائه البنج حتى فقد الوعي، فعلى أجساد هؤلاء تجري مجزرة وتجارب جراحية وبأساليب متعددة، والأوجاع والآلام التي يحملها الأسرى المرضى في ما يسمى عيادة الرملة لو وضعتها على جبل لن يتحملها هذا الجبل كما يقول راتب.

لماذا لا أرى الأبيض؟ دولة فاشية عنصرية تشرع قوانين لإعدام الأسرى ومنع تقديم العلاجات لهم، فالأسير خالد الشاويش المصاب بالشلل عبارة عن كتلة بشرية كبيرة مجبولة على المعاناة والصبر، تترجم بصرخات يومية مفزعة في هذه المقصلة الطبية التي غاب منها اللون الأبيض، وتحولت الجدران والقلوب إلى لون الرماد، وقد تحول راتب في هذه الأجواء إلى الأب والأم والصديق والطبيب والمدافع عن حقهم بالعلاج، المشتبك يومياً مع إدارة السجن ومع الأطباء من أجل وقف هذا النزيف وهذه المقصلة التي تغتال الأسرى بلا رحمة.

كتاب لماذا لا أرى الأبيض، يروي تفاصيل التفاصيل عن حياة المئات من الأسرى المرضى والشهداء والأحياء، هو ليس فقط وثيقة ومرافعة طبية حية تدين جرائم الاحتلال، وإنما هو صرخة فلسطينية وطنية إنسانية لوضع حد لهذه المأساة التي تجري هناك في المكان الأشد ظلمة، حيث يذبح مناضلونا ببطء على يد حكومة الاحتلال، تستأصل أرواحهم وتحطم أجسادهم في ظل الصمت المريب والعجز الدولي وغياب التدخل الفعلي لإنقاذ أسرانا المرضى، ومحاكمة هؤلاء المجرمون الذين حولوا السجون إلى مكان لزراعة الموت في أجساد الأسرى وإزهاق أرواحهم دون أي رادع أو سؤال.

الأسير راتب حريبات هو حارس الحياة، بذل جهوداً عظيمة لحماية الأسرى نفسياً وجسدياً، ودافع عن حقوقهم بكل ما يملك، ولو ملكنا ما يملكه هذا الأسير من إرادة وانتماء وتقديس للقيمة الإنسانية لاستطعنا أن نرى الأبيض ويرى الأسرى المرضى فجر الحرية والشفاء ولا يظلوا رهينة تحت رحمة هؤلاء الطغاة، فالموت الحقيقي هو موت الثقافة والإرادة.
لماذا لا أرى الأبيض؟ هو سؤال الشاعر محمود درويش:

ماذا جنينا نحن يا أماه

حتى نموت مرتين

فمرة نموت في الحياة

ومرة نموت عند الموت.

دلالات

شارك برأيك

ملحمة الحياة والموت في سجون الاحتلال

المزيد في أقلام وأراء

سيادة العراق ولبنان في خندق واحد

كريستين حنا نصر

إسرائيل ترفع وتيرة قتل الفلسطينيين

حديث القدس

توفير الحماية العاجلة والفورية لأطفال فلسطين

سري القدوة

حقائق حول انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وصولاً لمذكرات الاعتقال

د. دلال صائب عريقات

سموتريتش

بهاء رحال

مبادرة حمساوية

حمادة فراعنة

Google تدعم الباحثين بالذكاء الاصطناعي: إضافة جديدة تغيّر قواعد اللعبة

بقلم :صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي

التعاون بين شركة أقلمة والجامعات الفلسطينية: الجامعة العربية الأمريكية نموذجاً

بقلم: د فائق عويس.. المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أقلمة

أهمية البيانات العربية في الذكاء الاصطناعي

بقلم: عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي

ويسألونك...؟

ابراهيم ملحم

الحرب على غزة تدخل عامها الثاني وسط توسّع العمليات العسكرية الإسرائيلية في الجبهة الشمالية

منير الغول

ترامب المُقامر بِحُلته السياسية

آمنة مضر النواتي

نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي

حديث القدس

مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً

جواد العناني

سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن

أسعد عبد الرحمن

جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية

مروان أميل طوباسي

الضـم ليس قـدراً !!

نبهان خريشة

دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة

معروف الرفاعي

الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا

حديث القدس

من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها

أحمد لطفي شاهين

أسعار العملات

السّبت 23 نوفمبر 2024 10:34 صباحًا

دولار / شيكل

بيع 3.7

شراء 3.69

دينار / شيكل

بيع 5.24

شراء 5.22

يورو / شيكل

بيع 3.85

شراء 3.83

هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟

%53

%47

(مجموع المصوتين 95)