أقلام وأراء
السّبت 29 يوليو 2023 9:33 صباحًا - بتوقيت القدس
أهمية القيادة التربوية داخل السّجن
ما أن شُرّعت أبواب السّجون والمعتقلات الاسرائيلية في وجه الثّوار والمقاومين الفلسطينيين وتكاثفت أعدادهم حتى غدَت السّجون تكتلات بشرية بمثابة جماعات متقاربة الأعداد، وانخلقت فيها حيوات مشتركة لها متطلّبات وفروض تشبه إلى حدّ كبير متطلبات وفروض أي جماعة بشرية تحيا في نطاق جغرافي معيّن ، وأدنى متطلبات هذه الجماعة أن يكون لها رأس ومن حوله بِطانة و سَدنة مهمتها الأساسية إدارة شؤون هذه الجماعة و الوقوف على حاجياتها كبيرها وصغيرها ، وفي حال جماعات السجون (الحركة الأسيرة) ما كان لمتطلبات هذه الجماعة وفروضها أن تتحقق بمستواها المطلوب وما كان لها أنْ تَسري على الشركاء بشكل منتظم في أجواء فوضوية لا سُراة فيها، وما كان لها أن تجعل من واقع السجون واقعاً محتملاً وممكناً إن هي غابت أو غُيّبت عنه بقصد فتُرِك سائباً همَلاً .. لذلك كان لا بدّ من فرز قيادة منظّمة ومنتخَبة تحكم هذا الواقع وتدبّر شؤونه وتفرض عليه نوعاً من العدالة الجماعية "الاجتماعية" والمساواة من خلال قوانين وضوابط يشتملها وثائق ولوائح داخلية أُعِدّت من قبل مفكّرين وقيادات سياسية وثورية آلَ بهم زمنهم إلى الأسر، فصارت هذه الوثائق محلّ توافق وقبول بين مجاميع الأسرى وهي في ذات الوقت تشغل دستوراً وعقداً اجتماعياً بين الأسرى (قيادة وجمعيات عمومية) .
ومن الممكن قولُه : إن كانت "قيادة" المجتمعات ضرورية وهامّة من أجل إدارة شؤون تلك المجتمعات ، فإن "قيادة" السجون من الضرورة بمكان لا تقلّ عنه في أيّ مجتمعٍ آخر بل أظنّها تزيد عليها أهميةً وضرورة بحكم واقع السجون القهري والقسري والمحكوم بقانون استعماري دائب العمل على النَّيل من تلك الجماعات والتنكيل بها من خلال التّفريق والاستفراد بأفرادها ، أمام هذا الواقع الجبريّ كانت الحاجةُ كبيرةً إلى قيادةٍ قادرة على أداء أدوارِها ومُستعدّة لتحمّل أعباء وواجبات هذا الواقع.
وبمرور السّنين والعقود التي كرّت على هذه السّجون وطُولِ أمدِ الأسرى في رَسْف القيد من غير تحرير، تطوّرت تلك "القيادة" وتخالف أشكالها وتنوعت صورها مِن وقتٍ لآخر ومن تنظيمِ إلى تنظيمٍ آخر، كُلٌّ حسب توجّهاته السّياسية وخلفياته الفِكرية ومرجعياته الأيدولوجية ، إلّا أنّها في عمومها وفي غالب زمانها وطبيعة مكانها وأحوالها لم تشذّ عن أُصول الفكرة التي انبثقت لأجلها ألا وهي إدارة الأسير بذاته وتدبير شؤونه اليومية داخل حبسه ، وفي آحايين أُخرى كان لهذه القيادة انشغالها واهتمامها بشأنه الخارجي "التنظيمي والاجتماعي والمادّي والتّربوي" ، وقد اشتركت كافة قيادات التّنظيمات الاعتقالية بهذا الشّأن - وإنْ كان بطرائق وأساليب واهتمامات متفاوتة - ويمكن أنْ يُقال أنّ تنظيم (حماس) قد سبَق غيره في بعض المجالات بحكم سَبقهِ إلى تشكيل قيادة عُليا سُمّيت فيما بعد "هيئة عُليا" كان من أولى اهتماماتها ومهامّها التحدّث باسم أسراها ونقل حوائجهم وطموحاتهم ورغباتهم إلى تنظيمهم الأُمّ خارج السجون ، إلى جانب ضبط إيقاع كافّة المواقع الاعتقالية في مواجهة السجّان ، ووضع آليات وأساليب موحّدة ومُحكَمة تمكّن الفرد الأسير من التعامل مع ظروف السجن القاسية .
من خلال ما عرضنا وغيره الكثير جاءت فكرة خَلق قيادات وتشكيل تنظيمات عملية وإدارية داخل معتقلات وسجون الاحتلال كانت لها أهمية بالغة على المستوى العام، ولكن أهميتها على المستوى التربوي فهي قد تكون الأبلغ والأكثر متطلباً ، وتكمن هذه الأهمية الملحّة والحثّية على إيجادها وفرزها في طبيعة هذا المحتلّ المتغوّلة والمستعرة بشكل همجي لا يفرق بين أولئك الذين يزجّ بهم في سجونه ولم يفرزهم بحسب هوياتهم التربوية أو مستوياتهم الثقافية أو العلمية ؛ فبنظرةٍ سريعة ترى الطبيب والمهندس والمعلم يتشاركون نفس القاووش أو العنبر أو الحجرة مع العامّي الذي لا يقرأ ولا يكتب ومع البدائي صاحب الطبائع الخشنة ، لكنّهم جميعهم سواء في لباس الثّورة ومشربها .. كلٌّ هبّ وفيّاً لنداءِ وطنه فساروا على ذات الدّرب ، ولمّا غدوا أسارى سكنوا ذات المكان على متن ذات الزّمن وانحكموا جميعاً بذات الأفق والأمل ، وأمام هذه الصورة المختلطة سائحة الألوان ومتفاوتة الأبعاد كان لا بدّ من حضور "القيادة التربوية" وإبراز دورها التّربوي وكيفيّة تفعيله وآلية تمريره في تخوم هذه الشّريحة متنوعة الصّفات والطّبائع وما فيها من فوارق ثقافية ومعرفية وأخلاقية وقيَمية كثيرة وواسعة، وبما فيها من اغترابٍ عن أُصول الطّبائع المُجتمعية التي رُبّيت عليها كلّ شخصية من شخصيات تلك الشّريحة الاعتقالية ، ففي كلّ واقعٍ اعتقاليّ قهري ومنغّص ومرير يتساوى ساكنوه مهما تنافرت طبائعهم وتباعدت مُسمّياتهم وإمكانياتهم ؛ فكلّهم غرباء دُخلاء على واقعهم القسري الخارج عن الطبيعة الكونية ، وكلّهم بحاجة إلى قيادة تربوية مُوجِّهة تُساعدهم على تخطّي مِحن واقعهم وصعوباته، وهنا تأتي أهمية القيادة التربوية ؛ فالقائد بشكل فردي مُتمثّل في شخص القائد ذاته أو بشكل جماعي متمثل في شخص التنظيم ولجانه المُنتخَبة يكون دوره الأخذ بيَد السّجين (الأسير) منذ اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدماه أرض السّجن ، فيَهمس وراء أُذنيه بالمسموحات وبالممنوعات وما هي المندوبات وما هي المُحرّمات ، وما أُحلّ له وما حُرّم عليه وما هو المناسب واللائق ، وما هو ضدّها وما هي الكيفية التي يتم التعاطي بها مع كلّ واحدة من تلك المفردات ، ثمّ ينتقل به إلى مكان وتفاصيل الحياة الاعتقالية المشتركة وامكانيات التكيّف مع ظروفها والانخراط في حيثياتها وواجب الخضوع لمجرياتها تَمثّلاً لجريان السّيل في وادٍ وَعر مملوءٍ بالصّخور الصّغيرة منها والكبيرة ؛ فيمُرّ من غير توقّف أو تحوّل عن مجراه لكنْ من دون أن يجرفَ تلك الصّخور أو يُذيبها.
ثمّ تأتي أهمية القيادة التربوية في قدرتها على بثّ روح التكيّف الاعتقالي في صدورِ كلّ مُعتقَل يصدِمه واقع السّجن وتكمن أهميتها في مقدرتها على إحياء الميت من الهِمَم وإشفاء سَقيمها ومعالجته ليبقى على مستوى ثورته وقضيته ، إضافة إلى القيامِ بترميم الكثير من القيَم المُنصدعة في صدور العديدين لأسبابٍ تخالَفت وتباينت بين ذواتِ الأسرى، ولا نغفل أهمية القيادة التربوية في إعادة صقل الذّات الثورية التي اعتراها هَمّ الاعتقال وأثقَلَها وَطء التّحقيق وقَسوته وأعياها طُول الدّرب المُقاوِم وكؤودته؛ فالعديد من الثّوار المقاومين شابَتهم الهَزيمة النّفسية واعتوَرَتهم المَيائس من الوصول ؛ فانهزموا وخارت هممهم فكانت القيادة التربوية لهم بمثابة المُنقذ من التدهور والانسحاق الحتمي.
يُضاف إلى ما سَبق ، ما تقدّمه القيادة التربوية على مستوى الجماعة والأفراد في بلوَرَة رؤى جديدة ذات صوابية عالية على مستوى قضية الصّراع الفلسطيني الاسرائيلي وتِبيان أسبابه وجذوره التاريخية والسياسية والدينية ، وفي الغضون أيضاً تُقرّر تربوياً وتُثبت الرّواية الفلسطينية وتنتزع ما شابها من شوائب في عقول أبناء الثورة والمقاومة ، وفي مقابل ذلك تعمل جاهدة على كشف حقيقة الرّواية الصّهيونية وما حَوَتهُ من أكاذيب وأباطيل مُفتراة أتخَمت العقل الإنساني الحاضر وحرّفت طريقة تفكيره وحُكمه على الأمور والشأن المتعلّق بالقضية الفلسطينية في كافة أحوالها، كما أنّ القيادة التربوية لم تُغفل المستوى التثقيفي والمَعرفي والعلمي والأخلاقي لأبناء الثورة والمقاومة فقامَت بعَمل مَسح شامل على كافّة هذه المستويات ووضعَت خُططها التربوية والتعليمية المَنهجية وبما يَسمح به واقع السّجن للنهوض بهذه المستويات في ذات أصحابها، وذلك من خلال برامج يومية وأسبوعية وشهرية تُعطى وتُدرّس في حلقات أو صفوف أو بالانتساب عن بُعد مما فاد في الحصول على تغذية راجعة مَلحوظة ، فقد نتجت الكثير من الهامات والقامات المعرفية والأدبية والثقافية والفنية لم تكن في سابِق عهدها تُعَدّ لا في عِير القوم ولا في نَفيرهم بل كثيرٌ منها كان يحيى ويموتُ في العدم .
وأخيراً فقد كان من هامّيات القيادة التربوية أن جاءَت بالعِلم الأكاديمي إلى السجون وطوّعت الكثير من جامعات الوطن على قبول الدّخول إلى المُعتقلات والسّجون، ومنح الأسرى فُرص الحصول على المعرفة والعلوم الأكاديمية والتمرّس والنبوغ في مجالاتها والحصول على شهادات ودرجات عُليا شُهِد لها مِن قِبل أساطير العلم وأستاذة الجامعات والمعاهد ، وقد ثبتت عبقريتهم قياساً مع مَن تتلمذوا في حَرَمات الجامعات وجلسوا فوق مدرجاتها وذلك عندما حُرِّر البعض منهم وغامروا في تجربة خوض السّلك التعليمي والتدريسي على مستوى جامعات الوطن ومَعاهِده .
وخِتاماً لا بدّ من الإقرار بأنّ أهمية القيادة التربوية في سجون الاحتلال نوقشت كثيراً وما زالت محلّ بحثٍ ودراسة، وهذا من الهام جداً من أجل الرّقيّ بها وتطوير أساليبها وأدواتها لتعود بالنفع على الأسير ذاته ومن ثمّ على المجتمع الفلسطيني ومكوّناته المختلفة والمتشابكة .
*سجن نفحة / قسم 12
دلالات
المزيد في أقلام وأراء
سيادة العراق ولبنان في خندق واحد
كريستين حنا نصر
إسرائيل ترفع وتيرة قتل الفلسطينيين
حديث القدس
توفير الحماية العاجلة والفورية لأطفال فلسطين
سري القدوة
حقائق حول انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية وصولاً لمذكرات الاعتقال
د. دلال صائب عريقات
سموتريتش
بهاء رحال
مبادرة حمساوية
حمادة فراعنة
Google تدعم الباحثين بالذكاء الاصطناعي: إضافة جديدة تغيّر قواعد اللعبة
بقلم :صدقي ابوضهير باحث ومستشار بالاعلام والتسويق الرقمي
التعاون بين شركة أقلمة والجامعات الفلسطينية: الجامعة العربية الأمريكية نموذجاً
بقلم: د فائق عويس.. المؤسس والمدير التنفيذي لشركة أقلمة
أهمية البيانات العربية في الذكاء الاصطناعي
بقلم: عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي
ويسألونك...؟
ابراهيم ملحم
الحرب على غزة تدخل عامها الثاني وسط توسّع العمليات العسكرية الإسرائيلية في الجبهة الشمالية
منير الغول
ترامب المُقامر بِحُلته السياسية
آمنة مضر النواتي
نعم لملاحقة مجرمي الحرب وتسليمهم للقضاء الدولي
حديث القدس
مآلات سياسة ترامب الاقتصادية أميركياً وعربياً
جواد العناني
سيناريوهات ثلاثة: أحلاها مر... ولكن
أسعد عبد الرحمن
جنوب لبنان وغزة بين جدلية وحدة الجبهات والاستقلالية التكتيكية
مروان أميل طوباسي
الضـم ليس قـدراً !!
نبهان خريشة
دور رجال الإصلاح وزعماء العشائر في تعزيز السلم الأهلي والحاجة الملحة لضرورة تشكيل مجلس للسلم الأهلي في المحافظة
معروف الرفاعي
الفيتو الأمريكي: شراكة حقيقية في حرب إبادة شعبنا
حديث القدس
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أحمد لطفي شاهين
الأكثر تعليقاً
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
اللواء محمد الدعاجنة قائداً للحرس الرئاسي
زعيمة حركة استيطانية تدخل غزة بدون علم الجيش لإعادة الاستيطان
"الجنائية" تتحرك أخيراً ضد الجُناة.. قِيَم العدالة في "ميزان العدالة"
هولندا: سنعتقل نتنياهو تنفيذا لقرار المحكمة الجنائية الدولية
الاحتلال يسلم ذوي الشهيد مهند العسود أمرا بهدم منزله في بلدة إذنا
الأكثر قراءة
نتنياهو و"الليكود" يتربصان بغالانت لفصله من الحزب وإجباره على التقاعد
لائحة اتهام إسرائيلية ضد 3 فلسطينيين بزعم التخطيط لاغتيال بن غفير ونجله
ماذا يترتب على إصدار "الجنائية الدولية" مذكرتي اعتقال ضد نتنياهو وغالانت؟
نتنياهو يقمع معارضيه.. "إمبراطورية اليمين" تتحكم بمستقبل إسرائيل
الكونغرس يقر قانون يفرض قيودا صارمة على المنظمات غير الربحية المؤيدة للفلسطينيين
خلال مؤتمر "مفتاح".. إنهاء الانقسام ووضوح العلاقة بين المنظمة والسلطة
من فلسطين.. شكراً للجزائر قدوة الأحرار.. وشكرا لإعلامها
أسعار العملات
السّبت 23 نوفمبر 2024 10:34 صباحًا
دولار / شيكل
بيع 3.7
شراء 3.69
دينار / شيكل
بيع 5.24
شراء 5.22
يورو / شيكل
بيع 3.85
شراء 3.83
هل تنجح المساعي الإسرائيلية لضم الضفة الغربية في 2025؟
%53
%47
(مجموع المصوتين 95)
شارك برأيك
أهمية القيادة التربوية داخل السّجن